ترجمة وتحرير: نون بوست – آمنة سيوان
فوجئ الأوكرانيون بالغزو الروسي لبلادهم، وهو ما دفع 4 ملايين منهم لترك بلادهم في الفعل؛ حيث إن الأمتعة المعدة على عجل للاجئين الذين عبروا في بولندا تحكي عن حياتهم من قبل الغزو، ودهشتهم، وأسفهم. كما تروي حكاياتهم، وبطريقتهم الخاصة، قصة أكبر نزوح أوروبي منذ الحرب العالمية الثانية.
بقيت حقيبتها الحمراء في البداية عشرة أيام في زاوية غرفتها في منزلها في أوكرانيا؛ بعيًدا عن عينيها، وفي الداخل؛ شهادات دبلوماتها، وتقرير مدرسي وصورة جواز سفر لوالدتها، وقميصًا وحمالة صدر بمقاس 70، بالإضافة إلى صوف ومنشفة وزوج من الجوارب ما زال فيها خيط المُلصق. “حقيبة صغيرة لمدة يومين”، هكذا تعلق آنا فورمان، التي تبلغ من العمر 52 عامًا، وتعمل أستاذة فقه اللغة الرومانية في جامعة دنيبرو الوطنية، وهي مدينة كبيرة ناطقة بالروسية في وسط أوكرانيا، على ضفاف نهر دنيبر؛ مضيفة: إنها حقيبة سفر وليست حقيبة منفى.
وقالت آنا: “لم أرغب في المغادرة”؛ حيث قامت بالمماطلة في المنزل لمشاهدة يونايتد نيوز، وهي قناة تلفزيونية واحدة جمعت جميع القنوات الإخبارية الأوكرانية منذ 26 فبراير/ شباط، بعد يومين من الهجوم الروسي؛ حيث كانت تعرض أطلال كييف أو ميكولايف، وحصار ماريوبول، والاستيلاء على خيرسون، والمقابر الجماعية لبوتشا؛ كان الأمر أشبه بتلفزيون الرعب بلا توقف.
من الطابق التاسع، آخر طابق في المبنى، بدأت تراقب سحب الدخان الأسود أو أزيز طائرة روسية، ولقد حملت حقيبتها عشر مرات، كما تروي في المسرح القديم حيث استقبلها متطوعون من الجمعيات في وارسو، حيث تقول آنا: “عشر مرات أعدت وضعها. هذا المبنى، الحي الذي أسكن فيه، مدينتي دنيبرو، هو حياتي. شقتي هي وطني، وطن مساحته 37 مترًا مربعًا ونادرًا ما ابتعدت عنه”.
دنيبرو، مدينة يهودية يبلغ عدد سكانها مليون نسمة، كانت موطنًا لبعض الشخصيات الشهيرة. إنها مسقط رأس إيهور كولومويسكي، رجل الأعمال الثري الذي وضع فولوديمير زيلينسكي في المدار على قناته التلفزيونية “+1″، في الوقت الذي اعتبر فيه القادة الأوروبيون الرئيس المستقبلي نسخة مستعبدة للإيطالي بيبي غريللو. في السابق؛ كانت المدينة مسقط رأس والدة ليونيد بريجنيف، رجل الدولة السوفييتي من أصل أوكراني، والأمين العام للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي.
تتذكر آنا فورمان الحقبة السوفيتية جيدًا، فتقول: “ولدتُ عام 1969، وخارج أوكرانيا أعرف روسيا فقط. أعشق شعرائها، بوشكين، وميخائيل ليرمونتوف – وهو رجل قوقازي توفي عن عمر 26 عامًا – وبالطبع، المفضل لدي حتى الموت، فلاديمير فيسوتسكي- جيتاره وأغانيه الصاخبة ووفاته المبكرة في عام 1980 – وقد سافرت إلى موسكو للوقوف على قبورهم، ولكن الآن أصبحت كلمة روسي كلمة قذرة”.
عشوائية النفي
لمدة أسبوع في منتصف مارس/ آذار، دقت صفارات الإنذار حولها. لم تنظر آنا فورمان ولا مرة إلى الحقيبة، ولكن في اليوم الذي علمت فيه أن “الضربات الروسية قد قضت على مصنع أحذية، بالقرب من المبنى الذي تقيم فيه، اشترت تذكرة عبر الإنترنت إلى وارسو؛ حيث تقول: “منذ وفاة والدتي، وأنا مسؤولة عن نفسي فقط”. غيرت آنا رأيها، وحاولت إلغاء البطاقة، فتتصل بالمحطة ويخبرها صوت أجش أن التذكرة غير قابلة للاستبدال، فأمسكت حقيبتها، وألقِت شاحن هاتفها وجوازي سفرها: “أحدهما لأوكرانيا والآخر لأماكن أخرى”.
كان ذلك يوم 23 آذار/مارس. في الساعة 10 صباحًا؛ حين أوقفت آنا فورمان صنبورالماء وأغلقت الغاز وأوقفت الكهرباء، وفي العاشرة والنصف كانت في محطة دنيبرو. هل فكرتْ في فيلم “الحظ”، الفيلم الذي أخرجه كرزيستوف كيسلوفسكي، حيث يذهب شاب إلى محطة لودز ويبدأ بالركض على المنصة بينما قطاره يتحرك، ويفتح الباب أمام العديد من السيناريوهات والعديد من المصائر؟ بدا الحكم الصادر عن كاتب الشباك الفظ كإشارة إلى أن الوقت قد حان لاغتنام الفرصة والذهاب إلى بولندا لفترة من الوقت.
كتب ديفيد روسيت؛ وهو مقاتل مقاومة فرنسي تم ترحيله خلال الحرب العالمية الثانية، في كتاب عالم معسكر الاعتقال: “الرجال العاديون لا يعرفون أن كل شيء ممكن”. يمكن أن يتحول مصير بلد أوروبي في منتصف القرن الحادي والعشرين إلى فوضى في يوم واحد، فقد تم تجهيز ملايين الأكياس على عجل في أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط. أكثر من أربعة ملايين نسمة، من إجمالي 4.4 مليون عبروا الحدود، وهي أكبر هجرة جماعية على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
“مكان في حافلة لبلجيكا …”، يعلن صوت في الاستاد الوطني في وارسو، الذي تم تحويله إلى محطة حافلات، فتجيب سيدة أنيقة بلغة إنجليزية لا تشوبها شائبة، أغراضها في حقيبة تسوق: “سأرحل، ليس لدي أحد، أنا وحيدة”، فيما يعلن الصوت: “ثلاثة أماكن لمرسيليا، خمسة لبودابست!…”؛ إنها عشوائية المنفى، فيختار الجميع بلدهم أو مدينتهم عشوائيًّا. لا يهم، لأنه ليس هناك شك في أنهم سيبدأون حياة أخرى، فالأوكرانيون يفرون من الحرب، وليس من بلادهم.

أربعة ملايين حقيبة أو حقائب جانبية أو أكياس بلاستيكية بسيطة، أربعة ملايين حياة صغيرة تحكي هذا النزوح الجماعي من العاصمة. لا يوجد رجل واحد تقريبًا أمام المعابر الحدودية التي تؤدي إلى بولندا – التي تعتبر الملاذ الأول؛ حيث توقف أكثر من مليوني شخص هناك – فقد جنّد الجيش الأوكراني جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا، ولا توجد هجرة عائلية مثل نزوح يونيو/ تموز 1940، المليء بالعربات والسيارات المحملة بالفرش على السطح، تحت شمس الصيف، ففي عام 2022؛ تجر النساء الحقائب بأنفسهن، ويدفعن الصغار.
يشكل الأطفال نصف هذه الأفواج. وفي بعض الأحيان؛ يوافق الجد أو العم على الذهاب على مضض؛ مثل هذا الرجل العجوز الذي نزل للتو من لفيف إلى ميديكا، أحد المراكز الحدودية الثمانية بين أوكرانيا وبولندا، وقد علق حقيبة أدويته على كرسيه المتحرك، لكنه كان يفضل البقاء في أوكرانيا؛ حيث المقابر مزهرة دائمًا والقبور مليئة بالحياة، فيتم إلقاء البذور هناك لجذب أسراب الطيور.
الاحتفاظ بالمفاتيح والحصول على وعد بسقي النباتات
عند وصولها إلى بولندا، خزنت آنا فورمان حقيبتها الحمراء تحت سرير الأطفال في مركز الإقامة، لكنه احتفظت في جيبها بأغلى كنوز، مجموعة مفاتيح شقتها، فالمفاتيح موجودة لتقول إن شيئا لم يضع، وأن هذا اللجوء ليس سوى وضعًا مؤقتًا، فيوجد المفتاح الخاص ببهو المبنى، ومفتاح خاص بالطابق شبه السفلي، المبنى كلاسيكي أوكراني رائع، من بقايا الشقق الجماعية السوفيبتية، وأخيرًا مفتاح باب منزلها. ومثل الكثير من الأوكرانيين؛ تؤمن آنا فورمان إيمانًا راسخًا بانتصار سريع لجيشها البطولي، ولهذا تركت نسخة من مفاتيحها لجيرانها الأعزاء الذين وعدوا بتفقد نبات الصبار وسقي نبتة البغونيا، مرتين في الأسبوع على الأكثر.
تلقى الفارون هذه النصيحة التي تقول أن عليهم، قبل كل شيء، جعل حقائبهم خفيفة لإفساح أكبر قدر ممكن من المساحة في المقصورات؛ حيث يصل عدد اللاجئين إلى ستة عشر شخصًا في المقصورة الواحدة. وتشرح تاتيانا سيرودوييفا، التي تجمع شعرها على شكل كعكة راقصة في أعلى رأسها: “قيل لنا إن هناك مكان لحقيبة واحدة فقط لكل أسرة، لأن القطارات مزدحمة”. كانت تاتيانا تعمل مدلكة في مسقط رأسها كراماتورسك، عاصمة دونيتسك أوبلاست، وهي جزء من دونباس التي لا تزال تحت سيطرة كييف.

في أوكرانيا، غالبًا ما تكون الجدات صغيرات السن؛ فقد فرّت تاتيانا سيرودوييفا، 66 عامًا، مع ابنتها ديانا، بائعة الملابس، وحفيدتها، إيفا، الأشقر بين الثلاثة، ليس مؤكدًا أنها قد جربت القليل من الصبغة في سن 16. في وارسو، تتشاركن فرشاة الشعر نفسها، وكريم الوجه نفسه، وقد شهد الثلاثة حرب دونباس الأولى في عام 2014، لكنها كانت بالفعل ذكرى قديمة عندما بدأت صافرات الإنذار تدوي مرة أخرى.
جاءت تاتيانا سيرودوييفا لتنضم إلى ابنتها وحفيدتها في الشقة في كراماتورسك بينما كان الرجال يستعدون للحرب. مع كل تنبيه جديد؛ تلقوا نفس النصيحة من رئيس البلدية أو المحافظ على التيلجرام؛ قم بإطفاء الضوء والوصول إلى الملاجئ الآمنة. قامت تاتيانا وديانا وإيفا بتركيب الوسائد والبطانيات داخل حوض الاستحمام وحوله. في نهاية شتاء عام 2022؛ أصبحت حمامات المباني الأوكرانية ملاجئ لأولئك الذين ليس لديهم أقبية وكانوا يبحثون عن غرف بدون نوافذ.
ماذا نأخذ؟ ماذا نترك؟
ذات ليلة، بينما كانت تسرع إلى هذا المأوى المؤقت، سقطت إيفا في ردهة الشقة. تقول ديانا: “بعد ذلك، لم تعد تغادر غرفتها، بل إنها كانت تخشى الذهاب إلى المرحاض. كان وجهها شاحبا من الخوف، وبقي شاحبا”؛ أما الجدة التي كانت مذعورة فلم تستطع أن تطأ قدمها الشارع: “كانت تنزل من الطابق إلى البهو ثم تعود، خسرتُ 10 كيلو في الشهر”.
وذات يوم، في مكان ليس ببعيد عن منزلهن، حفرت غارة روسية حفرة قطرها 5 أمتار، تحطمت ألواح النوافذ والجدران اهتزت، فيما تقول ديانا: “انتشرت شائعة مفادها أنهم بعد ماريوبول كانوا سيتوجهون نحو دونباس، تراجعت ابنتي قائلة: ما زلت صغيرة ، لا أريد أن أموت. في ذلك اليوم ، قلت، سنرحل، في أقل من ساعة انتهى الأمر”.
ماذا نأخذ؟ ماذا نترك؟ النقود ..لا أحد يستخدمها بعد الآن. وإذا فقد الروس اليوم القدرة على استخدام حساباتهم في الخارج، فقد قرر البنك المركزي الأوكراني تجميد سعر صرف الهريفنيا، عملة البلاد، حتى يتمكن الجميع من سحب المبالغ المطلوبة في حسابه بسعر ما قبل الحرب.
في 18 مارس/ آذار، سمحت تاتيانا وديانا لإيفا بملء مساحة أكبر في الحقيبة، فقد أرادت طالبة المدرسة الثانوية أن تأخذ مجفف شعرها الناعم، وهذا ضروري لجميع المراهقين في أوروبا تقريبا، وفي حقيبة يدها السوداء، نسخة من نموذج “مينغ”من ماركة “ذا كوبلز”، وقامت بتخزين حقيبة مكياجها، مع ماسكارا وكريم أساس باللون البيج الوردي، فعندما تصبح الأوقات مأساوية، يصبح الزائد ضروريًّا.
اختارت إيفا أيضًا ألبومًا صغيرًا من صور طفولتها، صورة لها وهي ترتدي ملابس وردية، وواحدة أخرى وهي تضع قبعة منسوجة يدويًا، وأخرى وهي على الشاطئ، وصور صديقها البالغ من العمر 20 عامًا، الذي تم تجنيده (ولكن لم يشارك بعد في ساحة المعركة حسبما أخبرها)، لا تفارق هاتفها، وسواء كان عنه، أو عن الرجال الذين ذهبوا للقتال مثل والدها، أو عن أهوال الحرب، هناك مواضيع محظورة على إيفا.
أخيرًا، قبل ركوب القطار المتجه إلى لفيف، أكبر مدينة في الجانب الغربي من أوكرانيا، وضعت إيفا طوقا حول عنق قطها الأنجورا “ميلكا” البالغ من العمر 8 أشهر، وهو قطّ أبيض مثل الحليب، وقد ظل ميلكا هادئًا في حقيبة الظهر خلال الرحلة بأكملها، كما توضح إيفا، بدون تبول أو أي شيء، لكن موريس، كلب والدتها البولدج الفرنسي، أصيب بنوبة توتر، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يستقل فيها القطار، وقد كان خائفًا، ويعاني من صعوبة في التنفس. وخلال الرحلة التي بلغت مدتها 72 ساعة، لم يرغب في الجلوس أو الاستلقاء، وتقول إيفا “لقد أحضرنا له طعامًا، لكنه لم يأكل شيئًا، فهذه هي الطريقة التي يعبر بها الحيوان الأليف عن نفسه؛ لم يفهم موريس ما الذي كان يحدث”.

الكلاب الأكثر أناقة تأتي من كييف؛ حيث تأتي بأشكال صغيرة، مرتدية معاطف من الصوف أو مقاومة للماء، وشهدت المحطات ومناطق الراحة على الطريق السريع المؤدي إلى خارج أوكرانيا حدائق حيوانات حقيقية: كلاب البوكسر والراعي الألماني، والقطط السيامية والقطط المنزلية قصيرة الشعر والسنجاب والسلحفاة والأرنب والأسماك في أوعيتها.
قبل الانضمام إلى فرنسا، في 25 مارس/ آذار، عبرت عائلة من كييف، أوكرانيا إلى المسرح القديم في وارسو مع كلاب وقطط وفئران هامستر وحتى ببغاء رمادي وأحمر في قفص للطيور، فالببغاء في أوكرانيا هو هدية يتم تقديمها غالبًا للأولاد الصغار، وإن لم يكن مواسيَا للطفل الذي يحلم بكلب كبير، فهو فرد من العائلة، الذي يتحرك بالبذور والطعام، على الطرق، في القطارات.
معاناة الحيوانات
ما هو النزوح الذي رحّل بالفعل هذا العدد الكبير من الحيوانات الأليفة؟ في عام 1940، سار 8 ملايين شخص على الطرقات، قادمين من شمال فرنسا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ. بعد عام 1945؛ شهدت حدود بولندا زحفا لمسافة 200 كيلومتر باتجاه الغرب، مصحوبًا بنقل السكان من أوكرانيا، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، أو ألمانيا. لا توجد صور للقطط التي تطل من السترات، أو الكلاب المتعلقة بالأكتاف. هل ذلك لأن الأوكرانيين شعب فلاح، أو لأنهم، مثل البولنديين، يحبون رفقة الحيوانات؟ أم لأن هذا النزوح هو بالأحرى نزوح للطبقة الوسطى، التي تمتلك معظم الحيوانات الأليفة؟
في أحد ملفاتها الصوتية، تلقي المعالجة النفسية البولندية مارتا نيدوفيكا ضوءًا مختلفًا تمامًا على هجرة الحيوانات هذه، وهي واحدة من أعظم مستجدات هذه الحرب، فوفقًا لها، حضارتنا ربما تفهم ما كانت تقوله سفيتلانا أليكسييفتش في كتابها “الحرب ليس لها وجه امرأة”، فبالنسبة لهذا الكتاب، المترجم إلى الفرنسية في عام 2004، دار نشر براس دو رونيسونس، أجرت الحائزة على نوبل للآداب مقابلات مع مئات النساء، وبالتالي طرحت، لأول مرة، منظورًا نسائيًا بشأن الحرب العالمية الثانية لتلك النساء اللاتي كنَّ في الاتحاد السوفييتي، بين عامي 1941 و1945، وأوضحت – كما تقول الأخصائية النفسية – أن البشر ليسوا وحدهم من يعاني، ولكن أيضًا الطبيعة والأشجار والحجارة والخيول والطيور.
ولم ينس الأوكرانيون إخلاء محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية بعد حادث عام 1986، على بعد 100 كيلومتر فقط من كييف؛ حيث مُنع الموظفون من اصطحاب حيواناتهم الأليفة معهم، وتلقى الجنود السوفييت الذين تم إرسالهم إلى مكان الحادث أمرًا بذبح جميع الحيوانات، بما في ذلك الحيوانات الأليفة. وفي كتاب “لاسوبليكاسيون” الصادر عام 1997، والذي ترجمه جي سي لاتيه إلى الفرنسية في 1999، قصة مكرسة لهذه الكارثة، حيث تصف سفيتلانا أليكسييفتش عواء الكلاب، وهي تحاول الصعود إلى الحافلة، بينما كان الجنود يدفعونها إلى الخلف ويطردونها خارجًا.
معاناة ثانوية في ذلك الوقت، والمزيد اليوم. في غضون عقود قليلة، انقلبت العلاقة بين الإنسان والحيوان رأسًا على عقب. فبعد نفوق النعامة التي في حديثة حيوانات كييف؛ عرضت عدة دول إجلاء الحيوانات من الحديقة الأكبر في أوكرانيا، والوحيدة حيث يمكن للأطفال الاقتراب من الحيوانات وإطعامها. على الجانب البولندي، تمت إزالة بعض القيود الصحية المفروضة على دخول الحيوانات.

وإذا ظهرت تميمة عسكرية على الشبكات الاجتماعية الأوكرانية، فهي ستيبان، قط من خاركيف أنشأ له أصحابه حسابًا على الإنستجرام منذ عامين، فلقد أصبح أيقونة لنزوح الأوكرانيين، فله أكثر من مليون مشترك على حسابه، وهو قط تُجمع التبرعات باسمه لمساعدة ملاجئ الحيوانات، وصورة منمقة تنتقل على شاشات الهواتف
في بعض المحطات – منذ بداية الهجرة – أقام البولنديون مكانين إستراتيجيين للقادمين الجدد، ركن به أوعية مملوءة بالماء للكلاب، وآخر به بطاريات مع أماكن لإعادة شحن الهواتف الذكية، فالواتساب والجوال هما الرمز الآخر لهذه النزوح المعاصر، فعلى الرسوم البيانية لمشغلي الهاتف، تشكل الشرائح الموزعة مجانًا على اللاجئين سحبًا من النقاط الزرقاء، تتجمع في أغلب الأحيان بالقرب من الحدود، لأن النزوح ليس منفى، وهم يريدون البقاء على مقربة من أوكرانيا، وعدم الابتعاد عن الزوج، والابن، والأخ.
الأوراق والهاتف في حقيبة الشاطئ
في أحد شوارع وارسو، تتجول امرأة مسنة، وفي يدها أكياس بلاستيكية ووشاح على رأسها. “جي بي إس” ودليل وحيد، محفظة مغطاة بأوراق صغيرة ممسوكة بشرائط مطاطية ومغطاة بأسماء وأرقام مكونة من ثمانية أرقام، مكتوبة بألوان مختلفة. كلمات باللغة السيريلية، وأخرى مكتوبة بأحرف كبيرة، والكثير من رموز هواتف الدولة محاطة بأقواس، لغز محبط كان من المفروض أن يؤدي إلى الوصول إلى أصدقاء أبناء عمومة أصدقاء آخرين، ولكن كيف نفعل ذلك بدون هاتف؟
احتفظت آنا فورمان بالتنبيهات من تطبيق المراسلة فايبر المثبت في دنيبرو على هاتفها النقال، مثل تطبيقات ديا أو إيليواب، التي كانت تحذر من خطر القصف، فهذه هي طريقتها في البقاء على اتصال مع المتألمين: لا تخلٍ ولا هجران. في عام 2022، يتم استخدام الهاتف في كل شيء، بمجرد عبورك الحدود، بفضل صورتين متبادلتين، يساعد ذلك في التعرف على من سيأتي ليقلك بالسيارة.
الهواتف الذكية هي أيضًا الذاكرة الأخرى للانسان، فهي شهادات للعالم قبل جعلها صالحة لقياس عبثية الحرب، حيث يبدأ كل أوكراني في رحلة النزوح بتمرير صور الأيام السعبدة أمامك، حتى قبل صور مبانيهم المحترقة أو المدمرة، وبالنسبة للفتيات المراهقات مثل إيفا، صور صيفية مع قميص قصير يظهر حلق السرة، وبالنسبة لآخرين، بيرة سعيدة في كييف أو أوديسا.
أوكسانا، 51 سنة، صبغت شعرها بالأسود وتضع أظافرًا أرجوانية طويلة براقة ببريق فائق النعومة؛ حيث تقول آنا: “تم تقليمها لتستمر طول فترة الحرب”، وتم التقاط الصورة في 4 مارس/ آذار من قبل زوجة ابنها، خبيرة التجميل في زابوريزهيا على بعد أربع ساعات بالسيارة من خاركيف، التي منذ بداية أبريل/ نسيان، أصبحت ملجأ داخليًا لشهداء ماريوبول، فيما لم تتأثر الأظافر فعلًا.

ومع ذلك؛ في اليوم التالي لتقليم الأظافر: “احتل الروس المصنع المجاور لنا. إنه الأكبر في أوروبا، يمتلك وحده ستة مفاعلات. كنا خائفين حقًا وهربنا مذعورين، دون تفكير، أنا وزوجة ابني والصغير”، وتركت وظيفتها كبائعة أغذية، ولكن قبل كل هذا ذهب زوجها وابناها، 24 و32 عامًا، إلى المعركة.
وتقول أوكسانا: “لقد استغرقنا أقل من ساعة لمغادرة زابوريزهيا. أخذت فقط الأوراق، وملابس لزوجة ابني ولي، وحفاضات الطفل”؛ حيث قامت بحشو كل شيء في كيس من الصوف بنقوش فلامنغو، وهي “حقيبة الشاطئ، التي كانت زوجة ابني تستعملها عند الذهاب للسباحة قبل الحرب”، كما تقول أوكسانا. يقع بحر آزوف على بعد ساعتين فقط بالسيارة من زابوريزهيا، وقد استمتعت زوجة ابنها بحمام شمسي في بيرديانسك، الميناء الذي “أغرق فيه الأوكرانيون قاربًا روسيًا” في 24 مارس/ آذار. اليوم، هاجرت طيور النحام إلى وارسو. “من قبل، كنا نقول أن كل شيء كان مكلفًا، وأننا لم نذهب في إجازة، لم نكن نعلم أننا نتمتع بحياة جيدة”.
بعض الجواهر والندم
لكل شخص شيء يندم عليه، من المؤسف أنني لم أصر على حضور “جدي”. ومن المؤسف للغاية انتقاد رئيس البلدية كثيرًا، فمنذ اليوم الأول للحرب، كان يرسل رسائل رائعة على الواتس اب. من المؤسف ترك بعض القطط خلفنا “كانت جرادا تبلغ من العمر 21 عامًا، وآشلي 16 – أحب كثيرا فيلم ذهب مع الريح”.
“كل شخص أكبر من أن يسافر”، تتأسف نينا بليك، 46 عامًا، التي اشتغلت 25 سنة كمصففة شعر، والتي غادرت أوديسا في 10 مارس/ آذار بعد سقوط صاروخ على بعد مائة متر من منزلها.
أما لينا، طالبة العلاقات الدولية البالغة من العمر 22 عامًا، فقد فكرت في فساتينها الصيفية لكنها نسيت أقراطها في كييف، كما توضح في حلبة التزلج على الجليد في وارسو، حيث وجدت ملاذًا مع أختها التوأم. وفكرت في أطروحتها حول “التحول الاجتماعي والثقافي في إيران”، مكتبتها وكل شيء تخزنه على الإنترنت – كما أوضحت وهي تشير إلى هاتفها – لكن مجوهراتها بقيت في كييف، باستثناء الصليب الأرثوذكسي الذي لا تتخلى عن ارتدائه أبدًا؛ حيث يخرج من الياقة المدورة لقميصها الصوفي.
فيرونيكا هي فتاة صغيرة جميلة تبلغ من العمر 9 سنوات تلقت للتو دراجة أحلامها هدية لعيد الميلاد، كما توضح جدتها إيرينا ريبينا، في وارسو، وهي خياطة من خاركيف، حيث تقول فيرونيكا: “لقد انتظرت طويلاً! بالكاد تستطيع استخدامها”. في حقيبة المقصورة ، فكرت والدتها لحسن الحظ أنها أحضرت دواء “الإيبوبروفين” وأشياء أخرى للسعال، فقد أصيبت الفتاة بمرض شديد أثناء الرحلة. وبالمناسبة، ما زالت فيرونيكا تسعل.
يأسف دانييل، 11 عامًا، على قفازات الملاكمة، التي كانت كبيرة جدًّا بالنسبة لحقيبة الظهر، وميداليات البطولات الإقليمية التي علقها على جدار غرفته، في مالين، في منطقة جيتومير، التي تقصفها روسيا بلا هوادة. ودعونا لا نتحدث عن البندقية الجديدة، كبيرة بهذا الحجم، كما يقول، وهو ينشر ذراعيه مترًا، والتي تم تركها أيضًا في أوكرانيا، حيث يقول: “كان لدى جميع أصدقائي واحدة ، ما عدا أنا”.
“مفتونًا” بالرياضيات وعلم الفلك؛ لم يستطع ماكسيم ليسك اصطحاب كتبه المدرسية معه عندما غادر، في 9 مارس/ آذار، شقة جده في وسط كييف، فبعيون حزينة للغاية، وبشرة شاحبة مثل الكثير من الأوكرانيين، وتسريحة ذيل حصان مشابهة لتلك المعتمدة لدى جميع الأولاد في سنه 16، وهي الطريقة التي يحول بها بصره بعيدًا، عندما يرتدي سماعات رأسه أيضًا.

لقد أخذ حاسوبه وجهازه اللوحي وهاتفه فقط؛ حيث يقول: “في بداية الحرب كنت أشاهد الأخبار طوال الوقت. الآن أفعل ذلك مرة واحدة فقط في اليوم، لتجنب القلق الشديد”. بدلاً من ذلك؛ يستمع إلى موسيقى الهيب هوب “لو-في”، وهي الموسيقى الآلية التي ازدهرت في منتصف عام 2010، والتي تعتبر الموسيقى التصويرية الحزينة المفعمة بخيبة الأمل لجيل كان يكافح بالفعل، قبل الحرب، للإيمان بأيام أفضل، حيث يعلق قائلًا: “إنها تهدئني”.
تجنب الكارثة
لكل شخص ضماداته، وتمائمه، والأشياء التي تواسيه، فهناك مصففة شعر أخذت معها مقصها، واختار آخر الكتاب المقدس، وثالث بساط اليوجا، ويحمل الأطفال دمى الدببة في حالة من الفوضى، ونصادف سلسلة من الدمى، مع الضفائر الشقراء والخد الوردي، تمامًا مثل صاحباتها الصغيرات اللاتي يرتدين حقائب مدرسية “هلو كيتي” على ظهورهن، ما يعطي بعض الألوان في الديكور الرمادي لمراكز الحدود.
وكتب على ظهر إحداها “مجموعة الفراشات الرومانسية”، المطرزة بالفراشات، ونقرأ على أخرى “احلم، صدق، حقق”، وهو اقتباس تحفيزي – كما يقول الأمريكيون – ينطبق أيضًا على أوكرانيا، كما تؤكد والدة المراهقة. وهناك شيء مأساوي بشكل غريب وسخيف في ابتسامات دمى كاواي، وتعني اللطيفة باللغة اليابانية، المعلقة على ظهور الأشخاص الفارين من الحرب.
دانييل، الملاكم الصغير من مالين، لا يريد حقًا التحدث عما يحدث في بلاده، فهو يفضل الذهاب في نزهة، كما يقول، بالاضافة إلى الانغماس في لعبة فيديو. ففي لعبة ماينكرافت، إنه شخصية ستيف من اللعبة، إنه أكثر روعة. أما الآخرون، الأكبر سنًّا، فينقذون أنفسهم من خلال الشعر: ففي 8 مارس/ آذار، ذكرى وفاة تاراس شيفتشينكو، الشاعر الوطني الأوكراني العظيم، نشر العديد من المنفيين اقتباسات على الشبكات الاجتماعية أو نشروا بيتًا على مقطع فيديو.

لتجاهل الكارثة، تتلو آنا فورمان على نفسها بعض المقاطع من قصيدة “الظروف” لبوشكين، إنها تعويذتها السحرية الخاصة.
“احميني، تميمتي
احميني عندما أكون مضطهدًا
(…)
عندما ترفع أمواج المحيط الضجة من حولي
عندما ترعد السماء في العاصفة
احميني يا تميمتي.
عندما أصاب بالتوتر أثناء القتال
عندما أشعر بالملل من عدم فعل أي شيء
عندما أكون وحدي بعيدًا عن أرضي
احميني، تميمتي”.
في القاعة التي لا تزال مزدحمة بمحطة وارسو المركزية، وهي واحدة من الثلاثة في العاصمة البولندية، في وسط طوفان من الوافدين، تمر ياروسلافا ميروشميشكو، للعبور إلى برلين، فقد اضطرت للتخلي عن “الأب، الزوج، الأجداد، الأصدقاء” ومغادرة الحدود البيلاروسية، وتُركت مع والدتها المريضة، التي توقفت فجأة عن علاجها الكيميائي، وابنتيها، وهي يائسة جدا، متمردة في وجه الهمجية الروسية التي تتكشف يومًا بعد يوم. بدونها، لم نكن لنعرف ما تخفيه أيضًا حقائب هالو كيتي، وأكياس شاطئ فلامنغو الوردية، والحقائب الجانبية ذات العلامات التجارية. قالت ياروسلافا ميروشميشكو بعد الجرد: “لقد جمعت في حقيبتي أرواحنا الأربعة، وبين الجوارب وضعت أرواح أولئك الذين بقوا في حجيم أوكرانيا”.
المصدر: صحيفة لوموند