تسعى القوى السياسية اللبنانية خلف خطة إصلاحية لإنقاذ ما تبقّى من الاقتصاد اللبناني وليستعيد القطاع المالي عافيته، خاصة بعد التصريحات الأخيرة من نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، التي اعتبرت لبنان وصندوقه مفلسَين.
يراهن اليوم المسؤولون على صندوق النقد الدولي والمفاوضات التي يصفها البعض بالإيجابية، لكن لنجاح تلك المفاوضات لا بدَّ من الاتفاق بين القوى السياسية على محاربة الفساد، واتّباع سياسة تقشفية.
ودائمًا ما تدخل التجاذبات السياسية في القطاع المالي فتعرقل أي خطط إصلاحية أو حتى برامج لتعافي الاقتصاد، وذلك من أجل ضمان مصالحها، فأول مرحلة للعلاج هي معرفة سبب المرض أو ما يُعرف بالأزمة، وفي ظل عدم استئصال سبب الأزمة يبقى العلاج متعذّرًا.
مضى اليوم على أزمة لبنان 3 سنوات دون تقدم ملحوظ بل مزيد من الانهيار، لا سيما في القطاع المالي، ليبقى صندوق النقد الدولي بمثابة القشة التي يتعلق بها لبنان والملاذ الأخير له.
ويعتبر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن معركة إنقاذ لبنان مرتبطة بهذا الصندوق، الذي بدوره سيشرّع باب المساعدات إلى لبنان من قبل الدول المانحة، بعد إرساء الثقة به كدولة مستقلة، خالية من الفساد وقادرة على الإيفاء بالتزاماتها.
المفاوضات
يستكمل اليوم لبنان مفاوضاته التي بدأت منذ بداية عام 2020 مع صندوق النقد الدولي، حيث توقفت المفاوضات مع الصندوق في أغسطس/ آب 2020 لكنها اُستكملت من جديد في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 بعد تشكيل الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي.
ويسعى لبنان للحصول على قرض بقيمة 3 إلى 4 مليارات دولار كمرحلة أولى، ويمكن لاحقًا زيادة قيمة التمويل من الصندوق بحسب وزير الاقتصاد اللبناني.
ويحتاج لبنان اليوم للتوصل إلى برنامج مساعدات مع الصندوق سعيًا للخروج من الأزمة المالية الحادة، وكان صندوق النقد الدولي قد طلب من لبنان في بداية الأمر مباحثات تحضيرية حول حجم الخسائر في القطاعَين المالي والمصرفي، أو ما يسمّى بالفجوة المالية التي قدّرها بدوره وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام بـ 69 مليار دولار.
يريد صندوق النقد أن يلمس نوايا جدّية من المسؤولين اللبنانيين من ناحية الإصلاحات وخطة التعافي، ومن ضمن خطة الإصلاح الاقتصادي البحث في موازنة 2022 وإقرارها، والذي من شأنه أن يمهّد الطريق للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد.
يمكن وصف الشروط التي يفرضها صندوق النقد بشبه المستحيلة مع تقاسم القوى السياسية اللبنانية مرافق الدولة وقطاعاتها كالكعكة
المفاوضات ليست سهلة على لبنان وتمرّ بعقبات رغم طمأنة المسؤولين، ولكن على الأرض الواقع مختلف، فمسؤولو الصندوق لم يخفوا شروطهم قبل التحرك لأي مساعدات، ومن أبرز تلك الشروط تطبيق قانون “الكابيتال كونترول” المتعثر حاليًّا بين مد الحكومة وجزر البرلمان.
كما يطلب الصندوق من ضمن شروطه تعديل تعرفة الكهرباء وتوحيد سعر الصرف، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الدين العام الداخلي والخارجي، كذلك هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة مرافق الدولة، والنظر في فائض التوظيفات العشوائية مع وصول العجز السنوي إلى حدود 5 مليارات دولار، وهذا ليس بالأمر السهل مع فتح معركة الانتخابات النيابية.
يمكن وصف الشروط التي يفرضها صندوق النقد بشبه المستحيلة مع تقاسم القوى السياسية اللبنانية مرافق الدولة وقطاعاتها بينها كالكعكة، فلكل حزب وتيار سياسي حصته وقراراته وموظفيه، وإصلاحها يعني عدم وجود سرقة واختلاس، ومنع التوظيف يعني خسارة الجمهور الداعم للسياسي أو النائب، ما يضع المفاوضات في موقف حرج.
قانون “الكابيتال كونترول”
“الكابيتال كونترول” هو مشروع قانون يرمي إلى وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية القانونية، وافقت عليه الحكومة اللبنانية وأضافت إليه بعض التعديلات، لكنه اليوم يواجه مشاكل مع البرلمان، فالقانون اليوم بحاجة إلى إقرار ليصبح نافذًا، وهو أمر يستدعي مفاوضات طويلة نتيجة اعتراض عدد من الكتل البرلمانية عليه.
يحظى القانون اليوم على موافقة صندوق النقد والدول المانحة، كذلك تطالب جمعية المصارف في لبنان بسرعة إقراره كونه يضع ضوابط وإجراءات محددة لتحويلات رؤوس الأموال من وإلى الدولة، والسيطرة على حجم السحوبات اليومية عبر المصارف والتحويلات النقدية.
أبرز المعترضين على القانون كتلة التنمية والتحرير (حركة أمل) برئاسة نبيه بري رئيس المجلس النيابي اللبناني، حيث اعتبرت أن القانون يحتوي على الكثير من الثغرات والفجوات التي لا يمكن قبولها، وهنا يجب التنويه إلى أن وزير المالية هو دائمًا ما يكون من حصة كتلة التنمية والتحرير التابعة لبرّي (حركة أمل).
كما رفضت لجان المال والموازنة والإدارة والعدل في ديسمبر/ كانون الأول الماضي مشروع “الكابيتال كونترول”، حيث أجمع النواب على ضرورة أن يتضمّن مشروع القانون نصوصًا تضمن حقوق المودعين في البنوك التي امتنعت عن دفع الأموال، حسب قولهم.
المحاولة لإقرار القانون تأتي وسط توتر متزايد بين أعضاء السلطة القضائية من جهة ومسؤولي البنوك من جهة أخرى، حيث إن القضاء تحرّك مؤخرًا لمحاسبة البنوك، وفرض عليهم عقوبات طالت حتى رأس البنك المركزي رياض سلامة.
ووسط تلك الخلافات والأجواء الساخنة، يكون مشروع “الكابيتال كونترول” قد وصل إلى طريق مسدود، وهو في حال لم يمرَّ في البرلمان سيشكّل عقبة أمام المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
أزمة المصارف
دخل القطاع المصرفي في لبنان في انهيار غير مسبوق يترافق مع مواجهة مفتوحة الجبهات مع المودعين، وكذلك مع القضاء، ما دفع المصارف مؤخرًا إلى إعلان الإضراب عدة مرات، خاصة بعد أن تدخل القضاء اللبناني وقام بتجميد أصول 7 بنوك في 3 إجراءات منفصلة، كذلك منعَ 6 من مسؤوليها التنفيذيين من السفر.
واعتبرت المصارف أن الإجراءات القضائية في حقها تعسفية وظالمة، وكانت قد أصيبت البنوك اللبنانية بالشلل منذ انهيار النظام المالي عام 2019، تحت وطأة الديون العامة الضخمة الناجمة عن عقود من الفساد، ما أدّى إلى حرمان المودعين من مدخراتهم.
وارتفعت خلال الأيام الماضية وتيرة القرارات القضائية التي تطال كبار البنوك والمصرفيين، ووصلت إلى حد التنفيذ الجبري لدفع الودائع للناس وتجميد الأصول ومنع السفر.
تأتي أهمية الدعاوى أولًا في تمسُّك المودعين بحقهم من الناحية القانونية بالحصول على أموالهم المحتجزة في المصارف، وثانيًا الضغط على القطاع المصرفي والسلطة السياسية لإقرار خطة مالية عادلة تحدد المسؤوليات والخسائر وتضع طريقة لمعالجتها.
في المقابل، تردّ المصارف عن طريق الإضراب، حيث يُعتبر إضرابها ردًّا على الإجراءات القضائية، وهو تصعيد خطير، فإقفال المصارف كليًّا كما حصل إبّان انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 يعني ضرب الاقتصاد وتحدي القضاء.
الانتخابات على الأبواب وسط أزمة اقتصادية وانهيار مالي، وهو ما يصعّب حصول اتفاق بين القوى السياسية
من جهة أخرى، تواجه المصارف المودعين الغاضبين، فلطالما شهدت تلك المصارف ضربًا وتكسيرًا وهجومًا بالسلاح، ما جعل الكثير من المصارف أشبه بثكنة عسكرية، وكانت الجمعية العمومية للمصارف قد عقدت اجتماعًا أصدرت فيه بيانًا اعتبرت فيه نفسها كبش محرقة تجاه المودعين، وفي الوقت نفسه لا تستطيع تحمل نتائج سياسات مالية سابقة وتدابير مجحفة صادرة عن السلطات.
ويُعد حاكم مصرف لبنان نفسه ملاحَقًا قضائيًّا بتهمة الإثراء غير المشروع والفساد، لكن في الوقت ذاته مصرف لبنان يمثل لبنان لدى صندوق النقد الدولي، وحاكم المصرف من فريق المفاوضين، ما يزعزع الثقة لدى مسؤولي صندوق النقد ويؤخّر التفاوض.
الانتخابات على الأبواب وسط أزمة اقتصادية وانهيار مالي، وهو ما يصعّب حصول اتفاق بين القوى السياسية، لا سيما أن إقرار أي قانون سيكون مكلفًا على الصعيد الانتخابي، فالقرارات التي يجب أن تُتّخذ لإصلاح الاقتصاد تقشفية وغير شعبية إجمالًا، وسيكون هناك نوع من المزايدات بسب الحملات الانتخابية.
يدور لبنان إذًا داخل حلقة مفرغة من ناحية إنقاذ القطاع المالي، فحتى اللجوء إلى الدَّين من صندوق النقد الدولي بات صعبًا، فهو رسميًّا رهينة عصابة فاسدة أطبقت على خناقه، وهناك عدة أسباب تعرقل نجاح المفاوضات لا سيما شروط صندوق النقد الإصلاحية، والتي يصعب الوصول إليها في الوقت الحالي مع استمرار الطبقة السياسية التي فشلت في الإدارة المالية للبلد، فسقط لبنان بين عجز وإفلاس.