في مدرستك أو معمل العلوم الخاص بها، لا بدَّ أن تجد ملصقًا على أحد الجدران يحوي كل العناصر الكيميائية ورموزها، من الهيدروجين إلى اليورانيوم، وإذا كان الملصق حديثًا ستجد فيه بعض العناصر الجديدة التي ربما لم تسمع بها من قبل، يسمّى هذا التصنيف للعناصر الجدول الدوري، وتمثل هذه العناصر الذرّات بكل أنواعها.
يعرف علماء اليوم كيف تتّحد هذه الذرات معًا لتشكّل عالمنا بما في ذلك أجسامنا، هذا ما نسمّيه الكيمياء، لكن الكثيرين لا يعرفون أن أول من حاول رسم الجدول الدوري للعناصر كان كيميائيًّا مسلمًا شهيرًا، جعل من الكيمياء علمًا إسلاميًّا بكل المقاييس، فكيف ومتى اُخترع علم الكيمياء؟
من الخيمياء إلى الكيمياء
كما ورد في كتاب “لسان العرب” لابن منظور الأنصاري، إن كلمة الكيمياء هي كلمة عربية مشتقة من كلمة Chama، ويشرح أبو عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي ذلك في كتابه “مفاتيح العلوم”، قائلاً إن اسم Chemie (كيمياء) هو اسم عربي مشتق من Chama أي إخفاء شيء ما، وهذا يؤكد ما كتبه أبو بكر الرازي عندما أطلق على كتابه في الكيمياء والطب “سرّ الأسرار”.
رغم أننا ذكرنا سابقًا أن الكيمياء كانت علمًا إسلاميًّا منذ البداية، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة وجود نوع من الممارسات الغامضة التي عُرفت بـ”الخيمياء”، فقد بدأت الكيمياء خرافية تستندُ على الأساطير البابلية، وحاول الإغريق القدماء شرح مكونات العالم، لكنهم لم يفلحوا كثيرًا في مجال الكيمياء، وفي العصور الوسطى خلط الناس بين علم الكيمياء والخيمياء التي كانت تُمارس في أوروبا وأفريقيا وآسيا.
كان الهدف الأساسي للخيميائيين هو تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة، وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارات الإسلامية كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والقصدير والحديد من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيّرة نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والأرض أو التراب)، لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير.
في حين أن علم الكيمياء الحديث بات علمًا مستقلًّا، ارتبطت الخيمياء قديمًا بالخرافة والسحر
ومن هذا المنطلق، تخيّل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير للحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر، وقيل أيضًا إنه يمكن أن يخلق الحياة، وهو ما سعى إليه العديد من ممارسي الخيمياء.
ليس من الواضح متى بدأ المسلمون بالتحديد في إبداء اهتمامهم بالكيمياء، ولكن تمَّ الاتفاق على أن خالد بن يزيد بن معاوية الأموي (655-704م) كان أول مسلم يهتم كثيرًا بهذا العلم، حيث كان مرشحًا للحكم وعندما لم يَفُز أعاد توجيه جهوده من السياسة إلى العلم، وروي أنه كلّفَ بعض الأقباط الناطقين بالعربية، مثل ميرينوس وشمعون وإسطفان الإسكندري، بجمع بعض أبحاث الكيمياء الموجودة بالإسكندرية وترجمتها إلى اللغة العربية.
ومن هنا وصلت الخيمياء بكل ما فيها من أوهام ومفاهيم خاطئة إلى المسلمين، وكان هدفها في ذلك الوقت الوصول إلى أهداف خيالية لا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بالكيمياء الحديثة، لأن الأخيرة مبنية على قوانين وأُسُس علمية.
في البداية اعتقد الكيميائيون المسلمون -مثل الإغريق- أن جميع المعادن من العناصر الأصلية نفسها: الماء والهواء والنار والأرض، وأن خواصها متغيرة، والاختلاف بينها بسبب الاختلاف في العناصر المكونة لها، لذلك كل من يريد صنع الذهب سيتعيّن عليه فقط تحويل المعدن إلى عناصره الأصلية وإعادة صنعه باستخدام النسب الصحيحة لعناصر الذهب.
ومع ذلك لم يتمكّن أحد من تحقيق هذا الهدف، حتى تمكّن المسلمون من اكتشاف مواد وقوانين جديدة مكّنتهم في النهاية من الانتقال من الخيمياء إلى الكيمياء.
في القرن الـ 8 ميلادي، ظهر رجل غيّر كل المفاهيم، عُرف باسم “جابر الكيميائي”، واسمه الحقيقي جابر بن حيّان، أحدث ثورة حقيقية في علوم الكيمياء وتفسيرات الظواهر، وأنقذَ عقل البشرية من السبات والتيه، إزاء مشاهداته لما يعتمل من حوله.
رغم أن جابر بن حيّان وعلماء آخرين كانوا يجرون تجاربهم العلمية ويجودون فيها، فإن ما كانوا يقومون به من أعمال كان مزيجًا من الكيمياء والخيمياء، حيث يعني لفظ الكيمياء باللغة الإنجليزية Chemistry، وهو مشتق من كلمة الخيمياء، لكن في حين أن علم الكيمياء الحديث بات علمًا مستقلًّا، ارتبطت الخيماء قديمًا بالخرافة والسحر.
بالنسبة إلى خلفه من العلماء، عُرف ابن حيان بلقب الصوفي أو المتصوف، لأنهم اعتقدوا أن أعماله لم تختلف عن السحر، وما زال في عصرنا من يراها ضربًا من السحر، ففي حين أن التفاعلات الكيميائية لها تفسير علمي معروف، إلا أن ما نطلق عليه حاليًّا علم الكيمياء امتدّت جذوره قديمًا إلى الخيمياء (الكيمياء القديمة) في الحضارة الإسلامية.
في الواقع، كان الناس ينظرون إلى جابر نفسه بنوع من الارتياب، لكن ذلك يعود إلى طريقته في الكتابة، فقد سجّل في كتبه نتائج التجارب التي أجراها في مختبره بطريقة معقدة للغاية، لكن تلك الرموز الغريبة كانت تخفي علومًا مدهشة، لدرجة أننا نعتبر جابر اليوم أحد أوائل الكيميائيين في العالم بسبب تجاربه المفصّلة.
وفي حين كان الخيميائيون الأوائل مهووسين بتنقية وإنضاج بعض المواد والوصول بها إلى الكمال، كان جابر بن حيّان مهووسًا بإجراء بحوث عديدة على مختلف أنواع الأحماض، إلا أن الذهب معروف بصعوبة إذابته، فهو مثل جميع الفلزات النبيلة الأخرى غير قابل للتفاعل الكيميائي مع الأحماض.
ثمة حمض واحد بإمكانه القيام بهذه المهمة، وهو حمض أكوا ريجيا، ويعني اسمه “الماء الملكي”، لأهميته البالغة في الكيمياء والتعدين، وقدرته على إذابة البلاتين والذهب، وهناك اعتقاد بأن جابر بن حيان هو أول من قام بتقطيره من حمض النيتريك والهيدروكلوريك.
ولم تكن الكيمياء في بداياتها تتوقف على حدود الخيمياء، حيث إن العديد من التطورات التي شهدها علم الكيمياء كان الإسلام الدافع الحقيقي ورائها، فقد أدّى الاهتمام بالنظافة باعتبارها شرطًا من شروط الإيمان في الإسلام إلى تطوير صناعات بكاملها، منها تطور صناعة الصابون، حيث تبيّن أن أول قطعة صابون جافة صُنعت في بلاد المسلمين.
الكثير من العمليات الكيميائية التي طوّرها ابن حيان ساهمت في صناعات ذلك الزمان، فقد كتب حول الفوارق بين الأحماض والقلويات، كما أن كلمة قلوي في اللغة العربية مشتقة من لفظ القالي، وتعني رماد العشب الملحي، والتي تشير إلى المصدر الأصلي للمواد القولية، وبالطبع تُستخدم القلويات في صناعة ألواح الصابون المعطَّرة التي كانت اكتشافًا جديدًا.
العصر الذهبي للكيمياء
بين القرنين الـ 8 والـ 14، عاشت بلاد الإسلام عصرًا ذهبيًّا ازدهرت خلاله العلوم والمعارف، حيث نجح علماء من بلاد المسلمين في طرح مدخل تجريبي رصين للعلوم، وحوّلوا خرافة الخيمياء، أي صناعة الكيمياء، إلى علم مستقل قامت عليه الصناعات الكيميائية التي أعادت صياغة العالم الحديث.
يرجع الفضل إلى العلماء المسلمين في اكتشاف وتطوير بعض العمليات الكيميائية البسيطة، مثل التقطير والتسامي والتبلور والتكسيد
وقد تأثر بعض العلماء المسلمين الأوائل كجابر بن حيان وأبو بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها العلماء العرب من فلاسفة الإغريق القدماء، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها، أدّت إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية، وساعدت محاولة معرفة مدى صحة العناصر الأربعة علماءَ العرب والمسلمين في الوقوف على عدد كبير من العناصر الكيميائية، وكذلك بعض التفاعلات الكيماوية.
شرع علماء العصر الذهبي للعلوم في تطبيق المنهج العلمي في مجال الكيمياء، فقد كانوا يجرون تجاربهم بطرق مثّلت قفزة هائلة في منهجية التفكير الفلسفي أو المجرد التي اتّبعها الإغريق القدماء، والتي استندت إلى الرأي المجرد من التجربة العلمية لتفسير كل الظواهر الطبيعية ومعرفة حقيقة المواد الصلبة والسائلة والغازية.
لكن لإجراء تجارب عملية دقيقة كان علماء العصر الذهبي في حاجة إلى أجهزة وأدوات لم تكن موجودة، ولهذا كان عليهم ابتكارها واختراعها وشحن مهاراتهم وكفاءاتهم في التعامل مع حرفة وصناعة الزجاج.
لذا يرجع الفضل إلى العلماء المسلمين في اكتشاف وتطوير بعض العمليات الكيميائية البسيطة، مثل التقطير والتسامي والتبلور والتكسيد، وبهذه العمليات البسيطة استطاع جهابذة العلم في مجال علم الكيمياء اختراع أدوات وأجهزة متنوعة للتجارب العلمية، التي قادت علماء العصر الحديث إلى غزو الفضاء.
بالطبع قامت الصناعة الكيماوية بإعادة تشكيل عالمنا الحديث لتوفر لنا مختلف أنواع الأدوية والعقاقير، إضافة إلى الوقود، حيث يمثّل برج التقطير في مصافي النفط الحديثة نسخة متطورة من جهاز ابتكره العلماء المسلمون في العصر الذهبي يسمّى الإنبيق، واستخدموه كأداة للتقطير قبل أكثر من 1000 سنة.
إن كان ابن حيان يصنع الإنبيق في نهاية القرن الـ 8، فمن المؤكد أنه لم يكن يقوم بذلك بالطريقة الحديثة نفسها، فلوح الزجاج المستخدم قبل 1000 سنة كان بالطبع مختلفًا، حيث كان عليهم وضع الرمل مع الرصاص وجميع المكونات الأخرى داخل أفران لصهرها حتى درجة الانصهار، ورغم أنهم قاموا بالنفخ لتشكيل الزجاج المنصهر، لم يكن لديهم أجهزة تولّد درجة عالية مثل تلك الموجودة لدينا اليوم.
ويسبق العالم المسلم جابر بن حيان الجميع تاريخيًّا في هذا الاتجاه، ويُعتبر أول عالم في العصر الذهبي، فقد أجرى الكثير من التجارب والعمليات الكيميائية التي لا يزال معظمها مستخدَمًا، على سبيل المثال التكليس أو الترسيب أو التقطير.
كان عالم الفيزياء والكيمياء أبو بكر الرازي واحدًا من رواد التقطير في القرن الـ 9 ميلادي، من بين مؤلفاته العديدة وصفه المبكر ذائع الصيت في استخدام التقطير لإنتاج الكيروسين وحمض الكبريتيك والكحول النقي، حيث لم يُستخدَم الكحول للمعاقرة بل كمطهّر للأغراض الطبية.
تعتمد الكيمياء الحديثة على القدرة على تقدير الموازين والقياسات بدقة متناهية، هذا الأمر يمكن تقفي أثره في العصر الذهبي للعلوم، فأحد الأسباب التي تجعلنا نعتبر علماء العصر الذهبي للعلوم هم أول علماء حقيقيين هو ولعهم بالدقة المتناهية، لهذه الأسباب نعتبر ابن حيان والرازي أول علماء كيمياء فعليين.
في القرن الـ 12، شيّد العالم المسلم الفيزيائي والكيميائي عبد الرحمن الخازني مجموعة من الموازين الرائعة باستخدام قانون اتّزان الموائع، ويُقال إن دقتها تصل إلى 1 من 60 ألف جزء، واحتوى كتابه “ميزان الحكمة” على أوصاف للآلات العلمية التي قام بتركيبها سابقيه من قبل، ويشمل القياس المتري والدورق المكثف.
أبو الكيمياء
نشأ العالم المسلم جابر بن حيان في العراق، وأمضى معظم حياته في مدينة الكوفة، إحدى المراكز العلمية الجامعة التي انتشرت في العالم الإسلامي الكبير حينها، ونما بداخله حب الطب والصيدلة بسبب مهنة والده الذي كان يعمل عطارًا.
كان الإمام جعفر الصادق أول أساتذته، علّمه مبادىء الكيمياء والفلك والطب والصيدلة، وفرَّ مع أسرته إلى اليمن عقب مقتل أبيه على يد الأمويين بسبب مساندة العباسيين، وأكمل دراسته على يد العالم حربي الحميري.
استحق ابن حيان لقب “أبو الكيمياء”، فهو أول من استخدم الكيمياء عمليًّا في التاريخ، ففي بداية القرن الـ 10 ميلادي كانت هوية وأعمال ابن حيان مثار جدل في الأوساط الإسلامية، وكانت كتبه في القرن الـ 14 من أهم مصادر الدراسات الكيميائية وأكثرها أثرًا في قيادة الفكر العلمي في الشرق والغرب.
يقول الطبيب و المستشرق الألماني ماكس ميرهوف: “يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة”
كان جابر بن حيان عالمًا متعدد التخصُّصات، وتغطي أعماله مجالات الطب والموسيقى والكيمياء أو الخيمياء وغيرها الكثير، وانتقلت عدة مصطلحات علمية من أبحاثه العربية إلى اللغات الأوروبية عن طريق اللغة اللاتينية التي تُرجمت أبحاثه إليها.
ثمة آلاف المخطوطات التي تُنسب إلى ابن حيان، وهي أكبر بكثير من قدرة رجل واحد على تأليفها، ولهذا يُعتقد أن الكثير من العلماء المتأخرين نحلوا مخطوطاتهم العلمية باسمه تقديرًا منهم له، وبغض النظر فإن لابن حيان الفضل في تطبيق منهجية التجريب في الكيمياء.
وصفه ابن خلدون، وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء، فقال: “إمام المدونين جابر بن حيان، حتى أنهم يخصونها به فيسمونها “علم جابر”، وله فيها 70 رسالة، كلها شبيهة بالألغاز”.
ومن أهم الإسهامات العلمية لجابر بن حيان في الكيمياء إدخال المنهج التجريبي إليها، وهو مخترع القلويات المعروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي، وهو صاحب الفضل فيما عرفه الأوروبيون عن ملح النشادر وماء الذهب والبوتاس، وهو كذلك أول من أدخل عنصرَي التجريب والمعمل في الكيمياء.
تمكّن جابر بن حيان والعلماء الأوائل من إجراء تجارب علمية أكثر تعقيدًا، واتّباع مشهد علمي أكثر صرامة في جميع نواحي الكيمياء، شمل أيضًا طريقته في دراسة المواد ومنهجيته في تجميعها وتصنيفها.
يمكننا تصنيف المواد من استكشاف جميع جوانب العلم، لكن الأمر الفريد الذي أتى به ابن حيان هو تصنيفه للمواد ليس وفق عوامل عشوائية، بل وفق طرق استجابتها في التجارب العلمية، وكان لهذا المفهوم أثر كبير في تغيير كثير من النظريات السائدة قبل ذلك الحين.
لقد كان جابر بن حيان في تطبيقه للمنهج العملي في تجاربه في بدايته، وشرع بعده علماء كيمياء آخرون مثل الكندي والرازي، وتستند الطريقة التي نتبعها في علم الكيمياء اليوم إلى تنظيم وترتيب العناصر الكيميائية والعناصر ودراسة خواصها تمامًا مثل سلسلة التفاعل، وهذا ما كان يقوم به جابر بن حيان في المقام الأول.
ويعدّ جابر من رواد العلوم التطبيقية، وتتجلّى إسهاماته في هذا الميدان في تكرير المعادن وتحضير الفولاذ وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود وطلاء القماش المانع لتسرُّب الماء واستعمال ثاني أكسيد الكربون في صناعة الزجاج.
في دروس الكيمياء اليوم، نستخدمُ أنابيب الاختبار وأواني زجاجية غريبة الشكل لمزج المواد الكيميائية أو تسخينها، الكثير من هذه المعدات الكيميائية صمّمها ابن حيان، واستند في إلهامه إلى مجموعة من العلماء، لكنه أول اسم في قائمة علماء العصر الذهبي للعلوم العربية.
وكان ابن حيان من أوائل من استعملوا الميزان في قياس المقادير والمحاليل المستعملة بتجاربه الكيميائية، ونجح في تثبيط الصدأ على الأسطح، وتطوير صناعة الفولاذ، وكشف الغش في الذهب، وتمكّن من اختراع نوع مضيء من الحبر بالإمكان قراءته ليلًا.
كما اخترع بطلب من الإمام جعفر الصادق نوعًا من الورق المقاوم للنار، وكتب به كتاب جعفر الذي وُضع في مكتبة “دار الحكمة”، واكتشف طرقًا لتحضير العديد من المواد الكيميائية: كربونات الرصاص وكبريتيد الزئبق والأكاسيد ومركبات الزرنيخ.
تعود شهرة جابر بن حيان إلى ترجماته العديدة، منها كتاب “الرسائل السبعين” الذي تُرجم إلى اللاتينية، وتُضاف إلى هذه الكتب تصنيفات أخرى عديدة تتناول -إلى جانب الكيمياء- شروحًا لكتب أفلاطون وأرسطو ورسائل في الفلسفة والتنجيم والرياضيات، وقيل إنها تتراوح ما بين 232 و500 كتاب، لكن ضاع أكثرها.
وقد تُرجمت بعض كتب جابر إلى اللغة اللاتينية في أوائل القرن الـ 12، كما تُرجم بعضها من اللاتينية إلى الإنجليزية عام 1678، وظلَّ الأوروبيون يعتمدون على كتبه لعدة قرون، وقد كان لها أثر كبير في تطوير الكيمياء الحديثة.
وفي هذا يقول الطبيب والمستشرق الألماني ماكس ميرهوف: “يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة، وأكبر دليل على ذلك أن كثيرًا من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملة في مختلف اللغات الأوروبية”.
رواد الكيمياء
بعد ابن حيان بقرنَين، نقل عالم بارع آخر الكيمياء إلى مستوى أكثر تطورًا، كان اسمه أبو بكر الرازي، وسار على طريق جابر، ودمج العديد من الأفكار نفسها واستخدم المصطلحات نفسها إلى حد كبير، وقال إن “جابر من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء”، وكان يشير إليه باستمرار بقوله “الأستاذ جابر بن حيان”، في حين قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون: “جابر أول من علَّم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء”.
بزغ نجم عالم الكيمياء عز الدين الجلدكي، الذي اكتشف أن حمض النيتريك له القدرة على فصل الذهب عن الفضة، وأن كل مادة ينتج عنها ألوان خاصة نتيجة الاحتراق
كتب الرازي عددًا من الرسائل التي أصبحت معروفة في العلوم الغربية، وأهمها كتابه الشهير “سرّ الأسرار” الذي اعتُبر عملًا تأسيسيًّا لعدة قرون، ورتّب فيه المواد بعناية في قائمة طويلة وفقًا لخواصها الكيميائية، متخطيًا بأشواط العناصر الأساسية الأربعة عند القدماء الإغريق.
في حين أن جابر والرازي كانا الاسمَين العظيمَين في تاريخ الكيمياء الإسلامية واثنين من كبار المساهمين في تاريخ الكيمياء، فقد أضاف علماء مسلمون آخرون أيضًا إلى السجلّات، وأحرزوا تقدمًا ملحوظًا في مجال الأدوية أو علم الصيدلة، وتضمّنت هذه المجالات تحقيقًا علميًّا في التركيب والجرعات والاستخدامات والتأثيرات العلاجية للأدوية.
على سبيل المثال، احتوى كتاب ابن البيطار “الجامع لمفردات الأدوية والأغذية” على سجلّات مفصّلة للنباتات الموجودة في الأراضي الممتدة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط بين إسبانيا وسوريا، بالإضافة إلى ذلك قارنَ بشكل منهجي هذه المعرفة بمعرفة علماء العصور السابقة، واستخدمَ الأوروبيون كتابه في علم النبات حتى عصر النهضة.
حذا ابن سينا حذو أساتذته من علماء المسلمين، ولم يقتصر دوره على الإسهامات الطبية، فقد كان صيدلانيًّا فذًّا، وشرح مؤلفات اليونان والعرب في الكيمياء، وأنكر تحويل المعادن الرخيصة إلى نفيسة، وفسّر أن لكل عنصر تركيبه الخاص الذى لا يمكن تغييره بطرق التحويل المعروفة وقتها.
حمل العالم الكيميائي العربي ابن إسحاق الكندي وجهة النظر نفسها حول تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة، كما أسّس صناعة العطور، وأجرى العديد من الأبحاث لإنتاج العطور ومستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية، ويتضمّن كتابه “كيمياء العطور والتقطير” أكثر من 100 وصفة لصنع العطور والزيوت والمياه العطرية والمراهم وبدائل الأدوية المكلفة، وحتى معدّات لصنع العطور مثل الإنبيق.
أبو الريحان البيروني هو أيضًا أحد علماء العصر الذهبي في الكيمياء، وإلى جانب اهتمامه بعلوم الفلك والصيدلة والتاريخ والرياضيات والفيزياء، كان له العديد من الإسهامات في علم الكيمياء، فقد حدد أوزان المعادن النوعية في الهواء، وقام بصناعة الفولاذ، وتحضير كربونات الرصاص القاعدية، ويعدّ كتابه “الجماهر في معرفة الجواهر” أحد أهم المراجع في علم الكيمياء.
وفي القرن الـ 8 الهجري، بزغ نجم عالم الكيمياء عز الدين الجلدكي، الذي اكتشف أن حمض النيتريك له القدرة على فصل الذهب عن الفضة، وأن كل مادة ينتج عنها ألوان خاصة نتيجة الاحتراق، ويرجع إليه الفضل في التنبيه بخطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية، فكان يضع قطعة من القطن داخل أنفه، حتى وصل الأمر إلى استخدام الكمامات داخل معامل الكيمياء.