يتجول الحاج أبو محمد ذو الـ64 عامًا على عكازه وسط الخيام في صحراء قاحلة يُخيّل للرائي أنها أتت من مقطع تصويري لفيلم سينمائي، لكن هذه الصور تأتي من مخيم الركبان، هذا المكان المنسي والبعيد عن مظاهر الحياة التي اعتدناها، فيما مضى لم يكن أبو محمد وحيدًا، فقد كانت عائلته تطوق عنقه في منزله قبل أن يشن بشار الأسد حربه على الشعب السوري ويشرد الملايين ويقتل الآلاف.
هرب أبو محمد عام 2015 إلى مخيم الركبان مع عائلته، خوفًا من الموت، لم يكونوا عازمين على البقاء في هذا المخيم إنما كان محطة في طريقهم إلى الأردن، ومن ثم تحول الانتظار إلى إقامة دائمة مع تعذر الدخول إلى البلد الجارة، بنى الحاج الستيني خيمةً ما لبثت أن تحولت إلى مسكن طيني ليتناسب مع الظروف البيئية الصحراوية الباردة شتاءً والحارة جدًا في الصيف.
شهامة أبو محمد دفعته لأن يستدين المال ويخرج أولاده إلى مناطق الشمال السوري، حيث تعتبر تلك المناطق جيدة بالنسبة لما يعيشه أهالي الركبان، ظل هو وزوجته وحيدين حتى استطاع تأمين مبلغ مالي ليخرج زوجته فقط وتلحق بأولادها في مناطق الشمال ويبقى وحيدًا بين عواصف الصحراء ووحشتها، والآن يرسل أولاد أبو محمد بعض المال الذي يجنونه لأبيهم لكي يأكل ويشرب، وتتألف وجبته اليومية من بيضتين وقطعة بندورة وخبز حال وجد.
يروي موقع “مشاهد سورية” قصة الحاج أبو محمد وآخرين من الناس العالقين في مخيم الركبان الذي بات شاهدًا على الفقر والجوع وسوء الأحوال الإنسانية في ظل غياب عالمي ودولي عن علاج ما يحصل هناك. يروي أبو محمد أنه قديمًا تعرض لحادث منعه من المشي بشكل جيد لذلك لا يستطيع أن يخدم نفسه جيدًا، كما أنه يعاني من أمراض في عينيه وهو بحاجة إلى جراحة، لكن الوضع الصحي في هذا المخيم سيئ للغاية.
يقول أبو محمد: “مخيم الركبان في الصحراء، الطبيعة هنا بخيلة جدًا، لا أشجار نحتطبها للمواقد من أجل الطهي والتدفئة، نستخدم للحرق مواد من النايلون والإطارات المطاطية، تسبب دخان هذه المواد بضرر جسيم للعائلة، خاصة زوجتي، لا توجد كهرباء، أستخدم ضوء الولاعة ليلًا، وأحاول النوم باكرًا، لولا أنني أظل أتخيل في العتمة حياتي، كان عندي بيت وعائلة، كانت حياتنا جميلة، لم أكن أتخيل حتى في أكثر الكوابيس سوءًا أن ينتهي بي الحال إلى هذا. وفي كل ليلة أسأل نفسي: هل سأموت وحيدًا وأدفن هنا في الصحراء؟”.
مخيم الركبان
تكثر المخيمات في سوريا، فمنذ بدأ بشار الأسد حربه على السوريين وعمل على تهجيرهم وتشريدهم باتت المخيمات أمرًا واقعًا حتى أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من التركيبة السورية، إذ يقطن الملايين في هذه المخيمات المتوزعة على جميع أماكن البلاد، ولعل “مخيم الركبان” يعدّ مثالًا بارزًا للبؤس الذي يعتري النازحين وللحياة الصعبة التي يفقد فيها السوريون القاطنون فيه أدنى الحقوق الإنسانية.
يقع المخيم على الحدود السورية الأردنية في منطقة الركبان وهي منطقة نائية قاحلة تقع في بادية الشام، وفي عام 2013 بدأت تتحول المنطقة إلى نقطة نزوح وباتت في عام 2015 منطقةً مأهولةً وذلك بعد أن أغلق الأردن حدوده بوجه اللاجئين من سوريا القادمين من مناطق ريف حمص وبلدات البادية السورية، لتصبح المنطقة تجمعًا سكانيًا، وأطلق عليها السكان “مخيم الموت”، وتمتد إلى 7 كيلومترات.
يقع المخيم ضمن منطقة يُطلق عليها اسم “منطقة الـ55″، وتقع تحت رعاية التحالف الدولي الذي أُسس لقتال تنظيم “داعش”، وتتمركز قوات التحالف في قاعدة التنف التي تبعد نحو 17 كيلومترًا عن المخيم، أما عن تسميتها بمنطقة الـ”55” فهي مساحة المنطقة التي أعلنت فيها قوات التحالف عدم السماح لقوات النظام وحلفائها بدخولها أو الاقتراب منها.
بعد تمدد تنظيم “داعش” عام 2014 في العديد من الأراضي السورية، اشتدت موجة النزوح باتجاه الأردن، ما جعل دخول النازحين إلى الأردن يتباطأ بسبب كثرة أعداد المارين من هناك، ومع استمرار توافد النازحين، بدأت الأمم المتحدة الاستجابة للناس هناك بتقديم وجبات طعام وخيام مؤقتة استخدمها النازحون في درء الحر والبرد عنهم كخيار مؤقت ريثما يستطيعون الدخول إلى الأردن.
مع التمدد الواسع لتنظيم “داعش” وسيطرته على مدن تدمر ومهين والقريتين، بدأت موجة نزوح جديدة إلى هذا المكان، وفي هذه الأوقات من عام 2015 توجه الناس وهم يحملون بعض المتاع إلى الركبان آملين أن يدخلوا الأردن، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن هذه الأرض ستصبح مقرًا لهم ومخيمًا لنزوحهم طويل الأجل، بدأت الخيام تُنصَب وسط الصحراء، وراح تَجمُّع النازحين المنتظرين يكبر ومدة الانتظار تطول، ووجد التُجّار في هذا التجمع المعزول فرصةً، وبدأوا بإحضار البضائع إلى المكان، للبيع أو المقايضة لمن لا يملك المال.
عام 2015، وفي ظل وضوح معالم المنطقة بأنها باتت مخيمًا للنازحين، بدأ الناس الموجدون ببعض الخيام يؤسسون عشوائيًا لسوق المخيم، فيما بدأت بعض السيارات المحملة بالبضائع تبيع لأهالي المخيم ما لديها من أدوات وسلع، في ذلك العام قدر عدد النازحين بنحو 70 ألف نازح، أيضًا بات الناس يتأقلمون على الوضع القائم، فأصبحوا يثبتون خيامهم ويدعمونها كما أن الأمم المتحدة بدأت بإرسال المساعدات الغذائية والسلال بدلًا من المساعدات الفورية، وأصبحت هذه المنطقة رسميًا مخيمًا للنازحين.
الشاب أحمد التدمري كان يقطن في مخيم الركبان إلا أنه خرج منه العام الماضي إلى مدينة أعزاز بريف حلب، تواصلنا معه في “نون بوست” ليروي لنا المآسي التي تحيط بأهالي المخيم كل يوم، يقول: “الناس يئسوا من هذا المخيم وباتت المعيشة فيه صعبةً ولا يمكن الاستمرار فيها”، مضيفًا: “بتنا في بقعة منسية لا يعرفها أحد، حتى عندما وصلت إلى أعزاز استغربت أن كثيرًا من السوريين لا يعرفون قصتنا”، ويشير إلى أنه عام 2016 بدأ الناس يدخلون إلى الأردن من هذا المخيم عبر مفوضية شؤون الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي كانت تسجل أسماء العوائل وتدخلهم خلال أسابيع.
ويروي أنه وعائلته سجلوا اسمهم لكن دورهم لم يأت، ما جعلهم يحسنون وضع خيمتهم خلال السنة الأولى وبعد ذلك بنوا بيتًا من الطين، وانتظروا مدة طويلة في ذلك الجحيم، ومن ثم قرروا الخروج إلى الشمال السوري بعد انعدام كل الوسائل التي تبقيهم على قيد الحياة، ويقول إن الكثير من العوائل التي ليس عليهم مشاكل أمنية في مناطق النظام عادوا إلى هناك.
ويشير الشاب إلى أن الناس ومع طول الانتظار بدأوا بإنشاء مدرسة للأطفال وجامع وكل ذلك بمواد بدائية من الطين والخشب، وفي حديثه أشار التدمري إلى أنه حينما خرج من المخيم كانت تلك المنطقة أشبه بنموذج القرى السورية النائية في خمسينيات القرن الماضي، حيث تضم خيامًا وبيوتًا طينيةً وطرقًا وعرةً دون كهرباء وبيوت خاوية من الماء و الغذاء، واليوم بات المخيم مكانًا للمأساة الإنسانية التي لا يمكن لأحد تخيلها.
الجدير بالذكر أن أوضاع العالقين في المخيم تدهورت بعد إعلان الأردن منتصف عام 2016، حدوده مع سوريا والعراق منطقة عسكرية مغلقة، إثر هجوم بسيارة مفخخة تبناها داعش واستهدف موقعًا عسكريًا أردنيًا كان يقدّم خدمات للاجئين، ومنذ ذلك الحين باتت المنطقة مغلقة والخروج منها يحتاج إلى المخاطرة.
حصار مستمر ومعاناة مأساوية
وفقًا لوكالة “الأناضول” التركية فإن قوات النظام السوري شددت الحصار على مخيم الركبان الذي يأوي أكثر من 10 آلاف مدني ومنعت دخول الاحتياجات الأساسية كالغذاء والأدوية وحليب الأطفال والوقود طيلة عشرة أيام، وذلك لإجبار أهالي المخيم على الهجرة وإنهاء ملف هذا المخيم، وبحسب الوكالة فإن الأفران الموجودة هناك اضطرت إلى “استخدام النخالة التي تُستخدم كعلف للحيوانات من أجل تلبية احتياجات سكان المخيم من الخبز”.
بدوره قال ينس لارك، المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأممي: “قوافل المساعدات الإنسانية لم تصل إلى المنطقة منذ سبتمبر/أيلول 2019″، مضيفًا “نشعر بالقلق حيال الأوضاع الإنسانية والظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها سكان المخيم البالغ عددهم نحو 10 آلاف و500”.
موضحًا أن أكثر من 20 ألفًا و700 فرد غادروا المخيم منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث تم تسكين 20 ألفًا و353 فردًا منهم في الملاجئ الجماعية بمدينة حمص السورية”.
عماد غالي الصحفي في شبكة ركبان نت وورك يقول في حديثه لـ”نون بوست”: “حصار مخيم الركبان هو حلقة في مسلسل الحصارات التي شنها نظام الأسد في سوريا على مناطق حمص والغوطة وحلب وغيرها من الأماكن”، ويضيف الصحفي المقيم في المخيم إلى أن “الحصار الأخير ليس الأول الذي يضربه نظام الأسد على المنطقة، نحن محاصرون منذ عام 2017 بشكل كامل”.
يشير الصحفي السوري إلى أن السيارت كانت تدخل إلى المخيم عبر السويداء وعبر مناطق التهريب الواسعة في منطقة الحماد السوري وهي بادية شاسعة لا يمكن السيطرة عليها كليًا، لكن النظام يعمل يوميًا على كشف هذه الطرق ومنع المرور منها إلى المخيم وإدخال البضائع.
أوضح غالي أن “ما يزيد الأزمة في المخيم ليس فقط تشديد الحصار، إنما تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على السلع الأساسية، إذ إن المهربين الذين يوصلون الطحين والزيت والسكر والأرز إلى المخيم من مناطق النظام باتوا يشترون المواد بأسعار غالية ويوصلونها بأثمان باهظة، وكذا فإن البائعين في المخيم يرفعون الأسعار وبذلك فقد أهالي المخيم القدرة الشرائية خاصة أن الكثير من السكان لا يملكون المال والدخل”، مشيرًا إلى أنه في الفترة الأخيرة اختفت مادة الطحين بشكل كامل عن المخيم.
صحفي مقيم بالمخيم: لا قوات التحالف الدولي استطاعت مساعدتنا بشكل واضح ولا الجانب الأردني يفعل شيئًا، والذهاب إلى مناطق سيطرة النظام مثل من يذهب إلى حتفه
وتشير المصادر إلى أن الخضراوات لم تصل إلى المخيم منذ ما يقرب الأسبوع، ولا يوجد في دكاكين المخيم إلا ما بقي من خضراوات تالفة وذابلة، وسط هذه الأسعار المرتفعة يجد قاطنو المخيم أنفسهم في حيرة لصناعة أطباق رمضان، بعد أن أسهم الحصار وطرق التهريب وجشع التجار في تضاعف ثمن المواد التموينية إلى المكان الذي يحول دون قدرة السكان على شرائها، خاصة أن متوسط الدخل في المخيم لا يكفي لشراء نصف لتر من الزيت، إن وجد.
بالنسبة للوضع الصحي في المخيم فإن الحالة مزرية، فلا يوجد أطباء ولا مراكز مؤهلة ولا صيدليات تستطيع أن تخدّم أهالي المنطقة، وبحسب غالي فإنه “لا يوجد عدد نقاط طبية مؤهلة ويعتمد المخيم على ممرضين يقومون بالعمل الطبي، بالتوازي مع ذلك يوجد فقدان لبعض الأدوية التي يحتاجها أصحاب الأمراض المزمنة مثل السكري والضغط”.
يذكر أن نقطة طبية واحدة دائمة توجد في المخيم وهي مركز الشام، وهي غير مؤهلة لإجراء العمليات الجراحية أو التعامل مع الحالات الطبية الحرجة جرّاء نقص الكوادر الطبية وافتقارها لأبسط المعدات الطبية، أضف إلى ذلك أن الأردن أغلق في 2020، النقطة الطبية الوحيدة التابعة له وتخدّم أهل المخيم ضمن إجراءاته للحد من انتشار فيروس كورونا.
مما سبق يتضح أن الحالة المأساوية التي تحل كل يوم بأهل مخيم الركبان تحتاج إلى حلول جذرية، لكن ليس واضحًا ما إذا كان أحدٌ يعمل من أجلهم، فوفقًا لعماد غالي: “لا نعرف من سيحل الوضع في مخيم الركبان، لا يوجد أي شيء واضح بشأن إنهاء هذه المحنة، لا قوات التحالف الدولي استطاعت مساعدتنا بشكل واضح ولا الجانب الأردني يفعل شيئًا، والذهاب إلى مناطق سيطرة النظام مثل من يذهب إلى حتفه، فحاليًّا لا يوجد حل بالأفق، ولا توجد أي إستراتيجية من الأطراف المعنية بالشأن السوري”.