خلال فترتها احتلالها للجزائر، التي امتدت طيلة قرن ونصف، اتبعت فرنسا الاستعمارية سياسةً ممنهجةً لطمس الهوية الجزائرية، بممارسة المسخ الثقافي واللغوي الذي ارتكن إلى محو الشخصية الجزائرية التي تكونت بفعل التراكمات التاريخية، من ذلك ضرب اللغة العربية التي تعتبر ركيزةً أساسيةً وإحدى مقومات الشعب الجزائري التي توحده، وجعل التعليم باللغة الفرنسية، فباريس تنظر للغة موليير على أنها أداة نفوذ ثقافي يعزز نفوذها السياسي والاقتصادي في مستعمراتها.
كما قضى المستعمر الفرنسي على التعليم العربي ونفى المعلمين واستولى على أملاك الأوقاف التي كان التعليم بفضلها يقف سدًا منيعًا في وجه الأمية بالجزائر، بهدف إحداث خلخلة في النسيج الاجتماعي الجزائري والمس بمقومات هويته وطمس معالم شخصيته العربية.
سنة 1962، تحقق الهدف العسكري من ثورة التحرير واستقلت الجزائر، إلا أن بناة الدولة الوطنية وجدوا أنفسهم في حرب جديدة، ألا وهي حرب الهوية، فلإن خرج المستعمر الفرنسي رسميًا من البلاد إلا أنه استطاع غرس ثقافته بالقوة هناك وتمكن من فرض لغته وإقصاء اللغة العربية التي أصبحت على الهامش.
خطوات الانفكاك عن اللغة الفرنسية
استيقظ الجزائريون غداة الاستقلال على هول معركة أخرى، معركة إعلاء اللغة العربية وإرجاعها إلى سالف عهدها وأحسن بعد ما عرفته من تراجع خلال فترة الاستعمار الطويلة للبلاد، فما إن تم الاستقلال حتى بدأت أولى محاولات الانفكاك من اللغة الفرنسية.
سنة 1963، نص دستور البلاد الجديد على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، قبل صدور أول الإجراءات العملية للأمر الرئاسي يوم 26 أبريل/نيسان 1968، المتضمن إجبارية معرفة اللغة العربية على الموظفين.
بعدها بسنتين، تقدم الرئيس هواري بومدين خطوة أخرى بإصداره أمرية جديدة بوجوب تعريب وثائق الحالة المدنية، ونقل كل السجلات العائلية من الفرنسية إلى العربية، وتبع ذلك تعريب الأختام الرسمية، وفي سبتمبر/أيلول 1971، أشرف بومدين على تنصيب اللجنة الوطنية المكلفة بعملية التعريب في كل قطاعات الحياة العمومية.
واصل بومدين خطواته نحو إعلاء اللغة العربية، إذ احتضنت بلاده في ديسمبر/كانون الثاني 1973 المؤتمر العربي الثاني للتعريب، وفي 16 أبريل/نيسان 1976، صدرت أمرية المدرسة الأساسية مكرسة بذلك الانتماء العربي الإسلامي للجزائر.
في الوقت الذي يسعى فيه الجزائريون للتخلص من اللغة الفرنسية، ما زال عدد كبير منهم يتحدث بها في تعاملاته اليومية
في نوفمبر/تشرين الثاني 1976، جرى البدء بتعريب المحيط وشملت العملية مختلف الوزارات والولايات والإدارات والشركات والبلديات، حيث استبدل الحرف اللاتيني بالحرف العربي والأسماء الفرنسية بأسماء جزائرية لشهداء وشخصيات تاريخية وأسماء عربية وإسلامية.
في مايو/أيار 1980 تدخلت جبهة التحرير الوطني – الحزب الوحيد القائد للدولة – لتقرير تعميم استعمال اللغة العربية وإلزام الوزراء، وهم أعضاؤها، بتطبيق القرار وتقديم عروض حال عن سير العملية، وفق ما يثبته أرشيف مداولات الحزب.
تواصلت الخطوات الجزائرية لإعلاء اللغة العربية بنسق حثيث، ففي يناير/كانون الثاني 1991، تبنّى البرلمان الجزائري تشريع تعميم استعمال اللغة العربية وحُدّد يوم 5 يوليو/تموز 1992 موعدًا نهائيًا لتطبيقه، لكن تم التراجع عنه بتوقيف المسار الانتخابي في 11 يناير/كانون الثاني 1992 وصعود التيار الفرنسي إلى الحكم، عبر المجلس الأعلى للدولة.
أرى أنه من أعظم ما يجب إنجازه في مرحلة الجزائر الجديدة رفع التجميد عن قانون تعميم اللغة العربية الذي جاء به الرئيس الشادلي، ثم جُمِّد، ثم أحياه زروال، ثم جَمّده الرئيس المستقيل بلا مرسوم. (ما ذلَّتْ لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار). مصطفى صادق الرافعي. pic.twitter.com/cz4twytOJe
— الشيخ أبوعبدالباري عبد الحميد أحمد العربي الجزائري (@A_hamidElarbi) December 18, 2020
نهاية سنة 1996، صوت البرلمان بالأغلبية على قرار رفع التجميد وإحياء المجلس الأعلى للغة العربية الذي ما زال مستمرًا إلى الآن، وحدد القانون المذكور آجال التعميم بتاريخ 5 يوليو/تموز 1998، في حين مدّد المهلة بالنسبة للتدريس في كل المعاهد ومؤسسات التعليم العالي إلى أجل أقصاه الموعد نفسه من عام 2000.
ككل مرة، ومع كل خطوة للأمام تحصل خطوات للخلف، فما إن وصل عبد العزيز بوتفليقة – إلى الرئاسة ربيع سنة 1998 – حتى عادت المتاعب مجددًا للغة العربية، فقد غيب بوتفليقة قانون رفع التجميد عن العربية وتجاهله عمليًا بمخاطبته المواطنين باللغة الفرنسية.
الحراك الشعبي يحرك القضية
طيلة حكم بوتفليقة كان الحديث عن إعلاء اللغة العربية في الجزائر من الملفات الهامشية التي وضعها النظام في سلة المهملات، كما جرى تغليب لوبي الفرنسة وتمكينه من أهم المناصب الوزارية وفي مؤسسات الدولة، ما مثل انتكاسة كبيرة لجهود رفع التجميد عن العربية.
في أثناء الحراك الشعبي الذي أسقط بوتفليقة وأجبره على الاستقالة، توالت إجراءات إسقاط الفرنسية المهيمنة وإنهاء التعامل بها في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، إلى جانب دعم حضور الإنجليزية في التعليم.
البداية كانت بوزارة التعليم، ففي يوليو/تموز 2019، قررت وزارة التعليم اعتماد الإنجليزية لغة أجنبية أولى في التدريس والبحث العلمي بالجامعات بدلًا من الفرنسية، واعتمدت الوزارة في ذلك على استفتاء أطلقته، فقد صوت أكثر من 90% لصالح تعزيز استعمال اللغة الإنجليزية في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، وقبل ذلك، وجه الوزير طيب بوزيد تعليماته إلى رؤساء الجامعات بكتابة ترويسة الوثائق الرسمية والإدارية باللغتين العربية والإنجليزية، عوض الفرنسية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصدر وزير العمل والضمان الاجتماعي السابق الهاشمي جعبوب، لكل إطارات الوزارة، تعميمًا يحظر فيه استخدام الفرنسية عند استقبال ومخاطبة المواطنين، ثم تتابعت القرارات الوزارية الرامية إلى إلغاء الفرنسية وتعويضها بالعربية.
وأخيرا قد بدأ سقوط الفرانكفونية وعملاء #فرنسا في #الجزائر
وزارة الثقافة الجزائرية تعلن منع استخدام اللغة الفرنسية في التعاملات والمرسلات والنشاطات الرسمية
مما
يعنى بأنه حتى #الآن كانت لغة المستعمر المجرم معتمدة في مؤسسات الدولة الرسمية?♂️?
التلقرام? https://t.co/528UC4gdpB
— محمدالمذحجي #الأحواز (@MadhajiMN) April 2, 2022
أصدرت 3 وزارات هي: التكوين المهني والشباب والرياضة والعمل، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية واستخدام العربية حصرًا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق، كما صدرت تعليمات بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل القطاعات الحكومية.
وفي الأثناء، استبدلت وزارة الصحة والسكان في الجزائر اللافتات داخل العديد من المستشفيات من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، كما انتشرت اللافتات المكتوبة باللغة العربية على أوجه المحلات والمؤسسات الخاصة والعامة.
آخر جهود إحياء العربية والتخلص من الفرنسية، كان مطلع هذا الأسبوع، إذ أصدرت وزارة الثقافة الجزائرية مذكرة لمختلف مصالحها تدعو فيها إلى ضرورة تعميم استخدام اللغة العربية في المراسلات والتعاملات والنشاطات الرسمية في كل الدوائر والمصالح ومنع التعامل باللغة الفرنسية.
وقالت وزارة الثقافة في المراسلة التي وجهتها للمصالح التابعة لها، نشرته على صفحتها الرسمية في فيسبوك: “تطبيقًا لأحكام الدستور وقانون تعميم استعمال اللغة العربية يطلب منكم التقيد إلزامًا باستعمال اللغة العربية في كل أعمال الاتصال والتسيير الإداري والمالي والتقني (الفني)”.
الفرنسية ما زالت مهيمنة
رغم كل هذه الجهود المتواصلة للتخلص من اللغة الفرنسية، ما زالت هذه الأخيرة مهيمنة في هذا البلد العربي، فكل الوزارات تستعمل اللغة الفرنسية في أغلب مراسلاتها الداخلية وحتى في بياناتها الرسمية، باستثناء وزارة الدفاع.
كما أن اللغة الفرنسية هي الأكثر استخدامًا في الجزائر منذ عقود، إذ تهيمن على أغلب التعاملات الرسمية داخل المؤسسات العمومية وعلى المناهج الدراسية، كما يكثر استعمالها في التخاطب اليومي بين الجزائريين.
يحتاج إعلاء العربية والتخلي عن الفرنسية إرادة سياسية وشعبية كبرى، فالشعارات وحدها لا تكفي وكذلك القوانين
يبدأ تدريس اللغة الفرنسية في الجزائر، إجباريًا في السنة الثانية من المرحلة الابتدائية، في حين تبدأ الإنجليزية بمناهج التدريس في الطور المتوسط (الأساسي)، وتعد الجزائر من أكثر الدول التي تستعمل فيها اللغة الفرنسية خارج منظمة الفرنكوفونية.
أظهر آخر تقرير لـ”مرصد اللغة الفرنسية” التابع للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، أن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية في العالم بلغ 300 مليون شخص، بينهم 13 مليونًا و800 ألف جزائري، أي ما نسبته 33% من الجزائريين يتحدثون الفرنسية في حياتهم اليومية.
يطرح هذا الأمر تساؤلات كثيرة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الجزائريون للتخلص من اللغة الفرنسية، ما زال عدد كبير منهم يتحدث بها في تعاملاته اليومية وفي المنزل، حتى إنه من الصعب أن تسمع جزائري يقول جملة دون أن تكون فيها كلمة فرنسية.
قوة اللوبي الفرنسي
يؤكد هذا الأمر قوة اللوبي الفرنسي وتواصل نفوذه في مفاصل الدولة الجزائرية لإعلاء مصالح باريس في هذا البلد العربي، ويشكل هؤلاء شبكة قوية ولوبيّات منظمة متحالفة ومتآزرة، مستغلين ضعف أنصار التعريب وتشتتهم.
#الجزائر تقوم بمجهود تعميم اللغة العربية?
وامام رؤساء الغرب يتحدث بالفرنسية.
فعلا الفرنسية هي لغة الام عند الكابرانات لكن يبقى مستواهم في لغة الشارع
لا علاقة بالخطاب الاكاديمي
هنا #تبون تحدث بالفرنسية مستوى رديء جدا.
وهنا ادرك #بلينكن انه امام اولاد #فرنسا
#Algerie française https://t.co/WOhpwZocXs pic.twitter.com/RtlqnIlBB8
— Eyes on the world (@elmardi0107) April 3, 2022
ينقسم اللوبي المناصر للغة الفرنسية إلى 3 أصناف: صنف أول يتمثل في أبناء العملاء السابقين النافذين في المؤسسات السيادية والإستراتيجية بالدولة، وثانٍ يتمثل في كبار المنظّرين والمنتصرين للفكر الفرانكوفوني، من خريجي المدارس والجامعات الفرنسية، أما الصنف الثالث فهم بقايا موظفي القطاعات والخدمات الموروثة عن النظام الاستعماري.
تحديات كبيرة
نفهم من هنا وجود تحديات كبيرة أمام الجزائريين للتخلص نهائيًا من اللغة الفرنسية وطي صفحتها، خاصة في ظل عدم استفادتهم منها لضعفها وعدم تعامل أغلبية المؤسسات والشركات العالمية بها، ذلك أن الفرنسية أصبحت لغة “منبوذةً” عالميًا.
الأمر لا يحتاج لمجرد قوانين تسن ويتم نسيانها مباشرة بعد نشرها، فالقوانين موجودة والدستور ينص على علوية اللغة العربية لكن التطبيق غير موجود، حتى قرارات الوزارات في الفترة بين سنوات 2019 و2022 لإعلاء العربية، جاءت في سياق أزمات مع باريس أي أنها ردة فعل ومحاولة لإثبات الذات.
قرار شجاع
مدير الصحة لولاية مستغانم يصدر مذكرة مصلحية بخصوص تعميم استعمال اللغة العربية
أما رئيس المجلس الاعلى للغة العربية بلعيد صالح فلن يقوم بدوره في العمل على رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية كي يظل في منصبه#تعميم_اللغة_العربية #الجزائر pic.twitter.com/iXoIMCqCLU
— نيسةNisa_Dz ???? (@anadz5762) August 21, 2021
يحتاج إعلاء العربية والتخلي عن الفرنسية إرادة سياسية وشعبية كبرى في هذا الشأن، فالشعارات وحدها لا تكفي وكذلك القوانين، فالمطلوب ممارسة العربية والتحدث بها في المؤسسات والشوارع في ظل عدم استفادة الجزائريين من لغة الاستعمار ويقينهم أن اللغة أداة استعمارية.