ترجمة حفصة جودة
عملت أم عمر في مكتب حكومي قبل أن تتحول الثورة السورية إلى حرب ضروس عام 2011، أما اليوم فهي تهرّب الوقود لإطعام أطفالها الخمس وزوجها في محافظة إدلب، تجلب أم عمر نحو 40 لترًا من وقود الديزل من شمال محافظة حلب إلى مدينة أطمة في إدلب كل يوم تقريبًا.
تتسلل أم عمر مع ولديها من خلف حراس هيئة تحرير الشام خلال خندق طوله كليومتر وعمقه 3 أمتار قرب بساتين الزيتون الشاسعة لتعبر من إدلب إلى المنطقة الخاضعة لسيطرة الحكومة المؤقتة المدعومة من تركيا، هذه المسافة تخشاها أم عمر كل يوم.
ينقسم الجيب المعارض إلى منطقتين، تعيش أم عمر في محافظة إدلب التي تحكمها هيئة تحرير الشام، بينما يحكم شمال حلب الحكومة السورية المؤقتة المدعومة من إسطنبول التي يمثلها تحالف المعارضة السورية ومقره إسطنبول، ويضم مجموعة موحدة من ميليشيات المعارضة التي تُسمى الجيش الوطني السوري.
تكافح أم عمر للوصول إلى الخندق بحذر وعبوره بأمان، تغطي الصخور – التي يقع عليها بعض الناس ويجرحون أنفسهم – قاع الخندق، يقول محمد – عامل بناء بدأ التهريب يناير الماضي -: “وقعت هناك ذات مرة وكسرت قدميّ عندما طاردني حرس الحدود، ثم أخذوا الـ40 لترًا التي كنت أحملها وأحرقوها أمام عيني”.
بمجرد أن تعبر أم عمر الحدود الفعلية، تشتري الوقود من الشمال بسعر أرخص من إدلب، وبعد التسلل من حراس هيئة تحرير الشام لتصل إلى بيتها، تبيع ما كانت تحمله إلى التجار مقابل ربح ضئيل يقدر بنحو 20 ليرةً تركيةً (دولاران أمريكيان).
يقف المهربون الذين ينجحون في عملهم في صفوف طويلة لبيع الديزل إلى التجار، وعادة ما يساعد الأطفال في سحب جرار الوقود الثقيلة مع والديهم، تقول أم عمر: “ما نجنيه ليس كثيرًا خاصة عندما يكون سعر رغيف الخبز 5 ليرات، ولديك 5 أطفال، كما أن زوجي مريض في المنزل بتلف الأعصاب في رجليه، لذا لا يمكنه الحركة كثيرًا أو العمل مطلقًا”.
يعيش نحو 97% من سكان إدلب وشمال غرب سوريا في فقر شديد، حيث يجنون أقل من دولارين يوميًا ويعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، ازدادت ظروف المعيشة سوءًا منذ الشتاء الماضي بسبب إرهاق المانحين المستمر وتصاعد أزمة الليرة التركية، تلك العملة التي يستخدمها الجيب المحاصر.
تسيطر هيئة تحرير الشام على أغلب الصناعات في إدلب والمعابر الحدودية إما من خلال أفرادها وإما بالاستحواذ على حصة منها، بهذه الطريقة تحدد أسعار البضائع والخدمات كما تفضلها الجماعة
غضبت هيئة تحرير الشام من تهريب الوقود رغم عائده المادي الضئيل، فهو يفضح احتكار هيئة تحرير الشام للصناعات في المحافظة، هذا الاحتكار وجمع الضرائب يشكلان مصدرًا رئيسيًا لعائدات الجماعة المسلحة.
لكن الوقود في شمال حلب أرخص مع وجود عدة مستوردين وموزعين في السوق، أما هيئة تحرير الشام فتبيعه بسعر أغلى.
يقول كرم شعار مدير الأبحاث بمركز السياسات والعمليات ومدير برنامج سوريا في مرصد الشبكات الاقتصادية والسياسية: “هذا القطاع منظم بالكامل، وتسيطر عليه هيئة تحرير الشام تمامًا”.
تُسمى الشركة المحتكرة “وتد”، وتقوم هيئة تحرير الشام بمنع أي شيء قد يعرقل تدفق عائداتها، يُقال إنها حققت صافي أرباح شهري يصل إلى 1.67 مليون دولار في 2019، وهكذا أصبح عمل أم عمر يتحدى الموت.
في شهر فبراير/شباط، أمسكت قوات هيئة تحرير الشام فاطمة الحامد – أم عزباء لأربعة أطفال وعمرها 28 عامًا – بينما كانت تحاول تهريب الوقود إلى إدلب، ثم أطلقوا النار على رأسها أمام أطفالها وأصابوا ابنها – 15 عامًا – بجراح، وفقًا للإعلام المحلي، ثم تركها حرس الحدود تنزف على الأرض، فنقلها بعض المارة سريعًا إلى المستشفى حيث ماتت هناك.
كانت أم عمر في بيتها ذلك اليوم، وقالت: “شعرت بالرعب على نفسي وأسرتي، إن لم تكن بحاجة ماسة إلى المال ولم يكن لديها أطفال تربيهم، لم تكن لتقرر العمل في مثل هذه المهنة”.
يتذكر محمد المرة التي اعتقلته فيها هيئة تحرير الشام، فيقول: “أتذكر عندما كنا في طريق العودة ورآنا الحراس وبدأوا في إطلاق نيران تحذيرية، ثم صفعوا امرأة حتى كادت أن تسقط في الخندق وأحرقوا الوقود، والآن فقدت رأس مالي بالكامل وأعيش مديونًا”.
قال محمد إن مئات المهربين يقبعون في منازلهم الآن بعد حملة القمع خشية فقدان مخازن وقودهم والعيش مديونين أو التعرض للقتل.
اعترفت أم عمر أن هذه الرحلة ترعبها، فتقول: “إنه خوف ورعب مستمر، وعندما نسمع طلقات نارية نضطر للتمدد على الأرض كما يشعر الأطفال بالخوف”.
يقول المحللون إن هيئة تحرير الشام تسيطر على أغلب الصناعات في إدلب والمعابر الحدودية إما من خلال أفرادها وإما بالاستحواذ على حصة منها، بهذه الطريقة تحدد أسعار البضائع والخدمات كما تفضلها الجماعة، وتعد شركة “وتد” وأسعار الوقود خير مثال على ذلك.
يقول هايد هايد زميل استشاري في منظمة “Chatham House“: “إذا لم تكن شركة وتد محتكرة كما فرضت عليها هيئة تحرير الشام، لتمكن الناس سهولة من زيادة الإمدادات في السوق وبالتالي خفض الأسعار، لكنها تريد رفع الأسعار بهذه الطريقة لتزيد من العائدات وجمع الضرائب”.
نحاول البقاء على قيد الحياة
قال السكان إن هيئة تحرير الشام لا تستجيب بلطف للعائلات التي تشتري البضائع لاستخدامها الشخصي من شمال حلب، عندما تشك في مركباتهم عبر المعابر الرسمية، يقول أحد سكان إدلب: “إذا عاد أحدهم من عفرين إلى إدلب وجلب معه التبغ أو حتى حليب الأطفال للاستخدام الشخصي، فإنهم يحاولون فرض الضرائب عليها أو مصادرتها”.
“نتفق معهم في إجراء حملات تفتيشية لأغراض أمنية لحماية المنطقة من الهجمات أو المخدرات، لكن القمع لأسباب اقتصادية ليس مقبولًا”.
في الوقت نفسه، ترعى أم عمر أطفالها عند عودتها إلى المنزل بعد يوم شاق، أصبح المال أقل من المعتاد بعد أن قُبض عليها، فقد أخذ الحراس وقودها مؤخرًا وأحرقوه أمامها، تقول أم عمر: “لماذا يفعلون بنا ذلك؟ فليحاولوا فقط أن يشعروا بما نشعر به، لدينا أطفال ونحاول فقط البقاء على قيد الحياة”.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية