انتهت الجولة الأولى من سباق الرئاسة بتأهُّل إيمانويل ماكرون ومارين لوبان إلى الجولة الثانية، المقررة في 24 أبريل/ نيسان الحالي، حيث سيتوجّه الفرنسيون مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع لاختيار من سيحمل مشعل قصر الإليزيه لـ 5 سنوات قادمة، في حين يتابع الروس باهتمام شديد أطوار الانتخابات التي قد تفضي نتائجها إلى نصر روسي كبير في أوروبا، إذا ما أطاحت مرشحة اليمين المتطرف بمنافسها الليبرالي.
وفقًا للنتائج الأولية، حاز مرشح حزب الجمهورية إلى الأمام، إيمانويل ماكرون، على 28.5% من أصوات الناخبين الفرنسيين، محرزًا بذلك تقدمًا متواضعًا على زعيمة حزب التجمع الوطني، مارين لوبان، التي حصلت على 24.4% من الأصوات، وتبعًا لذلك يحشد المرشحون المنهزمون الدعم للرئيس المنتهية ولايته، من خلال دعوة أنصارهم إلى عدم التصويت لصالح المرأة التي ترفع من منسوب القلق في العواصم الغربية.
السيناريو الأسوأ لبوتين
من المرجّح تكرار سيناريو مايو/ أيار 2017، حينما صعد نفس المرشحَين إلى الطور الثاني، والذي أفضى إلى خسارة لوبان بنتيجة 34.9% وفوز ماكرون بـ 65.1%، وبطبيعة الحال لن يكون ذلك مدعاة سرور للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يستمرّ في حربه على أوكرانيا منذ فبراير/ شباط الماضي.
بقدر ما هي معجبة ومتعاطفة مع سيد الكرملين، فإن فوز لوبان يشكّل هواجس غربية من اختلال القوى المتحالفة ضد روسيا، وأيضًا فقدان فرنسا لدورها الريادي في العلاقات الأوروبية-الأمريكية مع موسكو، فمن المخيف جدًّا أن تذهب لوبان بعيدًا، إذا أصبحت رئيسة، إلى الخروج من التكتل الذي يدعم أوكرانيا، والذي يعني بالضرورة بداية تفكُّك حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
من المنطقي أن يخشى البيت الأبيض من صعود اليمينية المتطرفة، التي بدأت تستشعر نمو ريش جناحيها، بمجرد اقترابها من قصر الإليزيه، وقبل أن تلج بوابته، أخذت تلوح بإحداث صدع في البيت الأوروبي الأمريكي، الذي أعاد ترميمه الرئيس الأمريكي جو بايدن بمعية نظرائه الأوروبيين، من أجل تصفية الميراث الثقيل الذي تركه دونالد ترامب خلفه، محدثًا اضطرابًا شديدًا في هذه التحالفات التقليدية.
تركّز موسكو جهودها السيبرانية في تعميم الدعاية الداعمة للحرب الروسية على أوكرانيا، ورغم ذلك تراقب واشنطن باهتمام وتتبادل المعلومات بشأن أي تدخل روسي محتمَل في الانتخابات، بدءًا من استعمال الروبوتات وليس انتهاءً بالحسابات المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تأليب الناخبين ضد ماكرون الذي يلعب دور الوساطة في الصراع الغربي الروسي.
بين الجائحة والحرب
في الحقيقة، كانت اتصالات ماكرون المكثفة مع بوتين أحد مصادر الانتقادات التي تلقاها من الرأي العام الفرنسي، لكن الرجل الذي يبدو واثقًا من نفسه على أنه رئيس فرنسا لولاية ثانية، حاول إظهار شخصه كسفير للسلام، حتى ولو فشلَ في إقناع موسكو بالتراجع عن خيار غزو أوكرانيا، في اللقاء الذي جمعه مع نظيره الروسي على تلك الطاولة المثيرة للسخرية، عشية اندلاع الحرب.
خلال الحملة الانتخابية التي انطلقت في فترة الجائحة وانتهت في زمن الحرب، أكثرَ ماكرون من انتقاد منافسيه خاصة بشأن ملف روسيا، وغالبًا ما تجنّب مواجهتهم وجهًا لوجه، حيث أعلنَ ذلك صراحة، متحجّجًا بأنه لا يخجل من النقاش، ولكنه بدلًا من عقد لقاءات يصفّق فيها الناس للمرشحين، فإنه يفضّل النقاش مع الفرنسيين، لأنه مدين لهم بذلك.
لكن لم ينخرط ماكرون، ولا حتى باقي المرشحين، بجدّية في السجال السياسي الأكبر؛ من النقاش الوطني المفتوح والمصاحب لاحتجاجات “السترات الصفراء”، إلى الأزمة الصحية التي أحدثتها جائحة كورونا التي لم تنتهِ بعد، وأيضًا الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الأمنية والاقتصادية، ولا ننسى أيضًا إشكالية الأمن الطاقي لفرنسا إثر انخراطها بقوة في نادي البلدان التي فرضت حصارًا على الاقتصاد الروسي.
آمال بوتين غير منعدمة
أما لوبان فقد أظهرت صورة متسامحة مع الاتحاد الروسي، ومعادية تمامًا للعقوبات الثقيلة ضد موسكو، التي لها تأثير مباشر على القدرة الشرائية للفرنسيين، لكنها عشية الانتخابات حاولت أن تجعل الناس ينسون تقاربها مع الرجل المتّهم بارتكاب مذابح في أوكرانيا.
لم تستطع لوبان أن تحجب صورتها وهي تصافح بوتين عن أعين ملايين الفرنسيين، تلك الصورة التي يعود تاريخها إلى عزّ الحملة الانتخابية لعام 2017، عندما استقبلها الرئيس الروسي في الكرملين، حيث طبعت نحو 1.2 مليون نسخة من منشور دعائي يدعم الحملة الرئاسية لمرشحة التجمع الوطني، لكن القائمين على الحملة سارعوا إلى سحب المنشور، بعدما أجبرت الأحداث الأخيرة والغزو الروسي لأوكرانيا حزب لوبان على مراجعة موقفه من علاقاته مع الرئيس الروسي.
وإلى حدود اليوم لا يزال حزب التجمع الوطني يسدّد أقساط قرض بقيمة 9 ملايين يورو، استدانها من بنك روسي عام 2014، العام نفسه الذي قام خلاله بوتين باجتياح شبه جزيرة القرم وضمّها إلى الكيانات الروسية، وعلى نقيض السياسيين الغربيين أقرّت لوبان أن ضمّ شبه جزيرة القرم قانوني، لأن شعبها اختار الانضمام إلى روسيا في استفتاء.
يمكن الاقتناع الآن بأن حظوظ لوبان في الفوز ببرنامج انتخابي يميني ليست منعدمة، خاصة أن زميلها في الأيديولوجيا والتيار، إريك زمور، الذي أكلَ من لحمها الانتخابي سابقًا، يعود بعد أن فشل ليمنح لوبان خزّانه الانتخابي، ويعني ذلك أنه من الوارد جدًّا أن الذين صوتوا لصالح هذا المرشح ذي الأصول الجزائرية اليهودية، المعادي للمهاجرين والمسلمين، أن يعودوا في الجولة الثانية للتصويت على عدم اختيار إيمانويل ماكرون رئيسًا لفرنسا.
بخطابه الشاذ الخارج عن المألوف، أثارَ إيريك زمور الجدل دائمًا وعكسَ الأضواء نحوه، فهو كان يصرخ بما تهمسُ به لوبان، وتلتفُّ حوله لسنوات دون الإفصاح عنه علانية، علمًا أن العنصرية والكراهية المتطرفة للأجانب توجدان في عقيدة حزبها.
وعلاوة على ذلك كان زمور يمنح لزميلته نوعًا من المصداقية، فبينما هي تنتقدُ عنفه اللفظي دون أن تنكر مضامين خطابه، نجح مرشح نظرية الاستبدال في جعل فئة غير محدودة من الفرنسيين تطبّع مع الأفكار التي لم تكن دارجة منذ وقت قريب، وهو ماضٍ في ذلك.