يقوم السلوك الأمني الإسرائيلي على اعتماد الدعاية كمرتكز أساسي في العمل الموجه للخارج، خصوصًا في الصراع مع الفلسطينيين وفصائل المقاومة في قطاع غزة المحاصر، بهدف اللعب على وتر الحرب النفسية وتسجيل نقاط في المعركة العسكرية.
ويعتمد السلوك الدعائي على مسارات ذات أبعاد أمنية وعسكرية تقوم بالأساس على تلميع “وحدات النخبة” التابعة له، في ظل تتالي العمليات العسكرية الفاشلة خلال السنوات الـ 10 الأخيرة على صعيد قطاع غزة المحاصر أو الضفة الغربية المحتلة.
وتتّخذ أشكال الدعاية بالنسبة إلى الاحتلال عدة أوجه، لعلّ أبرزها “المنسق” الذي يحاول أن يقوم بالدعاية “الإنسانية” عبر “تسهيلات” مزعومة للفلسطينيين تتناقض مع الواقع، أو الوحدة 8200 التي تتولى مراقبة المحتوى الفلسطيني عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ويستند الاحتلال في الخطاب الدعائي إلى بُعدَين اثنين، هما الخطاب الموجه للداخل الإسرائيلي القائم على تضخيم العمل العسكري وتقليل الخسائر، وتعزيز الروح المعنوية وحجب التفاصيل المتعلقة بالخسائر بأكبر قدر ممكن، ومحاولة تعزيز الإنجازات من أجل تشجيع المستوطنين للالتحاق بالجيش بعد التراجع الكبير مؤخرًا.
أما على صعيد الخطاب الموجه للفلسطينيين، فيركّز الاحتلال على إظهار قوة هذه الوحدات في العمل الميداني أو عبر ما تمتلكه من قدرات تكنولوجية وعلمية هائلة، أمام بساطة ما يمتلكه المقاومون وفصائل المقاومة في محاولة لتضخيم الثمن.
وتُعتبر ممارسة الدعاية بالنسبة إلى الاحتلال ذات سياسة استراتيجية وليست عملًا تكتيكيًّا، حيث يركز عليها في العمل الأمني والعسكري وحتى الوسائل الإعلامية الإسرائيلية باعتبارها تحظى بمتابعة فلسطينيًّا، في حين يقتصر الأداء الدعائي الفلسطيني على المقاومة.
أما فلسطينيًّا، فتمارس المقاومة الدعاية المضادة، سواء عبر استخدام خصائص السلاح أو الردّ على الدعاية الإسرائيلية بما يخدم أهدافها ووفقًا لسير المشهد الميداني، وهو ما يحضر بصورة أكبر أوقات التصعيد وجولات المواجهة.
الدعاية كمرتكز في العمل العسكري الإسرائيلي
إن أي أعمل دعائي ينطلق من داخل منظومة جيش الاحتلال له أكثر من مستوى وأكثر من شكل، إذ يبدأ هذا الأمر من الناطق باسم الجيش ثم المنسق ثم وحدة 8200 ثم مركز عمليات الوعي المعروف باسم “مالات” ثم الرقابة العسكرية، وتعتبر هذه الوحدات المكوّن الأساسي للعمل الدعائي التابع لجيش الاحتلال.
أما عن الأشكال الميدانية للدعاية، فينشط بعضها بالشراكة بين الوحدات مثل تقاطع مركز عمليات الوعي “مالات” مع وحدة “دوفدوفان”، إحدى وحدات النخبة التابعة للاحتلال التي تتركز على الاعتقالات المعقدة أو تنفيذ عمليات الاغتيال لخلايا المقاومة الفلسطينية.
ويحاول الاحتلال في تقاطع “مالات” مع “دوفدوفان” أن يستغلَّ خصائص السلاح في الجيش، والصورة الحاضرة المكوَّنة في العقل الفلسطيني لإعادة تدويرها من أجل تحقيق تأثير نفسي ضد الفلسطينيين، حتى إن فشلت هذه الوحدات.
شكّلت النجاحات الميدانية التي حققتها المقاومة على الأرض رافعة لممارسة أكبر قدر ممكن من العمل الدعائي ضد الاحتلال، ومواجهة الخطاب الدعائي بقوة، وتسجيل نقاط ضد الاحتلال، وهزّ صورة منظومته الأمنية والعسكرية أمام مستوطنيه
وتؤثر حالة الفشل العملياتي للوحدات الخاصة عند محاولة تنفيذ بعض العمليات في غزة أو الضفة ضربة للعمل الدعائي، سواء الذي يتمّ تصديره للجبهة الداخلية في الاحتلال أو الذي يتمّ تصديره للفلسطينيين، مثلما حدث في عملية “حد السيف” وفي معركة “سيف القدس” وغيرهما من الأحداث مؤخرًا.
ويتعامل الاحتلال عند الفشل مع مسارَين في العمل الدعائي، إما الحجب المتعلق بمنع نشر كافة المعلومات والتفاصيل المتعلقة بالفشل، وإما الاجتزاء واللجوء لقلب الحقائق عبر نشر جزء منها ضمن سياسة وخطة مدروسة تستهدف تصدير عوامل خارجية لتحميلها مسؤولية الفشل.
وبموازاة ذلك، تركّز السياسة الإسرائيلية في خطابها الداخلي على تقليل الخسائر النفسية، فإذا كان هناك عدد من القتلى في عملية فدائية فلسطينية، تقوم بالإعلان عن قتيل أو اتّباع نهج التدريج الزمني، بحيث يعلن عن القتلى بطريقة متباعدة عبر سياسة التقطير المعلوماتي.
دوافع وأهداف الاحتلال.. “الجندي الإسرائيلي خارق”
“الجندي الإسرائيلي خارق”، يعتبر هذا الهدف الأسمى من الدعاية الإسرائيلية المركزية التي تمرّ بالمسارَين الداخلي والخارجي، فمن جهة يعاني الاحتلال منذ سنوات وبصورة ملحوظة فيما يتعلق بعملية التجنيد الخاصة بالوحدات القتالية.
وبات الكثير من الجنود يميلون إلى العمل في الوحدات التكنولوجية البعيدة عن العمل الميداني، ما يسبّب أزمات حقيقة للاحتلال فيما يخصّ كفاءة الجنود العاملين في الميدان، في وقت تغيب فيه الحوافز للعمل ضمن هذه القوات.
ومن جانب آخر يسعى الاحتلال لممارسة كيّ الوعي ضد الفلسطينيين، ومحاولة إبقاء فكرة أن الجندي الإسرائيلي أكثر قدرة على تنفيذ الاغتيالات، بما يمتلكه من ترسانة عسكرية تعتبر من أقوى الترسانات في العالم نتيجة الدعم الأمريكي.
ومع تطور قوة المقاومة العسكرية باتت هذه السياسة تواجه الفشل في مختلف الساحات، لا سيما مع تطور الوعي الدعائي والأمني لدى الفلسطينيين، وبالذات المجموعات والخلايا المقاومة، وهو الأمر الذي يجعل الاحتلال غير متحكم بقواعد المشهد من شتى المجالات.
وشكّلت بعض الصور ومقاطع الفيديو التي كشفت عنها المقاومة منذ عام 2014 ضربة لصورة “الجندي الإسرائيلي الخارق” الذي سعى الاحتلال لتكريسه، خصوصًا عمليات الإنزال التي نُفِّذت على حدود غزة خلال تلك المعركة، وعمليات الاشتباك المباشرة مع الجنود وهربهم من المقاومين، واقتصر التعامل الإسرائيلي معها على سياسة الحجب ومنع التداول.
دعاية الفلسطينيين المضادة.. هل تمارس المقاومة الدعاية؟
لا يمكن نفي ممارسة المقاومة الفلسطينية للعمل الدعائي في خطابها المضاد لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا مع تطور تشكيلاتها وتفصيلاتها في السنوات الأخيرة وعلى وجه التحديد في قطاع غزة المحاصر، حيث باتت تركّز في خطابها على بُعد الجبهة الداخلية والقاعدة الشعبية وتحديدًا أوقات الحروب والمواجهات، إلى جانب جبهة الاحتلال ومستوطنيه.
ولعلّ من أبرز أشكال الدعاية التي تمارسها المقاومة هي استغلالها لخصائص السلاح، مثلما حصل في “سيف القدس” حينما استغلت الضربات الصاروخية لإرباك الجبهة الداخلية في الاحتلال، وتعزيز الروح المعنوية للفلسطينيين.
وبموازاة خصائص السلاح، فإن دعاية الفعل مثل العمليات في الضفة والقدس المحتلتَين لها مردود جسدي، إضافة إلى التأثير السيكولوجي على العدو، ما يعزز من حضور المقاومة أكثر ويخدمها ميدانيًّا في تنفيذ خططها والضغط على الاحتلال أكثر.
وتحضر في المرتبة الثانية والثالثة التصريحات السياسية والعسكرية والاستعراضات والأعمال الدرامية، وهي أصناف أصبحت المقاومة تمارسها بوتيرة أكثر ممّا كانت عليه في السابق، إلا أن هذه الأنواع من الدعاية قد تكون محدودة التأثير في العدو مقارنة بالأشكال الأولى.
بالعموم، تعتبر ساحة العمل الدعائي جبهة من جبهات الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، والتي يحاول كل طرف من الأطراف أن يكسب هذه المعركة وفقًا لما يحققه من إنجازات عسكرية على الأرض.
وشكلت النجاحات الميدانية التي حققتها المقاومة على الأرض رافعة لممارسة أكبر قدر ممكن من العمل الدعائي ضد الاحتلال، ومواجهة الخطاب الدعائي بقوة، وتسجيل نقاط ضد الاحتلال، وهزّ صورة منظومته الأمنية والعسكرية أمام مستوطنيه.