يتأهب السودانيون اليوم، السادس من أبريل، للخروج إلى الشارع في تظاهرات يعقد عليها الكثيرون الأمل في إسقاط الانقلاب العسكري الذي قام به الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، والذي أعقبته تظاهرات ضخمة لم تنقطع طوال الأشهر الماضية، راح ضحيتها أكثر من 80 قتيلًا والمئات من الجرحى والمصابين، جرّاء القمع المفرط الذي تعرضت له التظاهرات.
وفي ظل الاحتجاجات المتواصلة المطالبة بإنهاء الحكم العسكري، يبدو المشهد السياسي معقدًا، فقد فشلت حكومة الانقلاب في إدارة الدولة بشكل كامل، فرغم أن عبد الفتاح البرهان وعدَ في خطابه الأول بعد الانقلاب بتشكيل جميع أجهزة الدولة من برلمان ومجلس قضاء وتعيين رئيس وزراء خلال أيام قلائل، إلا أنه لم يفِ بما وعد به.
فما زالت الدولة تعاني من فراغ إداري كبير في ظل مجلس وزراء غير مكتمل يغيب أكثر من ثلثَيه، إضافة إلى غياب البرلمان، كما أن الضائقة الاقتصادية الخانقة، وتدهور سعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية، والانفلات الأمني الذي تشهده الخرطوم، أضحت من الأزمات اليومية التي يعايشها السودانيون ويعانون آثارها بشكل يومي، ما أدّى إلى تدهور وتعطُّل عجلة الحياة في السودان، ما أذكى نار التظاهرات التي اندلعت في الأساس لأسباب سياسية.
السادس من أبريل.. رمزية خاصة
يخرج السودانيون في هذا التاريخ بالذات، مستصحبين تاريخَين هامَّين في الذاكرة السياسية والشعبية، فهو التاريخ الذي شهد انعقاد والتئام اعتصام القيادة العامة الذي أطاح بالبشير بعدها بأيام في 11 أبريل/ نيسان 2019، بعد تظاهرات استمرت قرابة 5 أشهر أيضًا، كما أن اختيار السودانيين لتاريخ 6 أبريل/ نيسان في ذلك الوقت كان استلهامًا أيضًا للتاريخ ذاته من عام 1985، الذي سقط فيه نظام جعفر النميري بهبّة شعبية أنهت حكم 16 عامًا من الحكم الديكتاتوري العسكري.
ورغم أن التظاهرات لم تنقطع طوال الأشهر الماضية، إلا أن لجان المقاومة (الجسم القائد والمنظِّم للتظاهرات طوال الفترة الماضية) كثّفت من دعايتها ودعواتها لتظاهرات اليوم، ما دفع سلطات الانقلاب لاتخاذ التدابير الاحتياطية منذ أيام قبل موعد التظاهرة المرتقبة.
فقد استبقتها بحملات اعتقالات واسعة، طالت الفاعلين والقياديين في لجان المقاومة، كما قامت السلطات منذ مساء الاثنين بإغلاق الجسور الرابطة بين مدن الخرطوم الثلاث، في إجراء كانت تُقدِم عليه السلطات في عشية اليوم الذي يسبق يوم التظاهرة المعلنة.
مشهد سياسي معقّد
في 25 أكتوبر/ تشرين الأول أطاح البرهان بشركائه في الحكم وقتها، قوى الحرية والتغيير، والتي كانت تمثل 4 تيارات رئيسية وكبيرة في الشارع السوداني (حزب المؤتمر السوداني – حزب الأمة القومي – حزب البعث العربي الاشتراكي – التجمع الاتحادي)، حيث قام بإيداع معظم رموزها في المعتقلات مستفيدًا من التحالف الذي خلقه مع الحركات المسلحة، التي انضمّت للحكم في أعقاب مفاوضات عُقدت بعد الإطاحة بالبشير وتوقيع اتفاق الوثيقة الدستورية بين القوى المدنية والمكوّن العسكري.
ورغم أن حركات الكفاح المسلح (هكذا أصبحت تُدعى بعد الثورة في محاولة للاعتراف بدورها في إسقاط نظام البشير) كانت تُعتبر الحليف الاستراتيجي للقوى المدنية، بحكم التقارب الأيديولوجي والبرامجي، إضافة إلى تاريخ العداء مع القوات المسلحة السودانية، إلا أنها انحازت للمكوّن العسكري، وتبنّت الخطاب الذي هيَّأ الأجواء للانقلاب.
حيث نظّمت اعتصامًا شكليًّا أمام القصر الجمهوري دعا صراحة إلى إنهاء الشراكة مع المدنيين، وهو الأمر الذي نفّذه الانقلاب بحذافيره، حيث كافأ البرهان هذه الحركات المسلحة بالإبقاء على مناصبها و”مستحقاتها” كما هي، التي حاذتها بعد انضمامها للحكومة، إذ لم يعزل البرهان الوزراء الممثلين للحركات المسلحة، رغم عزله لرئيس الوزراء نفسه، عبد الله حمدوك.
اصطدمت محاولات بيرتس بعقبتَين، الأولى هي الممانعة التامة من القوى السياسية والفاعلين السياسيين في الرغبة في عقد أي اتفاق مع العسكر، وأيضًا اصطدم بالعنف المفرط الذي تقوم به السلطات في قمع التظاهرات
حاول البرهان وقتها أن يجدَ سندًا شعبيًّا للانقلاب، عبر الضغط على عبد الله حمدوك للعودة إلى منصب رئيس الوزراء لكن دون حاضنته السياسية (قوى الحرية والتغيير)، وهو ما نجح فيه بعد عزله والتحفظ عليه قيد الإقامة الجبرية لأيام طوال وخوض مفاوضات تحت الضغط، ما ترتّب عنه توقيع حمدوك لاتفاق سياسي عادَ بموجبه رئيسًا للوزراء، لكن سرعان ما انهار الاتفاق واستقال حمدوك عقب استمرار التظاهرات والقمع، إضافة إلى الرفض الشامل لما تمخّض عنه اتفاق حمدوك والبرهان من قِبل الشارع.
بعدها بدأت مجموعة من القوى السياسية ذات الثقل في مفاوضات خفية ومعلنة لاستعادة الشراكة، أبرزها كان حزب الأمة القومي بقيادة رئيسه المكلف اللواء معاش فضل الله برمة ناصر، والذي عُرف بميله إلى العسكريين.
إلا أن استمرار التظاهرات المنادية بإزاحة العسكر من المشهد تمامًا، ثم أصوات داخلية داخل حزب الأمة، جعلت من المستحيل التئام أي اتفاق ما بين المدنيين والعسكريين، ما قادَ في النهاية إلى عودة حزب الأمة إلى حاضنة القوى السياسية المنادية بإسقاط الانقلاب.
كما حاولت بعثة الأمم المتحدة الموجودة في السودان، بقيادة ممثل الأمين العام ورئيس البعثة فولكر بيرتس، أن تصل إلى تفاهمات سياسية تعيد سير الفترة الانتقالية إلى ما كانت عليه، لكن اصطدمت محاولات بيرتس بعقبتَين، الأولى هي الممانعة التامة من القوى السياسية والفاعلين السياسيين في الرغبة في عقد أي اتفاق مع العسكر، وأيضًا اصطدم بالعنف المفرط الذي تقوم به السلطات في قمع التظاهرات.
قادَ ذلك رئيسَ البعثة إلى تقديم تقرير إلى مجلس الأمن، الاثنين الماضي، بخصوص الأوضاع في السودان، محذّرًا فيه منها، قائلًا إنه “لا توجد حكومة في السودان تقوم بوظائفها”، ما قاد بدوره بدفع البرهان إلى التلويح بطرد رئيس البعثة الأممية، متّهمًا إياه بالكذب وتخطي الحدود.
ما الخيارات المطروحة لإنهاء الانقلاب؟
كل سيناريوهات الانتفاضات والثورات الشعبية في السودان، منذ استقلاله، والتي بلغت 3 ثورات وانتفاضات، انتهت بانحياز الجيش للانتفاضة، ثم تولي الحكم سواء كان منفردًا في فترة انتقالية قصيرة أو شريكًا كما حدث في ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2019.
في ظل الأوضاع الحالية، لا تبدو فكرة إشراك الجيش في عملية انتقالية أخرى قابلة للتطبيق، حيث لا تبدو مرغوبة للشارع السوداني، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى تبدو فكرة انحياز فصيل من الجيش إلى صوت الشارع على حساب البرهان غير واردة، بسبب أن البرهان قام بعدد من التغييرات في المؤسسة العسكرية، أطاح خلالها بأي أصوات تمرُّد محتملة داخل الجيش.
ورغم ذلك برزت دعوة قوية لدى السودانيين تنادي بتوجه مسارات تظاهرات السادس من أبريل إلى مقارّ سلاح المدرّعات في العاصمة الخرطوم، والذي يبعد بضعة كيلومترات من مقرّ القيادة العامة الذي شهدَ الاعتصام الذي أطاح بالبشير.
اختيار سلاح المدرّعات كوجهة محتملة لدى البعض، يبدو أنه لم يأتِ عبثًا، فسلاح المدرّعات هو أحد أفرع القوات المسلحة التي شهدت تمردًا اتّخذ شكل الترتيب لانقلاب عسكري على البرهان، تمَّ وأده مبكرًا بالكشف عن محاولة انقلابية يقودها ضبّاط من السلاح في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، ما ترتّب عنه وضع قادة المحاولة في السجن وتقديمهم لمحاكمة عسكرية.
شهد سلاح المدرّعات أيضًا في 11 أبريل/ نيسان 2019 احتكاكًا طفيفًا بين ضباط وجنود من القوات المسلحة وقوة عسكرية من قوات الدعم السريع، ما رسّخ في الذهن الشعبي فكرة العداء بين سلاح المدرّعات ونائب رئيس المجلس السيادي حميدتي.
أطروحة لجان المقاومة.. تشكيل السلطة قبل إسقاط الانقلاب
برزت لجان المقاومة السودانية بقوة في الفترة التي سبقت سقوط البشير، بتنظيمها وقيادتها للتظاهرات، وهي عبارة عن أجسام لا مركزية، تتوزّع عبر قطاعات السكن والعمل في معظم مدن السودان.
وقد شهد دورها وفعاليتها السياسية صعودًا ملحوظًا في الفترة الانتقالية عبر السند السياسي الكبير الذي وجدته من القوى السياسية، بوصفها تجربة سياسية شبابية في الأساس، وغير أيديولوجية، إضافة إلى الأدوار التي لعبتها في المشهد السياسي عبر تبنّيها للعديد من القضايا والمطالب السياسية طوال عمر الفترة الانتقالية.
يبدو أنه ليس أمام السودانيين سبيلًا آخر سوى تشكيل السلطة المسبقة، لضمان خروج أكيد للعسكر من العملية السياسية في حال نجح إسقاط الانقلاب بالتظاهرات والضغط الشعبي
تُعرف لجان المقاومة بجذريتها بخصوص مسألة الشراكة مع العسكر، إذ ترفض تمامًا حتى مبدأ التفاوض والشراكة، وتضع قضية القصاص والمحاكمة كأحد أهم المطالب، كما تمتلك اللجان قواعد اجتماعية كبيرة، بالذات في القطاعات السكنية، ما جعلها حركة مقاومة شعبية أكثر منها سياسية.
طرحت مؤخرًا لجان المقاومة (في 15 ولاية من ولايات السودان البالغة 18) ميثاقًا سياسيًّا للتداول، في أبريل/ نيسان الجاري، دعت للتوقيع عليه كافة القوى السياسية، في محاولة لتوحيد الخط السياسي للقوى المنادية بإسقاط الانقلاب.
يقترح هذا الميثاق مقترحًا جديدًا في التجربة السياسية السودانية، وهو محاولة تلافي الفراغ الذي سيتركه سقوط النظام الحاكم، وذلك عبر استباق سقوط الانقلاب عبر تكوين سلطة تسييرية مسبقة، ممثَّلة في المجالس المحلية.
يعمل السودان من سنوات طويلة بنظام المحليات، وهو نظام تقسيم إداري داخلي داخل المدن والمحليات، حيث يبلغ عدد المحليات في السودان الآن، بعد تقلص عدد ولايته لـ 18 ولاية، 133 محلية منتشرة في مدن وولايات السودان.
في مقابل الدعوة لتوجُّه مسار مواكب السادس من أبريل إلى مقارّ سلاح المدرعات برزت دعوة أخرى، وهي توجُّه المواكب إلى مقارّ المجالس المحلية المنتشرة في الخرطوم، ونصب الاعتصامات التي من المؤمل أن تكون بداية الضغط المتواصل لإسقاط الانقلاب على غرار ما حدث في اعتصام القيادة العامة، والبدء في عملية تكوين المجالس المحلية تمهيدًا لمرحلة ما بعد سقوط الانقلاب.
ليس هناك سيناريوهات كثيرة محتملة لعملية انتقال سياسي في السودان، بحكم الواقع والتاريخ، لكن يبدو ليس أمام السودانيين سبيلًا آخر سوى تشكيل السلطة المسبقة، لضمان خروج أكيد للعسكر من العملية السياسية في حال نجح إسقاط الانقلاب بالتظاهرات والضغط الشعبي.
فجميع التجارب السودانية في عمليات الانتقال السياسي، والتي كان العسكر جزءًا منها، انتهت بانقلاب عسكري وعودة العسكر للانفراد بالحكم ولو بعد حين، لذلك تبدو الخطوة التي دعت إليها لجان المقاومة بمحاولة ملء الفراغ المحتمل بعد سقوط الانقلاب هي الخيار الأوحد لعدم تكرار تجربة الانتقال التي أعقبت سقوط البشير وأقحمت العسكر مرة أخرى في الحكم.