في 23 مارس/ آذار الماضي اتهمت روسيا على لسان وزير خارجيتها، سيرجي لافروف، الولايات المتحدة بعرقلة المفاوضات الروسية الأوكرانية التي تقودها تركيا لإنهاء حالة الحرب الدائرة منذ 24 فبراير/ شباط 2022، معتبرًا أن واشنطن تسعى للهيمنة على النظام العالمي من خلال استراتيجية فرض العقوبات.
لافروف وخلال كلمة له ألقاها أمام جمع من الطلاب في موسكو، اعتبر أن “الكثيرين يريدون أن تكون هذه المفاوضات عبارة عن طريق مسدود”، ملمّحًا إلى أن إنهاء وضعية الحرب بسرعة ليس في صالح الأمريكيين الذين يهيمنون على القرار الأوكراني، ويرسمون مساراته التفاوضية التي تتأرجح بين جولة وأخرى، على حد قوله.
تتناغم الاتهامات الروسية مرحليًّا مع كواليس المفاوضات التي ترعاها أنقرة بين الجانبَين الروسي والأوكراني، والتي وصلت خلال الأيام القليلة الماضية إلى انفراجة نسبية، بعد اليأس الذي خيّم على الجولة الأولى التي عُقدت في بيلاروسيا، وسط تفاؤل بقدرة المفاوض التركي على جمع زعيمَي البلدَين على طاولة واحدة.
المعضلة الأبرز الآن التي تواجه المسار التفاوضي، تتمحور حول إصرار الولايات المتحدة تحديدًا على المضيّ قدمًا في فرض العقوبات الاقتصادية القاسية على الجانب الروسي، وهو الأمر الذي يثير شكوك الروس إزاء نوايا الغرب الحقيقية بشأن إنهاء الحرب، ما سيكون له ارتدادته العكسية على نجاح الجهود الدبلوماسية.. فهل تقف واشنطن فعلًا حجر عثرة أمام الوساطة التركية في هذا الملف؟
الوساطة التركية.. نجاح حتى إشعار آخر
فرض الموقع الجيوسياسي لتركيا نفسه كأحد الدوافع الاستراتيجية لقيام أنقرة بدور الوساطة في هذا الملف، كونها تتقاطع في مصالحها مع طرفي الحرب، روسيا وأوكرانيا، فضلًا عن خارطة علاقاتها المتشابكة مع القوى الداعمة لكلا الطرفين، المعسكر الشرقي ونظيره الغربي.
لم يكن اختيار أنقرة لسياسة الحياد في تعاطيها مع هذا الملف -على عكس العادة مع بقية الملفات الأخرى- اختيارًا عشوائيًّا، فشبكة المصالح المعقدة مع المعسكرَين ومحاولة استعادة الثقل الإقليمي وتجنُّب أي وضعية حرجة قد تفرض على الأتراك في مواجهة هذا التصعيد، من الدوافع الأبرز وراء القيام بدور الوساطة.
يرى الكاتب الصحفي التركي إبراهيم قراغول، في مقاله المنشور بصحيفة “يني شفق” اليومية التركية، أن المكانة السياسية لبلاده كانت العامل الأكثر حضورًا لتحركاتها الدبلوماسية لتبريد الأجواء الساخنة فوق الأراضي الأوكرانية، لافتًا إلى أن هذا الدور لا يمكن للقوى الأخرى القيام به، سواء معسكر أوروبا وأمريكا أو نظيره حيث الصين والهند واليابان.
تعزف أنقرة جيدًا على وتر تعزيز الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف، كأول لبنة في جدار التفاوض الجادّ الذي من المتوقع أن يفضي في النهاية إلى اتفاق سلام أو على الأقل إنهاء الحرب
ويرى قراغول أنه في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تلوّح فيه بعزل روسيا عن العالم مقابل تهديدات موسكو باللجوء إلى الخيار النووي، نجحت تركيا في دفع طرفَي النزاع إلى طاولة المفاوضات، ما يؤكد على حضور أنقرة الدولي التي اكتسبت ثقة الجميع لقيادة جهود الوساطة بعدما فشلت بعض الدول الأخرى.
اليوم باتت تركيا مركز الدبلوماسية العالمية، هكذا يعتقد الكاتب التركي، مستشهدًا على ذلك بالزخم الدبلوماسي الذي شهدته خلال الأيام الماضية، حيث كانت مزارًا وقبلة للكثير من زعماء وقادة العالم، أبرزهم الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، المستشار الألماني أولاف شولتس، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا.
رغم النجاح التركي في نقل الجانبَين الروسي والأوكراني من ميدان القتال إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، إلا أن أنقرة ليس لديها ما تقدّمه لإجبارهما على توقيع اتفاق سلام وإنهاء حالة الحرب، فقط تحاول عبر جهودها الدبلوماسية تقريب وجهات النظر من خلال أرضية مشتركة تحقق الحد الأدنى من الضمانات التي يريدها الجانبان.
تعزف أنقرة جيدًا على وتر تعزيز الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف، كأول لبنة في جدار التفاوض الجادّ الذي من المتوقع أن يفضي في النهاية إلى اتفاق سلام أو على الأقل إنهاء الحرب، تمهيدًا للدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات، غير أن هذا الوتر ربما يواجه تحديًا كبيرًا قد يجهض كافة تلك الجهود التركية، يتعلق بالموقف الأمريكي تحديدًا.
الغرب.. معضلة تركيا الأبرز
خطى مسار التفاوض خطوات جادة نحو الوصول إلى صيغة ربما تكون مقبولة لدى كل من موسكو وكييف، لا سيما بعد تفتيت الكثير من الكرات الصلبة التي وقفت حجر عثرة خلال جولات المفاوضات الأولى، وأبرزها حيادية أوكرانيا والتراجع عن فكرة الانضمام إلى حلف الناتو، بجانب الانسحاب الروسي من كييف والتفاوض بشأن مصير إقليم الدونباس الشرقي.
وتعدّ مسألة اختيار الدول الضامنة لأي اتفاق متوقع إبرامه بين الطرفين إحدى أبرز العقبات الآنية، إذ إن هناك عدة سيناريوهات بشأن هوية الدول الضامنة، منها أن تكون من أعضاء مجلس الأمن دائمي العضوية بالإضافة إلى الوسيط التركي، وآخر يتعلق بإشراك “إسرائيل” مع كندا وإيطاليا، غير أن السمة الأبرز في تلك السيناريوهات ميل معظمها إلى المعسكر الغربي، وهنا ربما تكون المعضلة بحسب الأكاديمي التركي وأستاذ القانون والعلاقات الدولية سمير صالحة.
التشكيلة الحالية لدول الضمان ربما تثير قلق موسكو بشكل كبير، كونها تتضمن تحولًا ضمنيًّا في مسألة انضمام كييف إلى الناتو، فبدلًا من ذهاب الأول إلى الأخير ربما يذهب الأخير بقواته وعتاده إلى الأول، هكذا يرى أستاذ العلاقات الدولية التركي، لافتًا في مقال له أن الكرة الآن باتت في ملعب موسكو وواشنطن في المقام الأول للوصول إلى تفاهمات رسمية بشأن صيغة الاتفاق.
بناء على المنظومة المتشابكة التي بنتها تركيا خلال السنوات الماضية من العلاقات المتداخلة مع روسيا والولايات المتحدة، كان الأتراك أحرص على إذابة جليد الأزمة ربما أكثر من طرفيها نفسيهما
ربما تكون دول أوروبا أكثر مرونة فيما يتعلق بالمفاوضات مع روسيا، وهو ما تترجمه التصريحات الإيجابية المتبادلة والاتصالات المستمرة بين قادة أوروبا والرئيس فلاديمير بوتين، فيما تبقى الولايات المتحدة وحدها هي المعضلة الأبرز التي ربما تُفقد الروس الثقة في فكرة الحل السلمي نهائيًّا.
ومن ثم إن مشكلة أنقرة الحقيقية الآن لم تعد مع موسكو وكييف، في ظل التفاهمات المشتركة بينهما، لكنها باتت وبشكل رسمي مع واشنطن تحديدًا، ففي ظل الإصرار الأمريكي على فرض العقوبات ضد روسيا واستمرار إدارة جو بايدن في تصعيدها السياسي والإعلامي ضد الكرملين، فإن المفاوضات برمّتها باتت مهددة وعلى رمال متحركة قابلة في أي وقت الخروج عن مسارها المأمول.
يصف الكاتب إبراهيم قراغول إصرار إدارة بايدن على فرض العقوبات على روسيا بأنها “حالة هستيرية عنصرية” شملت كافة المجالات، بما فيها الفن والثقافة، منوّهًا أنه بدلًا من وقوف واشنطن إلى جانب كييف في حربها ضد روسيا ودعمها بكافة السبل، إذ بها تكرّس كافة جهودها لتفكيك روسيا والاستيلاء على مواردها ونفوذها في مجال الطاقة، وتحقيق أكبر استفادة من الحرب الدائرة بصرف النظر عن خسائرها البشرية والإنسانية.
أنقرة في موقف صعب
منذ اليوم الأول للحرب التزمت أنقرة عبر خطابَيها الرسمي والشعبي بسياسة الحياد، والوقوف على مسافة واحدة من طرفَي الأزمة، وعليه وبناءً على تلك المنظومة المتشابكة التي بنتها خلال السنوات الماضية من العلاقات المتداخلة مع روسيا والولايات المتحدة، كان الأتراك أحرص على إذابة جليد الأزمة ربما أكثر من طرفيها نفسيهما.
النجاح الذي حققته تركيا حتى كتابة هذه السطور من دفع المتحاربين للجلوس وجهًا لوجه، والحديث عن احتمالية عقد لقاء بين الرئيس بوتين ونظيره زيلينسكي في إسطنبول، ربما لا يروق لواشنطن التي تحاول قدر الإمكان إطالة أمد الحرب بما يقوّض القوة العسكرية الروسية ويجهض اقتصادها، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الروسي في تصريحاته السابقة التي أشار فيها إلى أن إنهاء مسار الحرب لم يكن في صالح الولايات المتحدة.
تبذل إدارة بايدن، بمعزل عن عواصم أوروبا لا سيما باريس وبرلين، جهودًا حثيثة للإبقاء على التمرُّغ الروسي في الوحل الأوكراني أطول وقت ممكن، مستندة في ذلك إلى تحقيق التوازن الميداني من خلال دعم كييف بالأسلحة والعتاد بما يُبقي الحرب سجالًا دون انتصار مؤزر أو هزيمة ساحقة.
الأزمة لم تعد في كيفية إقناع كييف وموسكو في التوصُّل إلى اتفاق سلام، قدر ما هي إقناع واشنطن أن تتخلى نسبيًّا عن استراتيجية التصعيد المستمر ضد الروس كبادرة ثقة لتقريب وجهات النظر
ومن هنا تبدو أنقرة في وضعية غاية في الدقة والحرج، خشية تطور التصعيد بين القوتين، الأمريكية والروسية، إلى الحد الذي لا يجدي معه سياسة الحياد، ليجد الأتراك أنفسهم أمام موقف يفرض عليهم الانحياز إلى أي من الطرفين، وهو ما قد يطيح بالإرث الدبلوماسي الذي بنته تركيا طيلة العقود الماضية لتحقيق التوازن في العلاقات بين الشرق والغرب، بما يحفظ لها حضورها وثقلها ولا يزجّ بها في أتون الصدام مع أي من القوتين التي تتماسّ مع كليهما في مصالحها المشتركة وأمنها القومي.
وبلغة الواقع، ربما تملك تركيا العديد من الأوراق التي تؤهّل نجاح وساطتها، وقد تكون هي الأكثر حضورًا لريادة هذا الملف، غير أن السياسة الأمريكية والرغبة في تفريغ الروس من قوتهم قدر الإمكان ربما تكونان سببًا رئيسيًّا في عرقلة تلك الجهود.
هذا لا سيما أن بايدن الذي يعاني من تراجع في شعبيته جرّاء الفشل في التعاطي مع العديد من الملفات أبرزها الاقتصادي، يتعامل مع الملف الأوكراني كمسألة حياة أو موت لإنعاش حظوظه في الدخول على خط المنافسة مرة أخرى تمهيدًا لولاية رئاسية قادمة، عبر استعادة بعض من جماهيريته المجروحة من خلال الخطاب الشعبوي الذي يعزف على وتر الهيبة الأمريكية في مواجهة أحلام السوفيت التوسعية.
في ضوء ما سبق، تبقى التغيرات التي انتابت معادلة الوساطة التركية بعد مسارات النجاح التي شهدتها هي الأكثر حضورًا على الأجواء المرحلة المقبلة، فالأزمة لم تعد في كيفية إقناع كييف وموسكو في التوصل إلى اتفاق سلام، قدر ما هي إقناع واشنطن أن تتخلى نسبيًّا عن استراتيجية التصعيد المستمر ضد الروس كبادرة ثقة لتقريب وجهات النظر.