لم يكتفِ نظام الأسد باعتقال السوريين وتكبيل حريتهم والتنكيل بهم وتعذيبهم حتى الموت في سجونه وزنازينه، بل زاد على ذلك بأن صادر أملاكهم وجردهم من أصولهم وأموالهم بكل طريقة، فجنود النظام وعناصر المخابرات كانوا خلال اقتحامهم البيوت لاعتقال السوريين منذ بداية الثورة يأخذون ممتلكات المنازل ويسرقون منها الأموال والذهب وما غلا ثمنه.
كان ذلك إستراتيجية ممنهجة للنظام من أجل إنهاك معارضيه، فالذي يخرج منهم من المعتقل بات لا يملك شيئًا يقتات منه فينشغل في نفسه عن معارضة النظام، ولعل السرقة والتعفيش من المبادئ التي يعتاش عليها عناصر النظام منذ بداية الثورة السورية، وربما يقول بعض الموالين إن ما حصل كان تصرفات فردية أو تصرفات ضباط وليست منهجية يتبعها نظام الأسد.
لكن الوقائع تتحدث عن أن النظام بات يستولي يومًا بعد آخر على ممتلكات معارضيه إن كانوا معتقلين أو مهجرين، وقد أصدرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا تقريرًا قالت فيه: “النظام في سوريا استولى على أموال وممتلكات تعود لمعتقلين ومختفين قسرًا تقدر قيمتها بـ1.5 مليار دولار منذ عام 2011 وحتى 2021، مستغلًا معاناتهم لتحقيق مكاسب مالية”، بما يعني أن النظام يشرف على هذا الأمر بشكل منهجي على أعلى مستوى.
“أخذوا كل شيء”
قالت رابطة المعتقلين في تقريرها الذي أصدرته بالتعاون مع صحيفة غارديان البريطانية: “الأصول التي استولى عليها النظام تشكل أرصدةً ماليةً وعقارات وشركات وسيارات وموادًا مثل المجوهرات والأجهزة الإلكترونية ومعدات ومحاصيل زراعية وماشية ودواجن”، وقدرت الرابطة هذه الأصول بقيمة 1.5 مليار دولار وفقًا لمعلومات تم جمعها من مقابلات مع معتقلين سابقين تم تجريدهم من أراضيهم وممتلكاتهم وأصولهم المالية من خلال أوامر من المحاكم وقرارات رسمية أخرى، كما يرجح التقرير أن الرقم أعلى من ذلك بكثير كون هذه الأصول تصادر بشكل غير رسمي.
وتقدر الرابطة أن ما يقرب من 40٪ من المعتقلين بعد الانتفاضة السورية عام 2011 تعرضوا لمصادرة أملاكهم. وتشير إلى أن النظام حاول الالتفاف على العقوبات الدولية من خلال هذه الإيرادات، مع ضمان عدم وجود أي شيء للمعتقلين السابقين في المنفى يعودون إليه.
إضافة إلى معاقبة المعارضين وأهاليهم، أرجعت الرابطة أسباب مصادرة الممتلكات والأموال إلى أن النظام الذي يعاني من ضائقة مالية اضطر للبحث عن مصادر تمويل أخرى، بما في ذلك الابتزاز المالي لعائلات المحتجزين والاستيلاء على الشركات والسيطرة على رؤوس الأموال.
ويأتي الارتفاع المضطرد في مصادرة أصول المعتقلين كسلوك هو الأحدث في سلسلة الإجراءات اليائسة التي لجأ إليها النظام من أجل صموده المالي ومحاربة آثار العقوبات.
من القصص التي رواها التقرير، ما حصل مع طارق إبراهيم المعتقل سابقًا في سجن صيدنايا الذي أصبح يسمى بـ”المسلخ البشري”، خرج المعتقل من السجن عام 2020 ليجد أن النظام استولى على كل ما تملك عائلته، إضافة إلى أن أهله دفعوا الكثير للضباط لإخراجه من المعتقل، يقول طارق: “عندما خرجت من السجن اكتشفت أنني فقدت أكثر مما كنت أتخيله، لقد صادر النظام كل ما نملكه من الممتلكات والمحال”.
يضيف طارق “لقد أخذوا كل شيء، عائلتي باعت السيارات التي تمتلكها لدفع رشاوى من أجل إخراج أخوتي من السجن”، ويشير إلى أنهم كانوا يمتلكون 10 آلاف متر مربع من الأرض بالإضافة إلى منزل مساحته 750 مترًا، ويوضح طارق أن النظام منح نصف أراضيهم للميليشيات الإيرانية والنصف الآخر سيطرحه للبيع في مزاد علني، ويشير المعتقل السابق إلى أنهم لن يستطيعوا إعادة شيء، “لقد أخذوا منا كل ما نملك ولا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك، لقد تم تجريدنا أنا وأخوتي من جميع حقوقنا، لذا لا يمكننا تقديم أي طلبات استعادة ما هو حق لنا من الناحية القانونية”.
معدوا التقرير أجروا مقابلات مع 105 معتقلين سابقين، ويوضح هؤلاء الأشخاص الأشياء التي استولى عليها النظام، فتأتي في الدرجة الأولى السيارات والأثاث المنزلي والمبالغ النقدية والأرصدة البنكية، فيما تحل في الدرجة الثانية الأجهزة الإلكترونية والمجوهرات ثم الآلات والمواشي والطيور، كما لم تنج من المصادرة الآلات الزراعية والبضائع التجارية.
يشير التقرير إلى أن الأموال المصادرة وفق الطرق الرسمية التي تم التحقق منها بعدة آليات تتجاوز نصف ميزانية سوريا لعام 2021، وتؤكد رابطة المعتقلين أن هذه تقديرات منخفضة جدًا، فيقول دياب سرية، أحد مؤسسي رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا: “يكشف هذا التقرير الحجم المروع للاستغلال المالي وإساءة معاملة المعتقلين الذين أُجبروا بالفعل في كثير من الحالات على تحمل سنوات من التعذيب الممنهج وظروف السجن غير الإنسانية، كما يفضح عمق فساد نظام الأسد والتكتيكات القاسية التي يستخدمها للنجاة من الأزمة الاقتصادية الرهيبة، وتدمير حياة المعتقلين لفترة طويلة بعد مغادرتهم السجن”.
استغلال وابتزاز
في سياق ذي صلة، يستغل النظام السوري معاناة أهالي المعتقلين والمفقودين الذين يبحثون عن أمل بسيط يتعلقون به لمعرفة مصير أبنائهم المعتقلين أو لمحاولة إنقاذهم من المعتقلات والمراكز الأمنية، وتبحث العوائل عن أشخاص ذوي نفوذ للتوسط لدى النظام من أجل تحديد مكان المعتقل أو معرفة ما إذا كان حيًا أو ميتًا أو إخراجه من مكان سجنه.
هذا الأمر أصبح تجارةً رابحةً لدى النظام السوري، خاصة أن العوائل تتعلق بقشة من أجل معرفة مصير ابنها المعتقل، وتدفع الغالي والنفيس لتخليصه من المعاناة التي يلاقيها داخل الأفرع في حال كان حيًا، وفي السياق يقول الشاب أبو عادل المعتقل السابق في سجن صيدنايا إن أهله دفعوا لضابط من النظام ما يقرب من 60 ألف دولار لإخراجه من السجن، و”استمرت الإجراءات أكثر من سنة حتى أنجاني الله من صيدنايا”.
يروي أبو عادل لـ”نون بوست” أنه منذ خرج من المعتقل يواصل الليل بالنهار من أجل سداد ديون أهله للناس التي تراكمت عليهم بسبب محاولة إنقاذه من المعتقل، فقد جمعوا ما يقرب من 30 ألف دولار دينًا، والباقي حصّلوها بعدما باعوا قطعتي أرض لدفع قيمتهما للضابط، ويروي أبو عادل أن كثيرًا من عوائل المساجين في صيدنايا أو غيرها يدفعون مئات الآلاف من أجل أولادهم، لكن قليلًا منهم من يخرج.
طبعًا كان الشاب أبو عادل محظوظًا لأنه خرج من المعتقل، ويروي أن هذه المرة هي الثانية التي حاول أهله إخراجه فيها، فقد حاولوا في المرة الأولى ودفعوا ما يقرب من 20 ألف دولار ولم يستطيعوا نتيجة احتيال الضباط عليهم، كما يتحدث عن العديد من العوائل الذين “يدفعون مبالغ طائلة من أجل رؤية أولادهم، لكن لا نتيجة، فالأمر أصبح تجارة رابحة للنظام يبتز بها الأهالي ويستغل محنتهم للتكسب وزيادة موارده.
وفي تقرير سابق وثقت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” حالات الاختفاء القسري في سجون النظام السوري، واستغلاله عمليات الاعتقال لجني المال وزيادة نفوذه الأمني، ويتحدث التقرير عن ضلوع الأجهزة الحكومية بحالات الاختفاء والعائد المالي الضخم للنظام إثر استغلاله عائلات المعتقلين.
وأشارت الرابطة إلى عمليات الابتزاز المالي لعائلات المعتقلين والمختفين قسرًا، مقابل تزويدهم بمعلومات عن أبنائهم، وقد جنى النظام السوري من هذه العمليات وحدها ما يقارب 900 مليون دولار أمريكي منذ بداية 2011 حتى الآن.
تدمير المعارضين
وثق تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو 149 ألفًا و862 شخصًا ما زالوا معتقلين منذ عام 2011، على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، معظمهم على يد النظام السوري، إذ يعتقل النظام نحو 87.73% من إجمالي المعتقلين، أي نحو 131 ألفًا و469 شخصًا من بينهم 3621 طفلًا و8037 امرأة.
وأكد تقرير الشبكة الصادر أواخر عام 2021 أن هذه الأرقام لا تمثل إلا الحد الأدنى من حوادث الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري التي تمكنوا من توثيقها، فالكثير من الصعوبات تواجههم خلال توثيق حوادث الاعتقال، أبرزها – بحسب التقرير “رفض الأهالي توثيق خبر اعتقال أبنائهم خوفًا من تعرضهم لتعذيب أكبر، وفقدان ثقة المجتمع السوري من جدوى التعاون في عمليات التوثيق”.
لا يقتصر أمر مصادرة الأملاك على المعتقلين، فهذه الإستراتيجية يتبعها النظام مع معارضيه بشكل عام، حتى إنه هدد بها المتخلفين عن الخدمة في قوات جيش نظامه، إذ أعلن النظام منذ سنة تقريبًا أن مديرية التجنيد العامة ستصادر أموال وممتلكات كل من يبلغ سن 42 عامًا سواء كان داخل سوريا أم خارجها، ممن لم يؤدّ الخدمة العسكرية أو يدفع بدل فواتها، وإن لم يكن لديه أملاك أو عقارات فسيُنفّذ الحجز الاحتياطي على أملاك أهله وذويه.
وعمل النظام أيضًا على وضع يده على أملاك الأشخاص الذين هجرهم من بلداتهم ومناطقهم بعد مغادرتهم للمنطقة، يذكر أن النظام أصدر القانون رقم 10 في أبريل/نيسان 2018 وغيره من القوانين التي تنتهك حقوق الملكية للشعب السوري ككل، وينص قانون رقم 10 على مصادرة الأموال غير المنقولة، في حال لم يثبت أصحابها ملكيتهم لها خلال شهر، هذا القانون الذي أثار إدانة دولية واسعة باعتباره استثمارًا من النظام لغياب الناس عن بلدهم وفقدانهم لأوراقهم للاستحواذ على أملاكهم بطرق “قانونية”.
مما سبق يكون النظام قد استفاد ماليًا، وفي الوقت ذاته عمل على تدمير معارضيه من خلال تجريدهم من حقوقهم في بلدهم وسلبهم أرضهم وبيوتهم كنوع من أنواع العقاب على أنهم ثاروا ضده، وفي المقابل يمنح الغرباء من الميليشيات الإيرانية وغيرها حق الإقامة في أي بيت أرادوا وفي أي أرض شاؤوا وكل ذلك وفقًا لمنظور رئيس النظام بشار الأسد: “إن الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جنسيته وجواز سفره بل لمن يدافع عنه ويحميه”.