تذكر الصور الواردة من كنيس بني توراة الإسرائيليين بالمذابح التي اُرتكبت بحق اليهود في أوروبا، لو أن إسرائيل استطاعت الانتقام لنفسها لكان الأمر يسيرًا، ولكن المشكلة تكمن في أنها لا تعرف كيف تفعل ذلك.
كتب الصلاة وشالات الصلاة التي تقطر دمًا، وبقع الدم تحت الرفوف التي تحتوي على الكتب المقدسة، ومقاعد الصلاة المتناثرة في كل مكان على الأرض، يصعب التفكير بصور محفورة في الذاكرة الجمعية لليهود أعمق من تلك الصور الواردة من مذبحة كنيس “بني توراة” في حي هار نوف في القدس يوم الثلاثاء، لقد انبعث التاريخ اليهودي من جديد في أكثر تجلياته إيلامًا.
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الصور، ظلت إسرائيل هادئة يوم أمس واليوم، لو أن مثل هذا الحدث وقع قبل عشرة أعوام لكان وقعه على البلاد مختلفًا تمامًا، للهث الناس وتداعوا إلى الانتقام، ولتردد صدى ذلك في كل مكان، لم تكن اللامبالاة هي سيدة الموقف من قتل أربعة مصلين وشرطي، إلا أن الحياة مضت قدمًا، لعل هوية الضحايا كان لها دور في ذلك: فاليهود المتدينون كانوا دائمًا يُنظر إليهم على أنهم أجانب، ولربما خلت جعبة إسرائيل من الإجابات، وخاصة تجاه الأحداث التي تجري في القدس.
لو أن مثل هذا الهجوم الدموي شن من الأراضي اللبنانية أو من قطاع غزة لكانت طائرات الـ إف ١٦ الآن عائدة من غارات قصف شنتها على مقرات حماس أو مقرات حزب الله، إلا أن الهجوم جاء من داخل القدس الشرقية، من منطقة تدعي إسرائيل أنها جزء لا يتجزأ من المدينة الموحدة، ومن غير المحتمل أن تلجأ إسرائيل إلى قصف عاصمتها.
أثناء عملية الجرف الواقي دعى “نفتالي بينيت”، أحد أعتى الوزراء الصقور، إلى أن يحتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، أما القدس، وهي المحتلة منذ 47 عامًا، فلا جدوى من إعادة احتلالها، وبذلك يصبح شن عملية عسكرية ضد مقترفي الهجوم أمرًا مستحيلاً بكل بساطة، رغم أنه في غير تلك الظروف كان سيشكل رد الفعل الإسرائيلي التلقائي.
لقد فضل نتنياهو ووزراؤه وضع اللوم بأكمله على كاهل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلا أن “يورام كوهين”، رئيس جهاز مخابرات الشين بيت قال بعبارات واضحة إن محمود عباس لا علاقة له بالهجمات الإرهابية في القدس سواء من فوق الطاولة أو من تحتها، وبذلك سكب ماءً باردًا على مساعي نتنياهو.
على نتنياهو أن يعرف بأنه حتى لو كان عباس راغبًا، فإنه لا يملك فعل الكثير داخل القدس، فمنذ إغلاق مكاتب منظمة التحرير في بيت الشرق بالقدس عام ٢٠٠١، وفوق ذلك منذ بناء الجدار الذي يفصل القدس الشرقية عن باقي الضفة الغربية، تضاءلت بشكل كبير قدرة السلطة الفلسطينية على التأثير في الأوضاع، إن لم تكن قد تلاشت تمامًا.
هذا لا يعني أن الحرب الكلامية ضد السلطة الفلسطينية ستتوقف، قد يعتقد نتنياهو بحق أن عباس هو مصدر كل الشرور إلا أن الثابت أن مثل هذه الحرب الكلامية تخدمه جيدًا، فلو كان عباس هو العدو المسئول عن هذه الجرائم المروعة، فإن جميع المطالبات باستئناف المفاوضات معه والتي تصدر عن وزيرة العدل “تسيبي ليفني” وعن آخرين، ستبدو بلا جدوى، أو حتى خيانية، وقد يأمل نتنياهو من خلال شيطنة عباس أن يضع العراقيل في طريقه للحصول على اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية.
وأما بخصوص القدس، فلا توجد أمام إسرائيل مساحة واسعة للمناورة، ولعل من المفارقات أنه نتيجة لقيام إسرائيل بضم القدس الشرقية فإن أياديها هناك مقيدة أكثر مما هي في الضفة الغربية أو في غزة، فلا يمكنها إقامة جدار عزل بين شرقي القدس وغربيها لأن ذلك سيعني ضمنًا الإقرار بأن هذه ليست مدينة موحدة، ونظرًا لأن القدس الشرقية باتت من الناحية القانونية جزءًا من إسرائيل، فإن الأحكام العرفية التي تطبق في الضفة الغربية لا تنطبق على القدس، ولذلك يصعب اعتقال الناس بلا محاكمة أو استخدام ما يشبه ذلك من الأساليب الأخرى.
لقد أعلن نتنياهو فعلاً أن منزلي غسان وعدي أبو جبل، أبناء العم الفلسطينيين الذين قتلا المصلين اليهود، سيهدمان، ولكن ذلك لن يحدث غدًا، إذ لابد أن تصدر موافقة على ذلك القرار من المحكمة ولا مفر من أن يستغرق ذلك وقتًا إلا أن الحكومة لا تملك أن تقعد بلا فعل، فالإسرائيليون بشكل عام والمقدسيون بشكل خاص، ما عادوا يشعرون بالأمان، والخوف في القدس هو سيد الموقف، بات أولياء الأمور يخشون على أطفالهم من الذهاب إلى المدرسة، وغدت الشوارع شبه خالية، والسياحة في تقهقر، وها هي تنصهر كانصهار الجليد، الفكرة التي مفادها أن الأمر الواقع في القدس يمكن أن يحافظ عليه إلى مدى بعيد باستخدام القوة من جهة ومن خلال تطبيق نظام رعاية اجتماعية على النسق الغربي من جهة أخرى، والمحصلة هي أن نتنياهو، الذي يظهر دومًا بمظهر “أبي الأمن والأمان” بات في ورطة.
يقف نتنياهو الآن على مفترق طرق، لم يكن هو المبادر بالمساعي المبذولة لتغيير الأمر الواقع في الحرم الشريف (جبل الهيكل) بحيث يسمح لليهود بالصلاة فيه وحتى تقسيمه إلى منطقة يهودية وأخرى مسلمة وفرض ساعات أو أيام مختلفة لأتباع كل ديانة للصلاة فيه، كل ذلك حدث رغمًا عنه وليس رغبة منه.
إلا أنه بمجرد أن بدأت الجماعات اليهودية القومية والموغلة في التدين في تنظيم زياراتها الاستفزازية للأقصى لم يقم نتنياهو بفعل شيء لوقفهم عند حدهم، ولم تحفزه ردود أفعال المقدسيين الفلسطينيين القوية – والناجمة عن مخاوف حقيقية أو متصورة من أن إسرائيل على وشك إحلال الهيكل الثالث محل مساجدهم المقامة على التلة – على البحث عن تسوية معهم أو على الأقل الدخول في حوار معهم.
بل على النقيض من ذلك لجأ نتنياهو إلى استخدام الجدل الساخن حول الموضوع لتجديد تحالفه مع اليمين المتطرف، والذي كان قد أصابه بعض الخلل في الحرب الأخيرة على غزة، ونظرًا لأن ائتلافه بات في أزمة لا نهاية لها يبدو أن القدس هي القضية الأهم التي سيُلم شمل اليمين حولها وقد تكون القضية الرئيسية التي تدور حولها الانتخابات المبكرة التي قد يدعو إليها نتنياهو ليخلص نفسه من بعض الشركاء غير المريحين في ائتلافه، ولكن وكما ثبت من المجزرة التي اُرتكبت داخل الكنيس، قد يكون ذلك بمثابة اللعب بالنار، تقول مصادر في أجهزة الأمن الفلسطينية إن ابني العم أبو جبل كانا من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الميول الماركسية، والتي هي أبعد ما تكون عن التدين، إلا أن الدعوات لحماية الأقصى من أعدائه، إضافة إلى التقارير التي وردت في وقت مبكر من هذا الأسبوع بشأن مقتل سائق حافلة فلسطيني على أيدي مستوطنين إسرائيليين (بينما تدعي إسرائيل أنه شنق نفسه) دفعتهم باتجاه ما أقدموا عليه من أعمال قتل.
لو استمرت إسرائيل في الضغط على السكان الفلسطينيين في القدس والتضييق عليهم في حياتهم اليومية، وفوق ذلك كله، داخل أو حول المسجد الأقصى؛ فقد تواجه هجمات جديدة كالتي رأيناها بالأمس، ولعل انتفاضة جديدة، تحفزها هذه المرة الحمية الدينية، تعبد طريقها، وإذا كان الأقصى هو موضع الاهتمام الرئيس فهناك خشية حقيقية من أن الفلسطينيين لن ينهضوا وحدهم في وجه إسرائيل، بل ستنضم إليهم الدولة الإسلامية وغيرها من المنظمات.
يصعب الجزم إلى أي مدى يدرك الزعماء الإسرائيليون هذه المخاطر. في مقال رائع نشرته هآريتز الأسبوع الماضي، يبين الدكتور تومر بيرسيكو، المحاضر في الأديان المقارنة بجامعة تل أبيب، أنه طوال التاريخ الصهيوني كان السياسيون والمفكرون اليهود العلمانيون هم الذين يقودون الحركات التي تدعو إلى إعادة بناء الهيكل الثالث، على اعتبار أن إعادة بناء الهيكل الثالث هو التجلي الأعظم للسيادة اليهودية أكثر مما هي تحقيق لتعاليم دينية ما.
يبدو أن معظم قادة حركات جبل الهيكل لا يفهمون المضامين المحتملة لما يقومون به من أعمال في المسجد الأقصى، لعلهم يظنون بأنه من خلال إعادة تأكيد السيادة الإسرائيلية على التلة سوف يخضع الفلسطينيون في نهاية المطاف وسيستسلمون كما فعلوا في الخليل التي طرأ فيها تغيير على الأمر الواقع الخاص بالمسجد الإبراهيمي (مقبرة الآباء والأجداد) لصالح السماح لليهود بالصلاة فيه، ومع ذلك، هناك ما يشير إلى أن بعضهم يفهمون الوضع جيدًا جدًا ولكنهم يفضلون “خض القارب” من أجل تحقيق السيادة التي يتطلعون إلى رؤيتها.
نتنياهو لا يحفزه الدين، ولكنه في غاية الحرص على السيادة اليهودية، ولعل هذا ما جذب اهتمامه في حركات جبل الهيكل وأتباعها، كانت الضغوط الدولية والتدخل الأردني قد اضطراه إلى التراجع خطوات إلى الوراء ليعبر عن التزامه بالأمر الواقع وليعيد فتح أبواب الأقصى أمام المسلمين من كل الأعمار، أما الآن، فقد يدفعه ما جرى من قتل داخل كنيس “بني توراه” في الاتجاه الآخر، ولو حصل ذلك، فسنجد أنفسنا مقبلين على أيام أكثر حلكة.