مع قرب دخول الغزو الروسي لأوكرانيا شهره الثاني، دون أن تكون هناك نتائج إستراتيجية ملموسة على الأرض، وتحديدًا في سياق الأهداف التي أعلنتها روسيا، فإن هذا الواقع يدعونا لمناقشة فرضية خسارة روسيا لهذه الحرب، وذلك بناءً على عدد من المعطيات الإستراتيجية التي أفرزتها الإستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لذلك يجب مناقشة سبب خسارة روسيا لها، ومن ثم الحديث عن المفاتيح التي أوضحت العقيدة العسكرية السوفيتية/الروسية، كونها ستعطي سياقًا أوضح للأحداث الجارية، وتساعد أيضًا في توقع الإجراءات العسكرية الروسية في المرحلة المقبلة.
إذ تظهر خرائط وكالة الأنباء الفيدرالية الروسية تراجعًا كبيرًا على ما يبدو في إستراتيجية الحرب الروسية، فقد تخلت روسيا في اليومين الماضيين عن خططها الأولية للاستيلاء على كييف والسيطرة على كامل أوكرانيا، وبالتالي فإن هذا يعني استبعادًا كاملًا لهدف تغيير النظام وضم أوكرانيا، والأمر الأكثر إثارة للاهتمام أن لهجة الخطاب العسكري الروسي تغيرت، فحتى 2 أبريل/نيسان الحاليّ، كانت القيادة العسكرية الروسية تنشر بيانات عسكرية حديثة، وبصورة مستمرة عن سير العمليات العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، إلا أنه بعد هذا التاريخ أصبحت هذه البيانات مقتضبة جدًا.
كيف ترجم الروس التراجع العسكري داخل أوكرانيا؟
قال نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال ألكسندر فومينا: “قررنا بشكل جذري، ولعدة أسباب تقليص أنشطتنا العسكرية في اتجاه مدن كييف وتشرنيغيف، ونفترض أن كييف ستتخذ القرارات المناسبة، وتهيئ الظروف للتعاون في المستقبل”، إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن هذا لا يعني خفضًا للتصعيد، بل إن المرحلة الأولى من العملية الخاصة الروسية “اكتملت بنجاح” على ما يبدو، وهي إضعاف القدرات العسكرية للجيش الأوكراني، من أجل تسهيل المهمة الروسية في تركيز جهودها على هدفها الرئيسي – السيطرة على دونباس بالكامل -، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن تثبيت وضع نهائي في دونباس هو الهدف الحقيقي من الحرب، وليس احتلال أوكرانيا بالكامل.
لم يتوقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقاومةً كبيرةً، معتقدًا أن الأوكرانيين سوف يستسلمون فقط
حيث يجادل العديد من المراقبين الموالين لروسيا بأن الانسحاب من الشمال خطوة عبقرية: الروس يعيدون تجميع صفوفهم لشن هجوم كبير في الشرق، وهذا ليس خطأ من الناحية الإستراتيجية، وفي الواقع، سيشكل الهجوم الروسي من أجل إحكام السيطرة على دونباس، تحولًا نوعيًا في سياق العملية العسكرية، ما يشير إلى أن الانسحاب الروسي من الشمال خطوة متعمدة، من أجل إعادة صياغة مسرح العمليات وفق المعطيات الجديدة التي ستفرزها عملية السيطرة الكاملة على دونباس.
ولتوضيح الصورة أكثر، سنحتاج إلى معرفة الكيفية التي سارت على أساسها الإستراتيجية الروسية قبل الانسحاب، وما الأراضي التي سيطر عليها الروس؟ إذ تظهر عملية عدم الاستعجال الروسي في احتلال المدن أو حتى في الإصرار على ذلك، أنهم وجدوا في المقاومة الأوكرانية كلفة إستراتيجية كبيرة، فيما لو حاولت دخول المدن، مستذكرةً بذلك سيناريو حرب الشتاء عام 1940، عندما عزلت القوات الفنلندية الأصغر الغزاة السوفييت ودمرتهم، حيث دمر الفنلنديون القوات السوفيتية باستخدام تكتيكات حرب العصابات في الشتاء، وهي تكتيكات طبقها الأوكرانيون أيضًا، وإذا استمرت الحرب حتى الصيف، فإن ميزة استخدام تكتيكات مماثلة في الصيف، من خلال استخدام الأشجار المغطاة بأوراق الشجر، ستمنح رجال العصابات الأوكرانيين اليد العليا على القوات النظامية الروسية.
إذًا كيف ستخسر روسيا الحرب؟
كيف يمكن للجيش الروسي المتفوق على ما يبدو أن يفشل فشلًا ذريعًا في أوكرانيا؟ بالطبع جادل الكثير من المراقبين بأن سيناريو الفشل مستبعد جدًا، وتوقع هؤلاء انهيار أوكرانيا في غضون أيام أو أسابيع قليلة، إلا أنهم على ما يبدو لم يتنبؤوا بشكل صحيح بمسار الحرب، وذلك بناءً على ثلاثة عوامل هي: المبالغة في تقدير الجيش الروسي السوفيتي (أو بالأحرى أساؤوا فهمه)، وعدم أخذ قدرات الجيش الأوكراني على محمل الجد، وتجاهلوا الأهداف السياسية الروسية.
إن الجيش الروسي مجرد جيش سوفيتي تم إصلاحه بشكل سطحي، وفي هذا السياق فإن عقيدة الجيش السوفيتي كانت هي الأخرى مبنية على مهام معدة مسبقًا هي: كسب الحرب النووية وتهدئة التوترات الإقليمية، إذ تم تصميم الجيش السوفيتي للحرب النووية، وهكذا تم تطوير جميع فروع الجيش للحرب التي قد تنطوي على توظيف جماعي للأسلحة النووية، وهو ما يختلف تمامًا عن الحرب التقليدية التي جعلت الجيش الروسي يعاني كثيرًا في الحرب على أوكرانيا.
المفاجأة أمام الرئيس بوتين هي مدى صعوبة الاعتداء على المواقع النووية في المدن، كما أن المفاجأة الأخرى هي إستراتيجية الصمود التي تحلى بها الجنود الأوكرانيون
وبينما كانت روسيا تهدف إلى تحقيق نصر سريع في أوكرانيا، لم يكن من المخطط أن تكون حربًا خاطفةً، بل لم يكن مخططًا أن تكون حربًا على الإطلاق، كان هناك طموح روسي لتكرار سيناريو “نهر الدانوب”، عندما قام الاتحاد السوفيتي بتهدئة تشيكوسلوفاكيا المنشقة عام 1968، وإنهاء ربيع براغ، فما هو المشترك بين أوكرانيا وتشيكوسلوفاكيا إذًا، في كلتا الحالتين كانت موسكو غير راضية عن القيادة السياسية لدولة في أوروبا الشرقية، ومن حياتها السياسية الحرة للغاية وغير المنظمة، كان ذلك غير مقبول سوفيتيًا ويجب وقفه.
وعلى الرغم من أن غزو أوكرانيا عام 2022 تم تصميمه على غرار غزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968، فإنه كان أسوأ استعدادًا، ففي عام 1968 تعرضت تشيكوسلوفاكيا لهجوم من قوة هائلة قوامها 500000 ألف مقاتل سوفيتي في مستويين: المستوى الأول من 250000 يدفع للأمام، والثاني يأتي بعده، ويحتل الأرض ويؤمن خطوط الإمداد، في حين غزت روسيا أوكرانيا بقوة أقل بكثير: فقط 160-190 ألف جندي روسي عبروا الحدود مع أوكرانيا في أواخر فبراير/ شباط الماضي، تقدموا إلى الأمام، لكن لم يأتِ أي جيش ثانٍ لاحتلال الأراضي الواقعة خلف الأول وتأمين خطوط الإمداد، لأنها لم تكن موجودة أصلًا.
فشل الجهود الاستخبارية الروسية بشأن أوكرانيا، في الحصول على المعلومات العسكرية الدقيقية وعدم الاستعداد الداخلي الروسي لهذه الحرب، قد يفسر سبب المبالغة في تقدير المحللين للجيش الروسي
لم يتوقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقاومةً كبيرةً، معتقدًا أن الأوكرانيين سوف يستسلمون فقط، فقد استهان الرئيس بوتين وبعض المحللين الغربيين بالتأثير الثقافي لكارثة دونباس التي طمست المشاعر المؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا، حتى الدعاية الرسمية الروسية تعترف بأن الروس أساؤوا تقدير المشاعر الجماهيرية في أوكرانيا، لقد اعتقدوا خطأً أن الأوكرانيين مجرد روس، وأن الاستقلال مجرد لعبة هزلية، في غضون ذلك، واجهوا بشكل غير متوقع مقاومة كبيرة وحازمة.
وكانت المفاجأة أمام الرئيس بوتين هي مدى صعوبة الاعتداء على المواقع النووية في المدن، كما أن المفاجأة الأخرى هي إستراتيجية الصمود التي تحلى بها الجنود الأوكرانيون، فحتى القصف الروسي العنيف للغاية، عادةً ما يترك عددًا كافيًا من المدافعين على قيد الحياة لمواصلة القتال، فقد أثبتت مدينة ماريوبول أنها أفضل مثال على ذلك، ومن ثم فإن هذا يؤشر إلى أن ضعف الجيش الروسي منطقي تمامًا، ما يطرح تساؤلًا مهمًا في هذا الإطار: لماذا لا يكون لروسيا جيش مشاة جيد مثل أوكرانيا؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل إلى حد كبير تتمحور حول فكرة أن مثل هذا الجيش سيشكل تهديدًا سياسيًا للكرملين، وللرئيس بوتين شخصيًا، في ظل تصاعد التذمر الداخلي على سياساته الخارجية.
كما أن فشل الجهود الاستخبارية الروسية بشأن أوكرانيا، في الحصول على المعلومات العسكرية الدقيقة وعدم الاستعداد الداخلي الروسي لهذه الحرب، قد يفسر سبب المبالغة في تقدير المحللين للجيش الروسي، وبالشكل الذي جعل حتى نقاط ضعفه غير ملحوظة حتى بدأت الحرب الأوكرانية، ليتضح فيما بعد عمق الأزمة الكبيرة التي بدت عليها الآلة العسكرية الروسية في أوكرانيا.