“للأسف الدولة مفلسة وكذلك مصرف لبنان”.. فجر نائب رئيس الحكومة اللبنانية، سعادة الشامي، بهذا التصريح الصادر في 4 أبريل/نيسان الحاليّ، براكين الغضب والقلق لدى الشارع اللبناني، إزاء النفق المظلم الذي دخلت إليه البلاد.
وبصرف النظر عن دقة هذا التصريح من عدمه، فإنه لا يقلل من حجم الأزمة الاقتصادية التي تعانيها بيروت منذ أكثر من 3 سنوات، ويعيد أيضًا طرح مشكلة الفقر في الوطن العربي مرة أخرى على طاولة النقاش الإعلامي والسياسي، تجنبًا للوصول إلى تلك المرحلة التي اقتربت فيها الدولة اللبنانية من السقوط في فخ الإفلاس.
لذا يسعى “نون بوست” من خلال ملف “تسونامي الفقر” أن يلقي الضوء على خريطة الفقر في المنطقة العربية والغوص في أسبار تلك الظاهرة في محاولة للوقوف على أسبابها ومؤشراتها خاصة أن كثيرًا من البلدان العربية التي تعاني فقرًا تمتلك رصيدًا هائلًا من الثروات يؤهلها لأن تكون إحدى الدول الغنية. وفي المادة الأولى من هذا الملف نستكشف مظاهر الفجوة الكبيرة بين ثروات المنطقة ومستوى التنمية الاقتصادية بها، مع إطلالة سريعة على مصطلح الفقر ومسبباته، والتركيز على الحالة العربية تحديدًا.
الفقر: الظاهرة والأسباب
في كتابه “صناعة الفقر- جدلية (الفقر، المعونة، الفساد)” يستعرض الباحث السوري عصام شيخ الأرض، أبرز التعريفات الخاصة بالفقر الصادرة عن المؤسسات الأممية في ظل تشعب التعريفات التي تناولت تلك الظاهرة المتفاقمة خلال العقود الأخيرة.
يرى الباحث أن هناك إجماعًا من كل البحوث الأكاديمية على أن الفقر ظاهرة عالمية فتاكة تعاني منها شعوب الأرض بلا استثناء، وأنه يسهم بشكل أو بآخر في ولادة العديد من الآفات المجتمعية التي تهدد استقرار المجتمعات والشعوب، أبرزها سوء التغذية والجهل والأمراض، ما وضعه تحت مجهر العناية والاهتمام الدولي.
وبحسب المنظمات الدولية، فإن التعريف الأبرز للفقر هو “الحالة الاقتصادية التي يفتقد فيها الفرد الدخل الكافي للحصول على المستويات الدنيا من الرعاية الصحّية والغذاء والملبس والتعليم، وكل ما يُعدُّ من الاحتياجات الضرورية لتأمين مستوى لائق للحياة”.
في المقابل، يستعرض مؤلف الكتاب تعريف مختلف، إذ يرى أن الفقر هو “العوز والحاجة وهو ضد الغنى، وهو العجز عن تلبية الاحتياجات الحياتية الضرورية للدرجة التي تتسبب بالجوع أو الموت أحيانًا، أو تلبية احتياجات المأكل والمشرب والمسكن بشكل لا يتلاءم مع متطلبات الحياة الكريمة”، فيما يعرف الفقر العام بأنه “عدم مقدرة الفرد على توفير الدخل اللازم لتلبية الحاجات الأساسية المتمثلة بالغذاء والمأوى والملبس والتعليم والصحة والنقل، التي تمكنه من أداء عمله بصورة مقبولة”.
وتتعدد مظاهر الفقر بحسب البنك الدولي وصناديق التنمية الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة والكيانات الإقليمية، غير أنها تنحصر في حزمة من المؤشرات على رأسها تدني مستوى الخدمة الصحية التي يحصل عليها الفرد بجانب التسرب من التعليم وانهيار منظومة الأمن الغذائي وسوء التغذية وانتشار عمالة الأطفال وزيادة الفجوة بين الطبقات المجتمعية وغياب عدالة التوزيع، فضلًا عن انتشار التطرف الأسري والمجتمعي وزيادة النزاعات الطائفية.
وإيمانًا من المجتمع الدولي بخطورة تلك الظاهرة، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام بمثابة اليوم الدولي للقضاء على الفقر، وذلك من خلال القرار رقم 47/196 المؤرخ 22 يناير/كانون الثاني 1992، حين اجتمع ما يزيد على مئة ألف شخص تكريمًا لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع، وذلك في ساحة تروكاديرو بباريس، التي وقِّع بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
%10 من سكان العالم فقراء
بحسب الأمم المتحدة، فإن هناك أكثر من 10% من سكان العالم يعيشون في فقر مدقع (دخلهم اليومي أقل من 1.9 دولار) ويكافحون من أجل سد رمقهم بأقل معدل ممكن من الطعام، كما يعاني واحد من كل خمسة أطفال من أدنى مستويات الفقر، فضلًا عن حرمانهم من مقومات الحياة الأساسية من تعليم وصحة وأمان اجتماعي، وهناك 122 امرأةً تتراوح أعمارهن بين 25 و34 عامًا في فقر مقابل كل 100 رجل من نفس الفئة العمرية، فيما تتوقع المنظمة الأممية أن يصل عدد الأطفال المعرضين لدخول نفق الفقر 160 مليون بحلول 2030.
تذهب التقارير الدولية إلى أن أكثر المناطق المرجح أن تشهد معدلات فقر أعلى هي بلدان جنوب آسيا وإفريقيا وجنوب الصحراء، حيث يعيش 32 مليون و26 مليون شخص على التوالي تحت خط الفقر الدولي، وقد زادت تلك المعدلات خلال العامين الماضيين بسبب جائحة كورونا.
في السياق ذاته، انخفض معدل الفقر في العالم من 10.1% عام 2015 إلى 9.2% عام 2017، وبينما يعيش 24.1% من سكان العالم على أقل من 3.20 دولار للفرد في اليوم يعيش أكثر من 43.6% منهم على أقل من 5.50 دولار للفرد في اليوم عام 2017، نصفهم من الفقراء وتمثل المرأة ضلعًا أساسيًا في خريطة الفقر العالمية، وفق البنك الدولي.
وتذهب التقديرات الخاصة بالبنك إلى أن تغير المناخ الذي يشهده العالم خلال الأعوام القليلة الماضية سيدفع ما بين 68 مليونًا و135 مليون شخص إلى براثن الفقر بحلول عام 2030، وفي تقرير آخر بعنوان “الهشاشة والصراع: في الخطوط الأمامية للحرب ضد الفقر” تتوقع المؤسسة الدولية أنه خلال الأعوام الثماني القادمة سيعيش ما يصل إلى ثلثي الفقراء المدقعين في العالم في بيئات هشة ومتأثرة بالصراعات، في رسالة تحذيرية لما تمثله البلدان التي تشهد صراعات وأزمات من هشاشة تجعلها بيئةً خصبةً لنمو الفقر، الأمر الذي يتطلب تحركًا عاجلًا قبل تفاقم الأزمة مستقبلًا.
الفقر في الدول العربية
تبلغ المساحة الإجمالية للدول العربية 13.2 مليون كيلومتر مربع، بنسبة 9.6% من إجمالي مساحة العالم، فيما يتجاوز عدد السكان 431 مليون نسمة، بما يعادل 5.5% من إجمالي سكان العالم، فيما يبلغ حجم القوة العاملة عربيًا نحو 139.8 مليون مواطن، بينما يتجاوز معدل البطالة 12.7%، وعلى الجانب الآخر يصل إجمالي حجم الدين العام الخارجي للدول العربية إلى 364.9 مليار دولار، بما نسبته 42% من إجمالي الناتج العام المحلي، فيما تبلغ قيمة خدمة الدين 25.6 مليار دولار.
بلغ الناتج الإجمالي المحلي للدول العربية في 2020 نحو 2432 مليار دولار، متراجعًا بنسبة 11.5% عن 2019، فيما ارتفعت معدلات التضخم لتصل إلى 19.6% تصدرتها سوريا والسودان ولبنان وليبيا واليمن، أما بقية الدول فتأرجح المعدل فيها بين 0.3% في الأردن و5.7% في مصر وتونس، بحسب التقرير الاقتصادي العربي 2021 الصادر عن صندوق النقد العربي بالاشتراك مع منظمة الأوبك وجامعة الدول العربية، لتغطية أهم التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية.
أما فيما يتعلق بأوضاع الفقر، يشير التقرير إلى ارتفاع معدلاته في الشرق الأوسط والمنطقة العربية من 2.3% في 2013 إلى 3.8% في 2015 لتقفز إلى 7.2% في 2018، كما تشهد المنطقة العربية اتجاهًا متزايدًا في معدلات الفقر وفق خط الفقر العالمي ( 1.9 دولار يوميًا) بوتيرة متصاعدة مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم، وتتصدر البلدان التي تنافس على صدارة الأكثر فقرًا عالميًا الصومال بنسبة فقر تتجاوز 73% يليها اليمن بنسبة 48.6% ثم السودان بـ 46.5%.
في عام 2020 قدرت الخسارة المحققة في الناتج المحلي الإجمالي العربي بأكثر من 220 مليار دولار، مع دفع نحو 14.3 مليون عربي إلى أتون الفقر، فيما يتوقع أن تصل نسبة الفقر في البلدان العربية وفق الخط الدولي إلى 32.4% أي ما يعادل 114 مليون مواطن عربي في 14 دولة عربية ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة، بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا).
وعن الفقر متعدد الأبعاد (الحرمان الحاد من خدمات التعليم والصحة ومستويات المعيشة المتوسطة) فوصلت نسبته عام 2019 قرابة 15.8% وهي رغم أنها أقل من مناطق أخرى في إفريقيا جنوب الصحراء (55%) وجنوب آسيا (29.2%) لكنها مرتفعة نسبيًا عن دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (7.2%) وشرق آسيا والمحيط الهادي (5.4%).
تبلغ نسبة الحرمان من الصحة في الدول العربية نسبة 26% مقارنة بـ 35% نسبة الحرمان من التعليم، أما معدل الحرمان من المستوى المعيشي المتوسط فيتصدر قائمة الأكثر حرمانًا بنسبة 39%، ويعد سكان المناطق الريفية وهم الأغلبية، الأكثر عرضة لهذا الفقر متعدد الأبعاد، إذ يعاني 25.8% من سكان القرى والمناطق النائية من مستوى أو أكثر من مستويات الحرمان الثلاث، مقارنة بـ5.8% في المناطق الحضرية.
ويعزز غياب التوزيع العادل في الثروات وعدم المساواة واقع الفقر المؤلم الذي تحياه الشعوب العربية، إذ تترواح تلك النسبة بين 45.3% كأعلى معدل في جزر القمر و27.6% كأقل نسبة في الجزائر، ورغم تراجع تلك النسبة عن مثيلاتها في العديد من بلدان العالم، فمن المتوقع أن تتصاعد خلال الفترة المقبلة وفقًا لتقديرات الإسكوا.
أما عن أسباب انتشار الفقر في المجتمعات العربية، فيعددها الكاتب السوري في مؤلفه سالف الذكر في تسعة عوامل رئيسية، أبرزها البطالة وعدم توافر فرص عمل مقبولة، بجانب فقدان الخطط الاقتصادية المنهجية، وغياب العدالة في توزيع الثروات وتفشي الفساد الإداري والسياسي، وإزاحة النزاهة عن ساحات القضاء، إضافة إلى تراجع الخدمات الأساسية للمواطن العربي من صحة وتعليم ومستوى اجتماعي معيشي جيد.
الثروات العربية
لا تعكس مؤشرات الفقر تلك حجم ثروات وموارد الدول العربية، فهي تمتلك ثروات هائلة فضلًا عن موقعها الجيوسياسي اللوجستي الكبير الذي يؤهلها لأن تكون من أكثر مناطق العالم ثراءً وأعلاها في مستوى دخل مواطنيها.
ففيما يتعلق بمصادر الطاقة، تستحوذ الدول العربية على أكثر من 55% من احتياطي النفط العالمي، وتعد السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا ضمن قائمة العشرة الكبار صاحبة أكبر احتياطي بإنتاج يبلغ 713 مليار برميل، الأمر ذاته في ثروات الغاز الطبيعي، حيث يبلغ احتياطي العرب من الغاز 54.3 تريليون متر مكعب، ما يعني 27.5% من الاحتياطي العالمي.
ومن الذهب الأسود إلى الأصفر، تمتلك الدول العربية أرصدةً كبيرةً، على رأسها السعودية التي يبلغ احتياطيها من المعدن النفيس 323.1 طن تحتل به المركز الأول عربيًا والـ18 عالميًا، ثم لبنان في المرتبة الثانية عربيًا والـ20 عالميًا باحتياطي قدره 286.8 طن، ثم الجزائر بـ173.6 طن، تحتل به المركز الـ3 عربيًا والـ26 عالميًا، فيما يأتي العراق رابعًا على المستوى العربي باحتياطي 96.4 طن محتلًا به المرتبة الـ38 عالميًا، يليهم مصر بـ80.2 طن، ثم الكويت والإمارات وقطر والأردن ويتراوح احتياطيهم من الذهب بين 79 طنًا إلى 52 طنًا بحسب النشرة الصادرة عن “بنك بيبلوس”.
وعلى مستوى الزراعة والثروة الحيوانية، توفر الزراعة وحدها أكثر من 26 مليون فرصة عمل رغم أن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 5.3%، كما تمتلك البلدان العربية ثروة حيوانية مهمة تقدر بأكثر من 345 مليون رأس من الأبقار والجاموس والأغنام والماعز والإبل، ويتصدر السودان القائمة العربية في تلك الثروة بـ 55% من حجم الإنتاج، فيما تبلغ مساحة الأرض المزروعة في المنطقة 425 مليون هكتار (الهكتار الواحد يعادل 10 آلاف متر مربع) بما يعادل 32% من المساحة الإجمالية للدول العربية.
في السياق ذاته، تبلغ مساحة السواحل المائية التي تطل عليها الدول العربية نحو 23 ألف كيلومتر تشمل سواحل بحر العرب والخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، هذا بخلاف الموارد المائية الداخلية من أنهار وبحيرات وسدود وما إلى غير ذلك من مصادر الثروة السمكية التي يبلغ إنتاج العرب منها 4.4 مليون طن، ما يعادل 2.6 في المئة من الإنتاج العالمي، فيما تحتل مصر والمغرب وموريتانيا فقط أكثر من 76% من إجمالي إنتاج العرب من الثورة السمكية.
وجاءت مؤشرات أداء الاقتصاد العربي في معظمها إيجابية خلال السنوات الأخيرة، بحسب الأرقام الرسمية، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج في الدول العربية بمعدل 13% ليبلغ 6375 دولارًا في المتوسط، كما حققت التجارة الخارجية العربية نموًا العام الماضي بنسبة 21.7% ليبلغ إجمالها 2.2 تريليون دولار، فيما ارتفعت الصادرات بنسبة 31.1%، مقارنة بـ 12.6% للواردات، أما الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية فتجاوز حدود التريليون دولار وهو ما يكفي تغطية الواردات العربية من كل السلع والخدمات أكثر من 5 أشهر وهو معدل جيد في ضوء المؤشرات العالمية.
يمكن القول إن الفجوة الهائلة بين معدلات الفقر في المجتمعات العربية بتلك النسب الكبيرة مقارنة بالمتوسطات العالمية، وحجم الثروات التي تمتلكها البلدان العربية، تؤكد أن الأزمة ليست في ندرة الموارد وزيادة السكان مطلقًا، إنما في أسباب أخرى تجرف العرب من مواردهم وتطيح بهم من مصاف الدول الغنية إلى مستنقعات الفقر والعوز، وهو ما سنلقي عليه الضوء في مواد الملف تباعًا.