رغم أن رائحة الماضي تفوح من بين جدران المحلات التجارية في أسواق البلدة القديمة بمدينة القدس، لتروي تاريخ مكان شهد الكثير من الأحداث منذ أن شُيّدت في عهدَي المماليك والعثمانيين، إلا أنها اليوم تشتكي قلة الإقبال، وبات العشرات منها مهدَّد بالإغلاق.
وكالعادة لم تسلم تلك المحال العتيقة وأصحابها من الاحتلال الإسرائيلي، حيث سيطر على العشرات منها وحاول تهويد أسمائها وهويتها وتدمير بعضها، وأغلق وصادر العديد منها، عدا عن فرضه الضرائب التي أثقلت كاهل أصحابها، وكله ضمن سياسة التهجير والتهويد التي تنتهجها “إسرائيل” لإفراغ المدينة من المقدسيين السكان الاصليين، بالإضافة إلى وضع العراقيل والحواجز العسكرية والأمنية لتحيل دون وصول الزائرين والسياح إليها.
ولا تزال أسواق البلدة القديمة التي تشكّل العمود الفقري لاقتصاد المدينة تحافظ على طابعها العمراني، كما اكتسبت أسماءها إما من البضائع التي تُباع فيها، وإما من نسبتها إلى أشخاص أو أماكن أو معالم معيّنة، ومنها سوق باب خان الزيت، القطانين، العطارين، الخواجات، اللحامين، الباشورة، باب السلسلة، باب العامود، طريق الواد والحصر؛ وترتبط بشبكة كبيرة من الطرق والعقبات والأحواش.
ويخشى أصحاب المحلات أن يتحولوا إلى عمّال في مصالح أخرى، لذا بقُوا يرضون بالمكسب القليل لإعالة أسرهم دون الرحيل عن متاجرهم التي ورثوها عن ذويهم.
شلل اقتصادي
في الطريق المؤدي إلى سوق خان الزيت بالبلدة القديمة، وقف العم خالد السلفيتي (74 عامًا) يرقب أي زائر يطرق باب متجره “بيت الصدف”، المتخصص في بيع جميع أنواع التحف والهدايا المصنوعة من خشب الزيتون والصدف.
منذ 45 عامًا لم ينقطع السلفيتي عن التواجد في محله إلا لظروف قاهرة، يقول: “رغم قلة الإقبال على الحركة الشرائية لن أغلق متجري (..) وجودي في البلدة القديمة يعني التمسك بالأرض والهوية، فهي مهد الديانات السماوية ومركز التراث البشري والإنساني والحضاري”.
من داخل محله، وبينما تحيطه التحف المنقوشة بآيات قرآنية وأسماء مدن فلسطينية مصنوعة من الخشب والصدف، كان يستعرض بضاعته، علّه يلمح أحد زبائنه القدامى.
يحكي السلفيتي أنه لقلة الزبائن يفتح محله من الساعة الـ 11 ويغلقه في الـ 5 عصرًا، ما يدفعه لمطالبة معارفه بأن يأتوا للبلدة القديمة بصحبة أولادهم لخلق حركة في المكان ويتشجّع الآخرون على القدوم دون تردد، علمًا أن أكثر من يتردد على الأسواق القديمة هم من كبار السن.
ويؤكد أن هناك تقصيرًا من قبل السكان ما سبّب شللًا اقتصاديًّا، بالإضافة إلى جائحة كورونا التي منعت وصول أصحاب المحال والزبائن إلى الأسواق بأوامر الاحتلال، وذلك لمدة عامين.
ويخبر “نون بوست” أن ما يعيق وصول المواطنين إلى الأسواق القديمة هي الحواجز العسكرية والضرائب التي تفرضها بلدية الاحتلال، موضّحًا قوله إن من يعيش خارج القدس ويستقل سيارته إلى البلدة القديمة سيكون أمامه عدة ساعات للوصول، وحينها سيضطر إلى ركن سيارته في الموقف ودفع 40 شيكلًا -أكثر من 10 دولارات-، الأمر الذي يدفعهم لشراء حاجياتهم من مدن الضفة أو المحلات البعيدة عن التعقيدات الأمنية.
وبالنسبة إلى الضرائب التي يدفعها، علق بامتعاض: “التاجر المقدسي وظيفته دفع الضرائب دون تحقيق أرباح، ما دفع العشرات من التجار إلى مغادرة محالهم”، مؤكدًا أن الوضع ليس كما السابق، حين كانت البلدة منتعشة بالسياحة الأجنبية والمحلية.
وذكر السلفيتي أنه فترة الأحداث المشتعلة في البلدة القديمة والمسجد الأقصى لا يذهب لمحله، وذلك دون أوامر من أحد، لكنه يخشى أن يصيبه ضرر.
متجر تحوّل إلى مسكن
حال التاجر نور الدين الرجبي ليس أفضل من السلفيتي، فهو وأشقاؤه أتلفوا جزءًا من بضاعتهم المتكدسة بعد انتهاء صلاحيتها بسبب قلة الإقبال على الشراء، والإغلاق الذي جاء بفعل جائحة كورونا.
يقول الرجبي الذي يسكن كفر عقب (شمالي القدس) إنه يمتلك مطعمًا للأكلات الشعبية، ومتجرًا آخر لبيع التحف أعادَ فتحه منذ فترة قصيرة بعد إغلاق دام عامَين، لكنّ جزءًا منه اضطر تحويله إلى مسكن يعيش فيه شقيقه بسبب ارتفاع إيجار البيوت التي تصلُ إلى 1000 دولار شهريًّا في البلدة القديمة، وقلة الإقبال على الشراء من المحل.
ويأمل أن يعوّض خسارته خلال شهر رمضان حيث مرور المصلين في الأقصى من أمام أسواق البلدة، داعيًا التجّار إلى استثمار قدوم الزائرين وعدم استغلالهم وإظهار الوجه الحسن.
ويذكر لـ”نون بوست” أن المحل الذي يعتاش منه ورثه عن والده، والتواجد في البلدة القديمة يعني تثبيت الهوية الفلسطينية والانتماء إلى القدس والأقصى، مشيرًا إلى أنه رغم الوضع الاقتصادي السيّئ الذي يمرّ فيه، إلا أنه يرفض كحال التجّار بيعه بملايين الدولارات للمستوطنين اليهود.
ضرائب وإغلاقات
بدوره يقول لؤي الحسيني، رئيس الغرفة التجارية والصناعية في القدس، إن التجار المقدسيين يعانون في الوقت الحالي من جائحتي كورونا والاحتلال على حد سواء، حيث قلة حركة السياح بسبب الإغلاقات والحواجز العسكرية، ما يؤثر على الوضع الاقتصادي بشكل كبير.
وأوضح الحسيني لـ”نون بوست” أن 40% من اقتصاد مدينة القدس يعتمد على السياحة، حيث المحال التجارية والمطاعم والفنادق والحافلات، مشيرًا إلى أن الوضع السياحي تأثّر بشكل كبير بعد جائحة كورونا، ولم يستطع فلسطينيو الداخل أو سكان الضفة المحتلة الوصول إلى أسواق البلدة القديمة، ما اضطر عدد من أصحاب المحال التجارية لإغلاقها لقلة الإقبال على الشراء وكثرة الضرائب التي تفرضها بلدية الاحتلال عليهم.
ونوّه إلى أن وضع أسواق البلدة القديمة صعب منذ بناء جدار الفصل العنصري عام 2000، وفصل الضفة المحتلة عن القدس، وبالتالي بات دخول الضفاويين إلى العاصمة بحاجة إلى تصريح من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وبحسب الحسيني، فإنه رغم تراجع القوة الشرائية في أسواق البلدة القديمة التي يتراوح عدد المحلات فيها ما بين 1000 و1500 محل، إلا أن بلدية الاحتلال تفرض عليها ضرائب متعددة منها “الأرنونا”، وهي لا توجد بأي مكان سوى بالقدس، وتجبر التاجر على دفع 400 شيكل عن كل متر مربع سنويًّا، عدا عن ضريبة التأمين الوطني والدخل والنظافة.
ويشير إلى أن التاجر في السابق لم يكترث لمجموع الضرائب، لأن الحركة السياحية والشرائية كانت عالية بخلاف الوضع الحالي، حيث القيود التي تعيق وصول السياح أو أهل القدس إلى أسواق البلدة القديمة.
ولفت الحسيني إلى أن العشرات من المحلات التجارية التي أغلقها أصحابها في أسوق البلدة القديمة حُوِّلت إلى مساكن ضمانًا لبقائهم، مبيّنًا أنهم في حال هجروها لا يستطيعون شراء بيوت في القدس لغلاء الأسعار، وبالتالي سيضطرهم إلى الاستئجار في الضفة ما سيفقدهم هويتهم المقدسية.
كما نوّه إلى أن الأحداث السياسية والمواجهات التي تقع بين جنود الاحتلال والشبان المقدسيين تؤثر على عمل الأسواق، ما يضطر أصحابها لإغلاقها خشية الملاحقة والاعتقال أو أن تتضرر محالهم، مشيرًا إلى أنهم ينتظرون شهر رمضان بفارغ الصبر، كون الحركة الشرائية تنتعش ويأتي الزبائن من مدن الضفة والقدس أو حتى من خارج فلسطين المحتلة.
مبادرات لدعم أسواق البلدة القديمة
بسبب معاناة تجار البلدة القديمة منذ سنوات طويلة، خُلقت بعض المبادرات التي تعزز تواجدهم، حيث يذكر الحسيني أن الغرفة التجارية في القدس تمنح “كابونات” لبعض الفقراء بقيمة معيّنة، وتحدد صرفها من صغار التجّار سواء من سوق اللحامين أو العطارين، وذلك بسبب تضررهم ووشك أغلبهم على الإفلاس، بعدما باعوا من مدخراتهم وممتلكاتهم خوفًا من الانزلاق في سوق العمالة داخل الأراضي المحتلة.
كما تطرّق لمبادرات مساعدة التجار لتحسين أوضاعهم، من خلال ترميم بسيط لمتاجرهم أو شراء معدات، ومساعدتهم على إعداد خطة تسويقية عبر الإنترنت، بالإضافة إلى مبادرة “جولات في البلدة القديمة” عبر استقدام حافلات من مناطق مختلفة وجذبهم لشراء “الكعك والبرازق” التي تشتهر بهما القدس، وبالتالي تنتعش الأفران المقدسية، ويتم استغلال ذلك بتعزيز التواجد الفلسطيني وتركيز الهوية المقدسية.
ومن ضمن المبادرات الهامة كما يصف الحسيني هي “سراج القدس”، التي هي عبارة عن محطة طاقة شمسية لإضاءة الشوارع المؤدية إلى المسجد الأقصى، تستفيد منها المتاجر حيث تنخفض التكلفة التشغيلية لها، وتبقى مفتوحة لساعات أكبر يمكنها استقبال الزبائن خلالها.
وفي ختام قوله، أكّد الحسيني على أن أسواق البلدة القديمة بحاجة إلى التواجد بشكل أساسي، فبمجرد الصلاة في المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة يمكن للمصلين المرور وشراء منتجات مقدسية تساعدهم على النجاة من التضييقات الإسرائيلية مؤقتًا.