مع حلول شهر رمضان من كل عام تزداد الضائقة المالية للعوائل في ظل ازدياد الأسعار التي تكون باستقبال هذا الشهر الفضيل، وفي سوريا بالذات فإن الأزمة التي تحل مع حلول الشهر باتت مضاعفة عن أي بلد آخر، إذ إنها ما زالت مستمرة منذ 10 سنوات بسبب حرب بشار الأسد على شعبه، فيعاني المواطن السوري من الغلاء وفقدان السلع الأساسية والتضييق الحكومي ومتطلبات الحياة الأساسية للعيش وكل ذلك يتوازى مع حالة مالية مزرية للعوائل.
“لو أن ابني لا يرسل لنا مالًا كل فترة فإننا حتمًا سنموت من الجوع”، هكذا تقول السيدة إكرام التي تقيم في مدينة دمشق، وتضيف أن ابنها الذي هاجر إلى ألمانيا منذ 6 أعوام يرسل كل 45 يومًا ما يقرب من 150 يورو للعائلة، ما يساعدهم على قضاء حوائجهم، وتروي في حديثها لـ”نون بوست”، أن راتب الوظيفة التي يتلقاه زوجها – يبلغ 90 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 25 دولارًا أمريكيًا – لا يكفي ثمن خبز وبعض الخضراوات لمدة أيام.
عصب الحياة
هنا تبرز أهمية التحويلات المالية التي يجريها سوريو الخارج لأهاليهم وأقاربهم في الداخل السوري بغض النظر عن منطقة السيطرة: إن كانت مناطق النظام أو مناطق المعارضة أو مناطق سيطرة الوحدات الكردية، وتقدّر بعض الدراسات، أن حجم التحويلات السنوية إلى سوريا يبلغ نحو 1.62 مليار دولار، وتبلغ التحويلات اليومية التي يتم تحويلها إلى سوريا نحو 5.4 مليون دولار وهذا الرقم عادة ما يرتفع في رمضان إلى أكثر من 10 ملايين دولار.
طبعًا باتت التحويلات المالية من الخارج إلى الداخل عصبًا لحياة العوائل، ومن دونها لا تستطيع هذه العوائل التحرك لشراء أي شيء، وهنا تقول السيدة إكرام إن المبلغ الذي يأتيهم ينفقونه على الطعام والشراب والأدوية، كما يعملون على شراء جرة الغاز وبعض الأساسيات ثم ينتظرون المبلغ القادم، وتتحدث عن أن جيرانهم ليس لديهم أبناء أو أقارب يرسلون لهم المال من خارج سوريا ويعانون معاناة كبيرة، فيضطر جميع من في المنزل للعمل لجمع مال للأكل والشرب يوميًا.
الشاب معن مصطفى خرج من سوريا منذ عام 2014 وسكن في هولندا، يقول لـ”نون بوست” إن الحياة في سوريا صعبة جدًا بالنسبة لأهله، مشيرًا إلى أنه يرسل ما يقرب من 250 يورو لعائلته المؤلفة من خمسة أشخاص، كما يرسل مبلغًا صغيرًا لعمته التي ليس لديها من يرسل لها مالًا من الخارج، ويضيف معن أن المبلغ الذي يرسله يعتبر صغيرًا بالنسبة لبلد سكنه، لكنه بات يساوي مبلغًا كبيرًا في سوريا، ومع ذلك فإن عائلته تحتاج أحيانًا ضعف هذا المبلغ لإجراءات معينة، ويضاعف مصطفى المبلغ في فترة شهر رمضان والأعياد.
في البلاد التي هاجر إليها السوريون فإنه مهما كان وضعهم صعبًا، يحاولون إرسال المال إلى عوائلهم، فمثلًا في تركيا الحالة الاقتصادية سيئة والسوريون العاملون في المعامل يتقاضون الحد الأدنى للرواتب، لكنهم يرسلون المال لعوائلهم كلما سنحت لهم الفرصة.
وبهذا الصدد يقول موسى أبو الفاروق – مقيم في تركيا ويعمل في مجال التجارة إنه مهما كان المبلغ الذي يرسله صغيرًا هنا، فإنه يستطيع أن يطعم عائلته لمدة أسبوع في سوريا، ورغم الحالة الاقتصادية المزرية في تركيا فإن الحالة في سوريا أسوأ بمرات كثيرة، مضيفًا “عوائلنا وأقاربنا ليس لهم إلا نحن بعد تخلي العالم كله عنهم”.
يبلغ عدد السوريين الذين يحتاجون مساعدات إنسانية عاجلة نحو 13.1 مليون، حسب أرقام الأمم المتحدة، كما يوجد 6.9 مليون لاجئ سوري خارج البلاد والعدد الأكبر منهم في الدول المجاورة لسوريا، بينما يقيم نحو مليونين في الدول الأخرى مثل أوروبا وكندا وأمريكا، وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن الدول المجاورة لسوريا: تركيا والأردن ولبنان والسعودية والعراق تمثل 76% من مصدر التحويلات الواردة إلى سوريا، و24% من بقية الدول.
تشير التقارير إلى أن نسبة السوريين المقيمين داخل البلاد ويعتمدون في معيشتهم على الحوالات الخارجية تقدّر بـ70%، ويبلغ متوسط مبالغ الحوالات التي تصل إلى الأسرة مئتي يورو، وبالطبع فإن معظم هذه الحوالات تصل بطرق غير نظامية، لأن هناك فرقًا بين سعر صرف الدولار الذي يحدده النظام وسعره في السوق السوداء.
وأصبحت طريقة الحوالات وتوصيل الأموال صعبة حيث توجد رقابة من أكثر من جهة، كما أن أغلب الحوالات باتت تصل في السنوات الأخيرة بالليرة السورية وليس بالعملة الأجنبية لأن ذلك ممنوع في مناطق النظام السوري.
يذكر تقرير لمركز جسور للدراسات أن “هذه الحوالات تنعكس على تحسين درجة المعيشة لعدد واسع من السكان السوريين، ومن المتوقَّع أن عدد المستفيدين منها يصل لأكثر من 7.5 مليون نسمة”، ويوضح التقرير أن “الحوالات تُستخدم بشكل رئيسي في تمويل احتياجات الأسرة من السلع الغذائية خاصة الطحين والسكر والبرغل والأرز وبعض أنواع الخضراوات والفواكه، كما يُمكن أن تنعكس بشكل إيجابي وبدرجة أقل من سوق الأغذية على سوق الألبسة الجاهزة التي يُقبل الناس على شرائها في أواخر رمضان، ما يُنشِّط حركة الأسواق ويُولِّد مداخيل للعاملين في أسواق السلع الأساسية ويرفع من سرعة دوران النقود، بالتالي يزيد الضغط على الأسعار باتجاه ارتفاعها”.
طرق صعبة للتحويلات
لا تعتبر طرق تحويل المال إلى سوريا سهلة، إذ إنها تمر بمراحل صعبة، كما أن المبلغ يخسر أحيانًا جزءًا ليس يسيرًا، وهنا يخبرنا الشاب معن مصطفى أن بعض شركات التحويل في أوروبا تطلب مقابل إرسال كل مئة يورو 15 يورو كأجر للتحويل وهذا رقم مرتفع، ويشير إلى أن الـ15 يورو تساوي راتب موظف في سوريا، مضيفًا “صرت ألجأ إلى بعض الطرق الصعبة بخصوص التحويل وهي أن أحولها إلى تركيا بتكلفة أقل، ومن ثم يرسلهم صديقي إلى سوريا ونستطيع بهذه الحالة تقليل الخسارة.
أما في تركيا التقينا بصاحب شركة تحويلات مالية رفض الإفصاح عن اسمه، يقول: “عملية الحوالات باتت معقدة خاصة إلى مناطق النظام، أما المناطق الأخرى فسهلة بالمقارنة مع مناطق مثل دمشق وحلب”، ويروي أن المتعاونين معه يظلون في حذر دائم خاصة إن كانوا يحوزون مبالغ بعملات أجنبية، ويشير إلى أنهم يعملون بطرق غير قانونية فيما بات يعرف لدى السوريين بـ”التسليم باليد”، و”هذا الأمر أوفر لنا ويوفر أيضًا على صاحب الحوالة والمستلم وتكون الأجور أقل، من أجل ذلك فإننا ألغينا إرسال مبالغ بالدولار واليورو إذا كانت تقل عن 1000 يورو أو دولار لأن المخاطرة الأمنية كبيرة”.
عدا عن صعوبة طرق الاستلام والتسليم، فإن الحوالة المالية لا تصل إلى مستحقها كما هي، حيث ترتفع أجور هذا المبلغ، مثلًا يروي لنا صاحب محل الحوالات قائلًا: “إذا أراد أحد ما تحويل 100 دولار إلى شخص ما في سوريا، فإن لم يدفع أجور التحويل بمعزل عن المئة فإننا سنقتطع من المئة، والنسبة التي نأخذها تتغير تبعًا لوجود السيولة المالية في الداخل، أحيانًا تكون النسبة المئوية للحوالات 3 دولارات وترتفع إلى 8 في بعض الأحيان”.
طبعًا الاستلام يكون في مناطق سيطرة النظام بالليرة السورية حصرًا، فمثلًا اليوم تصريف المئة دولار بالنسبة لليرة السورية يساوي 392 ألف ليرة وهذا ما نراه على المواقع والشاشات في السوق السوداء، لكن لن يصل هذا المبلغ إنما يصل 372 هذا عدا عن أجور الحوالة، طبعًا العميل مضطر لإرسال الحوالة مهما بلغت الأضرار، أما في مناطق سيطرة المعارضة وسيطرة قسد يبدو أن الوضع أسهل من هذه الناحية فأنت تستلم ذات المبلغ الذي تحوله، خصوصًا أن التعامل في مناطق المعارضة يكون بالدولار أو الليرة التركية.
لكن مع كل ما سبق، تبقى تلك المكاتب الصغيرة جيدة بالمقارنة مع المكاتب المرخصة التي تسلم الحوالة بالسعر الحكومي حيث تخسر الحوالة من قيمتها ما يقرب من 50%.
يقول مدير مكتب الحوالات أيضًا إن الكثر من الزبائن يرفضون التحويل عن طريق شركات الحوالات الكبيرة مثل “الهرم” وغيرها، بسبب جشعها، حيث ينقص المبلغ المراد تحويله كثيرًا، وتتعامل تلك المؤسسات تحت غطاء حكومي، ما يجعل من الناس المطلوبين أمنيًا في سوريا عدم الإرسال لعوائلهم عن طريقها، فهي مراقبة من النظام السوري، ما يسبب خطرًا للعائلة، كما أن هذه الشركات لا تتعامل بالدولار أبدًا، وهذه الشركات الكبيرة تحتجز مبالغ مرتفعة، بذريعة ملاحقة الجهات الأمنية وصعوبة العمل بالتحويل وكذلك تذبذب سعر الصرف، وهذا ينقص من قيمة الحوالات التي هي أصلًا ليست مبالغ كبيرة.