نعيش اليوم في أقصى مراحل الشد والجذب بشأن التطبيع وتعريفه وحتى الجدوى منه، في ظل أنظمة عربية تسارع في إبرام اتفاقيات دبلوماسية وتجارية وحتى رياضية مع “إسرائيل”، وتعتبر الساحة الرياضية مسرحًا تحاول فيه “إسرائيل” تشريع وجودها، وتسابق عقارب الزمن لتجميل صورتها، مستخدمة الساحة الرياضة.
وارتفعت في الآونة الأخيرة ظاهرة التطبيع الرياضي العربي التي وصلت إلى حد دعوة رياضيين في عواصم عربية للمشاركة واللعب بكل محبة وروح رياضية وانسجام، فـ”إسرائيل” تدرك أن الشارع العربي ما زال غير متقبل لها، فتعمل على إعادة هندسة الوعي العربي عن طريق الرياضة وتقبلها كجارة وبذلك التسليم بمشروعيتها.
مخطئ من يقول إن الرياضة والسياسة شيئان منفصلان، بل الرياضة لها تأثير كبير في السياسة وحتى في العلاقات الدبلوماسية، فالرياضة من شأنها تخريب العلاقات بين بلدين كما حصل نتيجة مبارة كرة القدم بين مصر والجزائر سنة 2009 أو تقيم العلاقات كما حدث في لعبة كرة الطاولة التي أعادت العلاقات بين الصين وأمريكا قبل 50 عامًا بعد سنوات من الحرب الباردة.
تتميز كل من الكويت والجزائر برفض التطبيع وبرز رياضيون في انسحاباتهم الأخيرة
يتصاعد التطبيع الرياضي خاصة في منطقة الخليج العربي وحاليًّا تسير مصر على نفس الطريق، فقد استضافت مؤخرًا رياضيين إسرائيليين في مناسبتين: الأولى في كأس العالم للجمباز التي أقيمت في القاهرة وحصد فيها الرياضيون الإسرائيليون ميداليات منها ذهبية وعُزف بعدها النشيد الوطني الإسرائيلي وسط العاصمة المصرية القاهرة، والمناسبة الثانية في بطولة شرم الشيخ الدولية للتنس التي عقدت مؤخرًا وشارك فيها 3 لاعبين إسرائيليين.
ومنذ عدة سنوات وافق الكثير من الرياضيين المصريين على اللعب مع إسرائيليين بشرط عدم المصافحة، رغم تأكيد حركة المقاطعة أن قبول المواجهة في الأصل يعني الاعتراف الضمني بـ”إسرائيل” كدولة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية.
في المقابل تتميز كل من الكويت والجزائر برفض التطبيع، وبرز رياضيون في انسحاباتهم الأخيرة كالكويتيين محمد الفضلي وعبد الرزاق البغلي ومحمد العوضي، ومنهم من تلقى عقوبة كما حدث مع لاعب الجودو الجزائري فتحي نورين ومدربه بسبب انسحابه. فما أبرز المبررات التي تدفع الرياضيين العرب اليوم إلى اللعب مع إسرائيليين؟ وكيف تستفيد “إسرائيل” من هذا التطبيع؟
هزيمته أفضل من الانسحاب
لعلها من أكثر الحجج سذاجةً وجهلًا، فالرياضي الذي يحمل هذا المبرر غير مدرك للقيم الرياضية ولا يعرف الروح الرياضية القائمة على المنافسة الشريفة وتلك مصيبة في حد ذاتها، لأن المنافسة الرياضية قائمة على الاحترام والتقدير والقبول بالمنافس الذي يمثل بلده، فالرياضة والمباريات ليست حربًا، بل شكل من أشكال العلاقات الحضارية الأخوية التي تستند إلى مبادئ أخلاقية معروفة عالميًا.
فعلى الرياضي على سبيل المثال تحية المنافس والسلام قبل البدء وعند الانتهاء، وكثيرًا ما يتبادل اللاعبون أعلامهم أو كنزاتهم أو حتى تذكارات، كما يأكلون ويشربون وحتى يضحكون في مكان واحد.
تخيل أن رجلًا أخرجك أو أخرج جارك من داره وقتله وما زال يفعل وأنت تأتي بكل بساطة لتلعب معه تحت لواء الاحترام والإنسانية؟ فهل هذا منطقي؟!
ومن المضحك أن هناك فعلًا من ينصح اللاعبين العرب بمواجهة الصهاينة بحجة الأخذ بالثأر منهم وضربهم! وهذا أمر مناقض لفكرة الألعاب الأولمبية تحديدًا، علاوة على أن هؤلاء ليسوا متأكدين أساسًا من الفوز عليهم، فأغلب الرياضيين العرب هُزموا أمامهم، وليس العيب بالخسارة بل في المشاركة وقبول اللعب من الأساس.
على اللاعب أن يدرك أن الانسحاب ليس هزيمةً، بل مكسب إنساني عظيم وصفعة قوية في وجه محتل غاصب، يدير غرف عمليات وإعلام وسلاح من أجل تغيير سلوك شاب عربي وإقناعه بأن “إسرائيل” دولة شقيقة.
الانسحاب لا يغير شيئًا
جميعنا يجلس خلف شاشات التلفزة ليرى مسلسل بناء المستوطنات في فلسطين ونهب الأراضي واقتلاع الأشجار واعتقال الأطفال والمجازر، وليس بيدنا أي حيلة لتغيير الواقع، لكن من قال إن المقاطعة لا تغير الواقع؟! المقاطعة بجميع أنواعها تغير الواقع، لأنها بحد ذاتها تشكل ضغطًا كبيرًا على “إسرائيل”، والذي بيده أن يجعلها وحيدةً ومنبوذةً، ما يفقد من شرعيتها كدولة مغتصبة، فعلى سبيل المثال السنة الماضية أوقفت تحت الضغط الشعبي العلامة التجارية الرياضية (نايكي) بيع منتجاتنا داخل المتاجر الإسرائيلية لأنها “لم تعد تتطابق مع سياسة الشركة وأهدافها”.
تقبل “إسرائيل” اليوم على الساحة الرياضة واللعب معها، هو تراجع للخلف ونحت وتعرية للقضية الفلسطينية وجوهرها
وفي عام 2018 بعد ضغوطات كبيرة وحملات مقاطعة، لم تعد العلامة الرياضية الشهيرة “أديداس” الراعي الرسمي لاتحاد كرة القدم الإسرائيلي! فالعلامات التجارية والشركات دائمًا ما تلاحظ سلوك اللاعبين، والانسحاب في حد ذاته سلوك رافض لشرعية الاحتلال ويذكر بمجازره المتكررة بحق الشعب الفلسطيني والعربي، كذلك الأراضي التي ما زالت محتلة حتى يومنا هذا.
تقبل “إسرائيل” اليوم على الساحة الرياضة واللعب معها، هو تراجع للخلف ونحت وتعرية للقضية الفلسطينية وجوهرها، فلم يقدّم المجتمع الفلسطيني والعربي آلاف الشهداء طوال عقود لنسبغ اليوم مشروعية على المحتل أو حتى لنضع هذه المشروعية قيد المساءلة والأخذ والرد.
الخوف من العقوبات
الرياضة ليست فوق السياسة، بل هي ساحة لمقاومة التطبيع، فالساحات الرياضية تعد من أبرز وأقوى أشكال المقاومة، ومواجهات الأبارتهايد الإسرائيلي عديدة، وتعد الرياضة بشعبيتها على رأسها.
لقد بات جليًا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية أن الاتحادات الرياضية متحيزة ولا تستجيب إلا تحت الضغط، فليس علينا أن نخشى من عقوباتها خاصة إذا اتخذ الرياضيون موقفًا موحدًا، فالانسحابات اليوم تسلّط الضوء على نفاق الأجسام والاتحادات الرياضية الدولية المهَيمَن عليها غربيًا مثل الـ”فيفا” والـ”ويفا” واتحاد الجودو الدوليّ وغيرها.
فمن ناحية، واظبت هذه الاتحادات على رفض أي محاسبة أو إقصاء لـ”إسرائيل” ردًا على جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي تقترفها بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأوقعت أقصى العقوبات التعسفية بحق بعض الرياضيين الذين رفضوا التطبيع معها، ومن ناحية ثانية، سارعت، ومنذ الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا، بإقحام السياسة في الرياضة وتشجيع ومكافأة الفرق والرياضيين الذين قاطعوا روسيا.
في هذه الحال يجب علينا الضغط على الاتحادات الرياضية العربية لترفع صوتها ضد نفاق هذه الأجسام الرياضية الغربية، لتطالبها بالاتساق في السياسات، وأن العقوبات متحيزة ولا مبادئ واضحة عندها.
ليست هذه المرة الأولى التي حصلت مقاطعات رياضية على خلفية أحداث سياسية، بل تكرر المشهد عدة مرات دون خوف أو تردد، نذكر منها المقاطعة الغربية لأولمبياد موسكو عام 1980 بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979، أيضًا المقاطعة الإفريقية للأولمبياد مونتريال 1976 على خلفية مواقف من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
من جهة أخرى بدأ ضغط “إسرائيل” الممنهج لمحاولة كسر العزلة الرياضية المفروضة عليها من شعوب المنطقة العربية وأحرار العالم عندما أسس الرياضيّ السابق يوئيل رازفوزوف، عضو الكنيست السابق ووزير السياحة الحاليّ، فريق عمل مختص بمواجهة المقاطعة الرياضية للرياضيين/ات الإسرائيليين/ات على رأسه المحامي الأمريكي المتطرف في صهيونيته وعدائه للفلسطينيين آلان ديرشوفيتز.
هذا يعني أن “إسرائيل” تفهم أثر المقاطعة الرياضية وتهديدها جيدًا، وهو ما يظهر في تصريحات محامي فريق عمل مواجهة المقاطعة الرياضية ديرشوفيتز بقوله: “قد تبدأ بالرياضة، لكنّها لن تنتهي بها”، في إشارة إلى جهود مقاطعة “إسرائيل”.
تعمل “إسرائيل” على تحسين وتسويق صورة إنسانية لها عالميًا عبر المجال الرياضي، إلا أنه للمفارقة كل الرياضيين الإسرائيليين خدموا ويخدمون في الجيش الإسرائيلي
وبحسب تصريحات القائمين على هذا الفريق، تكمن أهم التكتيكات المتّبعة لمواجهة المقاطعة الرياضية في تقديم شكاوى رسمية للجهات المسؤولة عند مقاطعة رياضيين إسرائيليين، وأنّهم سينتقمون من كل من يقرر إهانة الرياضيين الإسرائيليين، أما رئيس اتحاد الجودو الإسرائيلي فقد قال: “لو اختاروا عدم اللعب معنا، سيواجهون المشاكل”، في تهديد واضح لكل من يقرر الالتزام بمناهضة التطبيع.
إذًا على ما يبدو أن للمقاطعة والانسحاب صدى مدويًا ومهينًا على كامل “إسرائيل”، ما يثير غيظها وامتعاضها وهو صفعة ليست سهلة على الإطلاق ولا يجب الاستهانة بها، فهي اليوم توظف إمكاناتها لمواجهة المقاطعات والانسحابات، فهل ما زلت تسأل إن كان الانسحاب مؤثرًا أم لا؟
التطبيع الرياضي يشير إلى المحاولات الإسرائيلية لاختراق الوعي الشعبي العربي الرافض لنظام الاستعمار، فالشارع ما زال رافضًا لـ”إسرائيل” وليس كالحكام المطبعين، ويشكل التطبيع الرياضي محاولةً مكشوفةً لتطبيع وجود “إسرائيل” في المحافل الدولية حتى لو كانت على أرض عربية.
كما تعمل “إسرائيل” على تحسين وتسويق صورة إنسانية لها عالميًا عبر المجال الرياضي إلا أنه للمفارقة كل الرياضيين الإسرائيليين خدموا ويخدمون في الجيش الإسرائيلي ومنهم من قد يشارك في حروب على قطاع غزة أو لبنان ومن يشارك في اعتقالات في القدس والضفة أو حتى قصف سوريا.
لا بد من نشر وتصعيد المقاطعة الرياضية لـ”إسرائيل” ولكل من يمثلها في المحافل الدولية لنصل إلى مرحلة نستطيع فيها إرغام الاتحادات الرياضية على طرد “إسرائيل” من عضويتها، وهو أبسط ما يمكن أن يقدمه اللاعب العربي لوطنه ودينه.