ترجمة وتحرير: نون بوست
استنادًا إلى مجموعة مسربة من الوثائق، علمت مجلة “نيولاينز” أن الاتحاد الروسي منح قرضين إلى سوريا بمبلغ إجمالي قدره 1 مليار دولار شريطة استخدام هذه الأموال حصريًا للدفع لشركات روسية محددة خلال فترة ستة أشهر، مع فرض غرامة على أي أموال لم تُنفق بعد تلك الفترة.
من ضمن الشركات الروسية المدرجة في الاتفاقية تلك التي يمتلكها كل من الأوليغارشية جينادي تيمشينكو ويفغيني بريغوجين، اللذين عاقبتهما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدورهما في تسهيل حرب الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا. تورطت مجموعة “فاغنر” المرتزقة التابعة لبريغوجين في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، بما في ذلك تعذيب وتشويه أحد المنشقين عن الجيش السوري.
وحسب الوثائق التي اطّلعت عليها مجلة “نيولاينز”، فإن الشركات التي يسيطر عليها تيمشينكو وبريغوجين سوف تستفيد إلى حد كبير من هذه القروض مما يشير إلى احتمال تبنيها من الجانب الروسي كمخطط للتهرب من العقوبات وربما تم استخدامها بالفعل لهذا الغرض.
تتضمن إحدى الاتفاقيات، التي تم توقيعها في موسكو في 2 كانون الثاني/ ديسمبر 2020، قرض تصدير بمبلغ 700 مليون دولار، علمًا بأن “حصة روسيا من إجمالي قيمة المواد المُصدّرة والخدمات المقدمة هي 100 بالمئة”. إضافة لوجوب استخدام المبلغ بالكامل بحلول 30 حزيران / يونيو 2021، تنص الشروط على أنه تُفرض غرامة قدرها 1 بالمئة على جميع المبالغ غير المستخدمة من القرض بعد ذلك التاريخ، ويتوجب “دفعها باليورو أو الروبل … كتعويض عن النفقات التي يتكبدها الجانب الروسي”.
تؤكد هذه الاتفاقية، التي تُشير إلى الأطراف المفوّضة بوزارة المالية السورية ووزارة المالية الروسية ووزارة التنمية الاقتصادية الروسية والخدمة الفيدرالية للتعاون العسكري التقني، أنه “يجب على كلا الجانبين اتخاذ جميع الوسائل اللازمة لضمان سرية المعلومات والمراسلات المرتبطة بهذه الاتفاقية”.
قال المصدر الذي سهَّل الوصول إلى هذه الوثائق خلال حديثه إلى مجلة “نيولاينز”شريطة عدم الكشف عن هويته إنَّ الجانب السوري “لم يكن سعيدًا بهذه الاتفاقية بسبب شروطها المُجحفة”، وكان هناك “شعور بالإهانة والإحباط من الجانب السوري من حقيقة أن السلع والخدمات الروسية لم تُسلّم حسب الوعود، بل تم تجاهل الشكاوى المتعلقة بالتأخيرات”. وأضاف المصدر أن الكرملين قد بدأ في مماطلة بيروقراطية لا داعي لها ومفاوضات اللحظة الأخيرة حول الشروط والتلاعب بالأسعار، وعامل دمشق عمومًا كقوة إمبريالية مقابل مستعمرة أدنى
يرى العقيد جويل رايبورن، نائب المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، إن هذا الأمر “ينبغي ألا يفاجئ أي شخص. كان الروس ينظرون لسوريا منذ فترة طويلة كأداة لجني الإيرادات وليس لإنفاقها. وتتماشى هذه القروض غير المواتية تمامًا مع هذا النهج. تعتمد وزارة الدفاع الروسية الطريقة ذاتها التي تضمن حصول الجنرالات الروس على الممتلكات والأموال في كل مرة يكلفون بمهمة في سوريا. لكن لا يمكن للأسد أن يعارض ذلك، إذ أن الضعف العسكري لنظامه يجعله يعتمد بالكامل على الدعم الروسي”.
إن العقوبات الدولية والجفاف وخسارة العملة قيمتها ناهيك عن تراجع احتياطيات النقد الأجنبي والحرب المتواصلة منذ 11 سنة جعلت سوريا عاجزة عن شراء السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والوقود من السوق الدولية. اعتمدت البلاد على واردات النفط من إيران ومشتريات القمح من روسيا مع خيارات قليلة أو معدومة لتلبية الطلب المحلي. وحسب مصدر المجلة، جعلت هذه الظروف “الجانب السوري يشعر بالإحباط والإذلال” في تعامله مع روسيا بموجب هذا الاتفاق، مضيفًا أن “الروس استمروا في إجراء تعديلات على الاتفاق حتى اللحظة الأخيرة عندما كان الوفد السوري في طريقه إلى موسكو للتوقيع عليه، وكذلك تنفيذه”.
يتضمن ملف المستندات المسربة الذي اطلعت عليه مجلة “نيولاينز” تعديلاً على هذه الاتفاقية موقّع في آب/أغسطس 2021 لتمديد الموعد النهائي لاستخدام قرض التصدير وتقليصه إلى 555 مليون دولار
تتضمن اتفاقية القرض توفير سلع أساسية مثل القمح والبنزين ووقود التدفئة. وتجدر الإشارة إلى أن السوريين يعانون من انخفاض درجات الحرارة وهذا ما يجعلهم يقفون في طوابير أمام محطات الوقود للتزود بوقود التدفئة.
تهدد أزمة الخبز المستمرة بدفع البلاد إلى حافة المجاعة لاسيما مع تدهور الظروف المناخية وحرائق الغابات بسبب الحرارة الشديدة والجفاف في أشهر الصيف. على مدى السنتين الماضيتين، احترقت عشرات الآلاف من فدادين القمح ما جعل سوريا السنة الماضية تسجل أدنى مستوى من إنتاج القمح منذ 50 سنة، وذلك وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة. وقد ساهم كل ذلك بشكل أكبر في اعتماد سوريا على روسيا لتوفير حبوب الخبز.
حسب المصدر ذاته، لم يتم تسليم القمح الروسي كما هو متفق عليه أو في الوقت المناسب مشيرًا إلى أن “بعض الاتفاقات المتعلقة بمشتريات القمح كانت معلقة منذ شهور لأن روسيا لم توقع على الاتفاق على الرغم من أنهم أخذوا وقتهم في ذلك”. وأضاف أن “جودة القمح الروسي والسلع الأخرى المشتراة لا تلبي المعايير الدولية”.
ساهم نظام الأسد وحليفه الروسي بفاعلية في تدمير البنية التحتية للبلاد عبر سنوات من القصف الجوي، فضلاً عن إحراق حقول القمح في بعض أجزاء البلاد في ذروة الحرب عندما حاصر نظام الأسد المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين التي كانت تضم في ذلك الوقت ملايين المدنيين.
يتضمن ملف المستندات المسربة الذي اطلعت عليه مجلة “نيولاينز” تعديلاً على هذه الاتفاقية موقّع في آب/أغسطس 2021 لتمديد الموعد النهائي لاستخدام قرض التصدير وتقليصه إلى 555 مليون دولار. ولم يكن واضحًا ما إذا كان هذا التعديل نتيجة لإخفاق روسيا المزعوم في تسليم البضائع والخدمات، على حد تعبير المصدر.
بالإضافة إلى القمح والوقود، يشمل الملف المسرب قائمة بالسلع الأخرى مثل السكر وأعلاف الدجاج وأكثر من عشرين دواء صيدلانيا ومستلزمات طبية وقطع غيار أجهزة المولدات الكهربائية. لكن نص الاتفاقية ليس فيه أي إشارة إلى تسعير السلع والخدمات المقدمة لسوريا من قبل روسيا أو ما إذا كانت السلع مسعرة بشكل تنافسي أو حسب معايير الأسواق الدولية. كما أن الاتفاقية تنص على تحديد جميع الأسعار بالدولار الأمريكي على الرغم من أن جميع مدفوعات القروض ينبغي تسديدها بالروبل أو اليورو، وفقًا لسعر الصرف الرسمي الذي حدده البنك المركزي الروسي.
وأكد المصدر أن “روسيا يمكنها أن تطلب ما تشاء” من حيث أسعار السلع والخدمات المعروضة على سوريا في إطار اتفاقية القرض المذكورة. وأضاف المصدر أنه في نيسان/أبريل 2021، على سبيل المثال، عرضت شركة القمح الروسية “أو زي كاي” بيع القمح لسوريا بسعر 355 دولارا للطن بعد الاتفاق مع مجلس الوزراء السوري على سعر 340 دولارا للطن، وقد تفاوض الجانبان واتفقا في النهاية على 350 دولارا للطن.
تظهر بيانات التسعير القديمة أن القمح لم يبع بأكثر من 257 دولارا للطن في السوق الدولية في الشهر ذاته. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021، عرضت شركة “ستاغ إنجنيرينغ” بيع القمح لسوريا بسعر 319 دولارا للطن عندما لم يكن سعر السوق العالمي لذلك الشهر يتجاوز 283 دولارا. وقدمت “أو زي كاي” عرضا آخر في كانون الثاني/ يناير لبيع القمح مقابل 317 دولارا للطن، عندما كان السعر الدولي لذلك الشهر لا يتجاوز 290 دولارا للطن.
تتضمن الاتفاقية قرضا تمويليا بقيمة 300 مليون دولار وقائمة بالشركات الروسية بصفتها المتلقين الحصريين لمدفوعاته. رغم عدم ورود أي معلومات كتابية أخرى عن السلع والخدمات المشتراة من قبل هذه الشركات، أوضح المصدر السري أن “الغرض من الدفع هو تصفية ديون سوريا أو التزاماتها تجاه هذه الشركات، وبعض هذه الديون تعود لسلع وخدمات قدمتها روسيا في سنة 2004”.
يواجه بريغوجين تهما جنائية في الولايات المتحدة، وقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على شركاته بسبب التدخل في الانتخابات وحملات التضليل ودوره في حرب أوكرانيا فضلا عن صلاته بالحكومة السورية
يشمل التعديل الموقّع في آب/ أغسطس 2021 إجراء تغييرات على قرض التمويل وخفض المبلغ إلى حوالي 145 مليون دولار وإضافة شركات إلى قائمة المستفيدين الروس لتشمل ثلاث شركات روسية مملوكة للدولة: “روس أوبورون إكسبورت”، وهي وكالة استيراد وتصدير للأسلحة والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج؛ ومكتب تصميم الأدوات “كيه بي بي”، المتخصص في الذخائر الدقيقة وأنظمة الدفاع الجوي؛ و”فودستروي”، التي تنسق مشاريع البنية التحتية لسوريا. وقد فرضت الحكومة الأمريكية منذ سنة 2014 عقوبات على كل من روس أوبورون إكسبورت ومكتب تصميم الأدوات كاي بي بي، بينما أفلست شركة فودستروي في تشرين الأول/أكتوبر 2021.
من بين الأطراف الروسيّة المستفيدة كيانان روسيان آخران كانا ضحيّة للعقوبات الأمريكية وهما: إيفرو بوليس وستاغ إنجينيرينغ. تعدّ إيفرو بوليس واحدة من الشركات العديدة المملوكة لبريغوجين، الحليف الوثيق لبوتين والمعروف باسم “طاهي بوتين” الذي بدأ حياته المهنية في سانت بطرسبرغ كمالك مطعم، ثم أطلق لاحقا شركة لتقديم الطعام تقدّم خدماتها للكرملين والجيش الروسي.
اتُهم بريغوجين بالتورط الوثيق مع مديرية المخابرات الرئيسية الروسية عن طريق مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية خاصة انتشرت في أوكرانيا وسوريا وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى. ووفقًا للتقارير الصحفية الأخيرة، أرسلت فاغنر ما يصل إلى 1000 مرتزق إلى أوكرانيا للمساعدة في دعم حملة بوتين العسكرية الفاشلة.
لم تكن فاغنر تسيّر أعمالها في سوريا دون حوافز مجزية، فقد وعدت دمشق إيفرو بوليس بـ 25 بالمئة من إجمالي الإيرادات الاستخراجية من حقول الطاقة التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة. في سنة 2018، شاركت مجموعة من مرتزقة فاغنر في غارة انتحارية على مصنع غاز كونوكو المحمي من قبل الولايات المتحدة في دير الزور شرقي سوريا، حيث قُضي على جميع الطائرات الحربية والمروحيات الأمريكية.
قام بريغوجين بتمويل وكالة أبحاث الإنترنت المعروفة باسم “مزرعة المتصيّدين”، وهي واحدة من العديد من الأسلحة المسؤولة عن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2016 والتي شاركت أيضا في عمليات التأثير السرية في جميع أنحاء أوروبا، باستخدام العديد من العملاء المرتبطين بـ “مكتبه الرئيسي” في سانت بطرسبرغ.
يواجه بريغوجين تهما جنائية في الولايات المتحدة، وقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على شركاته بسبب التدخل في الانتخابات وحملات التضليل ودوره في حرب أوكرانيا فضلا عن صلاته بالحكومة السورية.
صرّح المصدر لمجلّة “نيولاينز” بأن كيه بي بي تلقت بالفعل 25 مليون دولار “على الأقل”، وتلقّت إفرو بوليس 55 مليون دولار وستاغ إنجينيرينغ 20 مليون دولار
قال غافين وايلد، المدير السابق لمجلس الأمن القومي لروسيا وشؤون البلطيق والقوقاز ضمن إدارة ترامب، إن القروض تكشف “العلاقة بين التهرب من العقوبات والجشع الخالص والنهج المستمر الذي أتقنه بريغوجين في التعامل مع الكرملين: استغلال واضح، إن لم يكن استعمارا صريحا، لموارد الدول التي مزقتها الحروب والتي لا يستطيع مواطنوها تحمل تكاليفها”.
تعود ملكية “ستاغ إنجينيرينغ” إلى الملياردير والصديق الشخصي لبوتين منذ فترة طويلة تيمشينكو. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، انتقل تيمشينكو إلى فنلندا للعمل لدى شركة “يورالز فنلندا أوي”، وهي مستورد نفط روسي، ليصبح فيما بعد رئيسها التنفيذي. في سنة 2000، أسس تيمشينكو جنبا إلى جنب مع صاحب الأعمال السويدي توربوجورن تورنكفست مجموعة “غانفور” التي أصبحت أكبر شركة تجارة مستقلة للسلع في العالم.
في سنة 2014، ونتيجة لتوقّعاته بشأن العقوبات الأمريكية التي قد تنجر عن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، باع تيمشينكو حصته بأقل من قيمتها الحقيقية لتورنكفست. في سنة 2007، أسس مجموعة فولغا، وهي شركة استثمارية تمتلك 23 بالمئة من شركة الغاز الطبيعي نوفاتيك، ثاني أكبر منتج للغاز في روسيا. وقد فرض الغرب بالفعل بعض العقوبات على تيمشينكو بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في سنة 2014 وغزوها لأوكرانيا في 2022.
لم تقدم الوثيقة المعدلة أي تفسير أو توضيح إضافي بشأن طبيعة المدفوعات السورية المطلوبة للشركات المدرجة. وسيتم سداد كلا القرضين على مدى 10 سنوات على أقساط نصف سنوية، أحدهما في 15 نيسان/أبريل والآخر في 15 تشرين الأول أكتوبر من كل عام، بسعر فائدة يبدأ من 1.5 بالمئة للسنة الأولى، و1.75 بالمئة للسنة الثانية، و2 بالمئة للثالثة وصولا إلى 8 بالمئة في 2033.
مع أن الملف الذي تم تسريبه لم يقدم أي وثائق حول حجم الأموال التي تلقتها بالفعل الشركات الروسية، إن وجدت، صرّح المصدر لمجلّة “نيولاينز” بأن كيه بي بي تلقت بالفعل 25 مليون دولار “على الأقل”، وتلقّت إفرو بوليس 55 مليون دولار وستاغ إنجينيرينغ 20 مليون دولار.
ووفقا لدانيال فرايد، المساعد السابق لوزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية والأورو-آسيوية ومصمم العقوبات المفروضة على روسيا في عهد إدارة أوباما، فإن “المحاولات الروسية للتهرب من العقوبات متوقعة، كما تملك الولايات المتحدة طرقها الخاصة لملاحقة المتهربين من العقوبات. ونظرا لنطاق العقوبات المفروضة بالفعل في سوريا، قد ترغب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة أيضا في النظر في طرق التحايل على سلسلة العقوبات التي من المحتمل أن تعكسها هذه الصفقة وملاحقة أي شركة تابعة لبلد ثالث قد تكون متورّطة”.
المصدر: نيولاينز