أحدثت تصريحات نائب رئيس الحكومة اللبنانية، سعادة الشامي، هزّة عنيفة في الوسط السياسي والمالي في لبنان بعد إعلانه الصريح في مقابلة تلفزيونية أن الدولة أفلست وأن المصرف المركزي اللبناني أفلس.
وعمّقت هذه التصريحات الأزمة الحياتية التي يعيشها لبنان منذة قرابة عامَين، وأرخت بثقلها على كاهل المواطنين الذين يعانون الأمرَّين من أجل الحصول على لقمة العيش والاستمرار حيث بلغ التضخّم مستويات متقدّمة، كما بلغ الانهيار مستويات بات الجميع يحذّر ممّا يسمّونه الارتطام الكبير.
فقد أعلن نائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، في مقابلة تلفزيونية عن إفلاس الدولة، وقال: “للأسف الدولة مفلسة وكذلك مصرف لبنان، ونريد أن نخرج بنتيجة، والخسارة وقعت بسبب سياسات لعقود، وإن لم نفعل شيئًا ستكون الخسارة أكبر بكثير”.
وأشار الشامي إلى خطوات لا بدَّ من القيام بها في المرحلة الحالية لتخفيف أو لتأخير الارتطام الكبير، وقال: “هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن أن نعيش في حالة إنكار ولا يمكن أن نفتح السحوبات المصرفية لكل الناس، ولو أتمنى ذلك إن كنا في حالة طبيعية”.
وكشف الشامي أن المفاوضات التي تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي مستمرة ومتواصلة، وهي للمرّة الأولى تكون بهذا المستوى وهذا التقدّم، وقال: “نحن في خضمّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعلى اتصال يومي مع صندوق النقد، ولأول مرة تأتي هذه البعثة الكبيرة وقد أحرزنا تقدمًا كبيرًا بمفاوضات صندوق النقد الدولي”.
الإفلاس لم يُعلن بعد بشكل رسمي لأن هذا الإعلان الرسمي هو من اختصاص مجلس الوزراء مجتمعًا، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي ما زالت مستمرة
يرى الخبراء أن إعلان إفلاس الدولة يعني عجزها عن الوفاء بديونها، وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها المالية الأخرى مثل دفع الرواتب والأجور ودفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع.
وفي مثل هذا الوضع تكون الدولة ضعيفة ماليًّا، لا تستطيع تسيير الأمور الاقتصادية والاجتماعية، أو ما يُعرف اقتصاديًّا بـ”الأزمة في ميزان المدفوعات”، وهو ما يُلحق بعملتها انهيارًا كبيرًا، غير أن شيئًا من ذلك أو من بعضه لم يحصل بعد في لبنان، خاصة لناحية دفع الرواتب للقطاع العام، أو دفع ما تستورده حاليًّا، وإن كان الميزان يميل إلى تقلُّص قدرة الدولة على دفع ما تستورد يومًا بعد يوم.
هذا فضلًا عن أن إعلان الإفلاس يتبعه بالعادة هزة اقتصادية قوية على الصعيد المحلي، حيث يندفع المستثمرون وأصحاب المدخرات لسحب أموالهم من الحسابات المصرفية ونقلها خارج البلاد، ومن أجل تجنُّب ذلك تقوم بعض الحكومات بإغلاق البنوك وفرض قيود على حركة رؤوس الأموال، وهذا ما هو معمول به في لبنان منذ فترة ليست بسيطة، حيث عمدت الحكومة والمصرف المركزي إلى تقنين السحوبات من المصارف بشكل كبير، ووضعت حدودًا لما هو مسموح به.
على أن لبنان لم يُعلن إفلاسه بشكل رسمي بعد، لأن الإعلان الرسمي هو من اختصاص مجلس الوزراء مجتمعًا، وما يؤخره -ربما- هو أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ما زالت مستمرة، وأن الدولة ما زالت تقوم بواجبها في العديد من المستويات المطلوبة منها.
وبالتالي إن ما قاله نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي لا يعكس موقف مجلس الوزراء الرسمي، إنما يعبِّر عن موقف شخصي له، وهو من باب جرس الإنذار لأن الجميع يدرك حجم الأزمة وسرعة الانحدار، وبالتالي يدرك أن الارتطام قادم إذا لم يتمَّ تدارك الأمر بشكل سريع.
من جهته، رأى الخبير الاقتصادي اللبناني، إيلي يشوعي، أن إعلان نائب رئيس الحكومة إفلاس الدولة لم يكن مفاجئًا في ظل الواقع الاقتصادي الذي يعيشه لبنان، وفي ظل الانهيار الحاصل معيشيًّا وحياتيًّا مع غياب الحلول، وأضاف أن الحل يبدأ بتحديد المسؤول عن الفجوة المالية وليس بوضع موازنة تقوم على الضرائب، في إشارة إلى الموازنة الأخيرة التي أقرّتها الحكومة للعام 2022 ولم يناقشها المجلس النيابي بعد.
بدوره يتّفق الأكاديمي والخبير الاقتصادي محمد موسى مع الأستاذ يشوعي من ناحية إفلاس الدولة، وأشار لـ”نون بوست” إلى أن الجميع يعرف ذلك في الغرف المغلقة ولكنّ أحدًا لم يخرج على الإعلام به، وذكّر موسى بموقف للبطريرك الماروني بشارة الراعي الذي أشار إلى إفلاس الدولة منذ عام 2018.
غير أن موسى استبعد أن تذهب الدولة إلى إعلان الإفلاس الرسمي، وأشار إلى أن ما جاء على لسان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي يقع في إطار التجاذب السياسي في البلد، لا سيما بين الرئاسة الأولى (الجمهورية) والرئاسة الثانية (المجلس النيابي)، وبين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة (الحكومة).
كما أشار موسى إلى أن هناك حاجة للاتّفاق مع صندوق النقد الدولي يشمل إصلاح الكهرباء وإعادة هيكلة المصارف، واعتماد سياسات مالية جديدة تقوم بها الحكومة ويخضع لها المصرف المركزي، وإعداد موازنات مالية تراجع كل ما جرى سابقًا وتقوم على التوازن بين التقشّف والإنفاق، وإعادة تسوية وهيكلة الدين العام للدولة.
وأشار موسى أيضًا إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد نوعًا من التراجع في التقديمات الاجتماعية والصحية، وهي بدورها ستضاعف وتزيد الفقر في لبنان، مشيرًا إلى أن الحل الوحيد المتوفر حاليًّا هو في الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاتفاق مع الصندوق قبل نحو عام ونصف كان أفضل بكثير من الآن، لأن مالية الدولة اُستنزفت.
وأكّد موسى أنّ العبرة تبقى في توزيع الفجوة المالية بنِسَب معقولة لا تحمِّل المواطنين العبء الأكبر، مشيرًا في هذا السياق إلى أن المصارف يجب أن تتحمّل الجزء الأكبر، حيث ارتفع رأسمالها خلال 30 عامًا من 200 مليون دولار إلى 22 مليار دولار.
الحلّ يبدأ بتحديد المسؤول عن الفجوة المالية وليس بوضع موازنة تقوم على الضرائب
يُشار إلى أن هناك اعتقادًا لدى الكثير من اللبنانيين أن حلّ الأزمة الاقتصادية والحياتية يتّصل باستجابة لبنان لشروط صندوق النقد الدولي، والتي في أولويتها غير المعلنة مسألة ترسيم الحدود البحرية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، والتي حمل العديد من المقترحات بشأنها الوسيط الأمريكي إلى لبنان، وما زالت إلى الآن عالقة عند موافقة وقبول بعض القوى السياسية وفي مقدمتها حزب الله.
وفي هذا السياق قال الكاتب الصحفي بسّام غنّوم لـ”نون بوست”: “يأتي إعلان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إفلاس الدولة والمصرف المركزي في إطار الضغوط التي تفرضها الحكومة اللبنانية على النواب والمجلس النيابي، من أجل إقرار قانون “الكابيتال كنترول” الذي أقرّته الحكومة مؤخرًا، والذي يرفضه أكثرية النواب”.
ويكمل غنّوم: “وأيضًا هذه محاولة مكشوفة لتمرير الاتفاق مع صندوق النقد الدولي تحت مسمّى خطة الحكومة للتعافي والإنقاذ المالي التي عليها اعتراضات كثيرة، ويرتبط هذا الموقف أيضًا بموضوع ترسيم الحدود البحرية الذي يدخل ضمن الشروط الأمريكية لمساعدة لبنان من قبل صندوق النقد الدولي، والذي يؤيّده الرئيس عون والنائب جبران باسيل ويرفضه الرئيس نبيه بري، وللأسف يدفع اللبنانيون مجددًا ثمن صراع أهل السلطة من مستقبلهم ومستقبل أبنائهم”.
من ناحية أخرى، يعيش اللبنانيون حالة الإفلاس قبل أن يتحدث عنها نائب رئيس الحكومة من خلال الغلاء الذي اجتاح الأسواق اللبنانية، شاملًا معظم السلع والمواد، والذي أرهق اللبنانيين ودفع إلى موجات هجرة منظَّمة وغير منظَّمة تجري بعيدًا عن الكاميرات والأعين.
كما أنّ هذا الإعلان يمكن أن يشكّل مدخلًا أو سببًا لتأجيل الانتخابات النيابية، التي من المقرر أن تجري في 15 مايو/ أيار المقبل.