يمرّ لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية معيشية ربما لم يشهد لها مثيلًا منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى في ذروة الحرب الأهلية بين عامَي 1975 و1989، حيث بلغ العجز بالموازنة مستويات خطيرة، والديون فاقت الـ 100 مليار دولار، والبطالة تخطّت الـ 40%، أما الفقر وهو ما يعنينا بشكل أساسي في هذا التقرير، فقد شمل قرابة 75% من اللبنانيين، حيث تكاد الطبقة أو الشريحة الوسطى التي تشكّل أغلبية الشعب اللبناني تكون قد اندثرت أو لم تعد موجودة، ولا سيما مع فقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية ما يقارب الـ 90% من قدرتها أمام العملات الأجنبية الأخرى.
والحلول المطلوبة غائبة إلى الآن بسبب انعدام الحلول السياسية من ناحية والتدخلات الخارجية من ناحية ثانية، والشعب اللبناني عامة والشباب منه خاصة إلى المزيد من الهجرة إلى أيّ مكان في العالم.
محطات اقتصادية
مرّ لبنان بعد استقلاله عام 1943 بما يمكن أن نسمّيه 4 محطات اقتصادية مختلفة حتى اليوم؛ شكّلت مرحلة ما قبل الحرب الأهلية عام 1975 حتى عام 1982 لحظة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وصولًا إلى بلوغ العاصمة بيروت محطة أولى ومرحلة جيّدة، إذ كان لبنان يعيش وضعًا اقتصاديًّا مقبولًا بل مريحًا قياسًا على المحيط الجغرافي.
فقد كان دخل الفرد اللبناني قبل الحرب الأهلية يساوي 1.080 دولارًا للفرد عام 1974، بينما كانت الليرة اللبنانية تتمتّع بقيمة مقبولة جدًّا أمام العملات الأجنبية الأخرى، فلم يتخطَّ سعر صرف الدولار الأمريكي أمامها حتى في ظل سنوات الحرب الأهلية وصولًا إلى العام 1982 الـ 3 ليرات لبنانية لكل دولار.
ثم بدأت الليرة تخسر من قيمتها وبدأ الاقتصاد يتدهور نسبيًّا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث استهدف العدوان الإسرائيلي في حينه البنية التحتية للاقتصاد اللبناني، وأبرز وأهم المصانع والمعامل اللبنانية خلال الحرب.
مثّلت المحطة الثانية الفترة الممتدّة من لحظة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وصولًا إلى بداية تسعينيات القرن الـ 20، حيث تخطّى سعر صرف الدولار الأمريكي 3000 ليرة لبنانية، بمعنى آخر قفز سعر الدولار أمام الليرة خلال 10 سنوات ألف ضعف.
بينما انخفضَ دخل الفرد في هذه الفترة بمعدل 16.8% سنويًّا خلال الفترة 1980-1986 تبعًا لانخفاض الناتج الوطني الإجمالي، ووصل مستوى دخل الفرد في النصف الثاني من عقد الثمانينيات إلى حوالي 20 دولارًا أمريكيًّا شهريًّا، وكانت هذه المحطة صعبة على اللبنانيين حيث ضاعفت مستوى الفقر ومعدل البطالة.
ثم بعد انتهاء الحرب بموجب اتفاق الطائف أواخر عام 1989، وعقب إجراء أول انتخابات نيابية عام 1992 وتشكيل حكومة إعمار برئاسة الرئيس الراحل رفيق الحريري، عاد الوضع الاقتصادي إلى التحسُّن حيث ارتفع دخل الفرد مجدّدًا إلى 4360 دولارًا أمريكيًّا عام 1994.
كما ارتفع الحد الأدنى للأجور حتى استقرَّ مع بداية الألفية الثالثة على حوالي 700 ألف ليرة لبنانية، ما يعادل 475 دولارًا أمريكيًّا شهريًّا، بينما تمكّنت الحكومة من تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي على سعر 1500 ليرة، وقد ظلّ مستمرًا على هذا السعر حتى نهاية عام 2019، من خلال سياسة مالية قامت على تدخّل مصرف لبنان المركزي بسوق الصرف لضبطها والحفاظ على قيمة الليرة.
لقد حافظت هذه السياسة على استقرار كبير أمّن استقرارًا نسبيًّا في دخل الفرد اللبناني، وحافظ معه على طبقة وسطى كبيرة نسبيًّا، وقد استمرَّ هذا الوضع على هذه الهيئة حتى مطلع عام 2017 بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب للموظفين في القطاع العام من دون تأمين الموارد المالية الكافية لها، ثم بدأت عملية الانهيار مع أواخر عام 2019 بعد انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول وتفشّي وباء كورونا.
وقد شكّلت هذه المرحلة محطة ثالثة من المحطات الاقتصادية، لكنها مرحلة عمّقت الأزمة وفشلت حتى الآن في إيجاد الحلول، وكان من أبرز تداعياتها انهيار الطبقة الوسطى في لبنان إلى حدود الاندثار، وتوسُّع طبقة الفقراء.
أمّا المحطة الرابعة فهي التي بدأت مع أواخر عام 2019 وبداية عام 2020، وهي لا تزال مستمرة، وخلال هذه الفترة شهد البلد انهيارًا مريعًا، فقد خسرت الليرة 90% من قيمتها وقدرتها، وشهدت الأسواق ارتفاعًا جنونيًّا للأسعار بعد عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها المالية للدائنين، وبعد رفع الدعم عن الكثير من السلع التي كانت مدعومة كالدواء والمحروقات والقمح وأصناف أساسية أخرى.
في هذه الفترة خسر المواطن اللبناني 90% من قيمة راتبه وقدرته الشرائية، فبات الحدّ الأدنى للأجور يساوي حوالي 30 دولارًا، وبات مع هذا الواقع في البلد قسمان من الناس؛ قسم فقير معدم لا يتخطّى دخله السنوي في أحسن الأحوال 1000 دولار، وهم القسم الأكبر من اللبنانيين، وقسم آخر هم القلّة الذين حافظوا على مستوى دخل أفضل بفضل طبيعة عملهم مع مؤسسات دولية، أو بفضل موارد مالية تأتيهم بالعملة الأجنبية من الخارج.
لقد كان من تداعيات هذه المرحلة والمحطة الأخيرة اتساع رقعة الفقر لتشمل قسمًا مهمًّا من الطبقة الوسطى التي انضمّت إلى طبقة الفقراء، بينما انضمَّ قسم من الفقراء إلى طبقة المعدمين.
اتّساع طبقة الفقر
أشرنا إلى أن الفرد اللبناني خسر نحو 90% من قيمة راتبه، بعد أن خسرت الليرة اللبنانية 90% من قيمتها وقدرتها الشرائية، في ظلّ عدم استقرار سعر صرف الدولار الأمريكي وبلوغه مستويات غير معهودة من قبل، حيث تخطّى في الربع الأول من العام الجاري 30 ألف ليرة للدولار الواحد مقابل الليرة، ومن ثم تراجع نسبيًّا إلى حدود 23 ألف ليرة حاليًّا.
إضافة إلى أن تراجع خدمات الدولة الأساسية في الكهرباء وارتفاع أسعار المحروقات (مازوت، بنزين، غاز)، أرغما الكثير من الشركات والمؤسسات الخاصة على الإقفال، وبالتالي ضاعفَ ذلك من حجم البطالة وقلّل من فرص النمو.
كما تضرر القطاع السياحي بشكل كبير، وهو القطاع الذي يعتمد عليه الاقتصاد اللبناني، بسبب غياب الخدمات الأساسية وتفشّي ظاهرة الفساد والفوضى وتراجع نسبة الأمن.
فضلًا عن ذلك، إن الإجراءات التي اتخذتها المصارف وحجزت بموجبها أموال المودعين تسبّبت في تراجع الثقة إن لم نقل في انهيارها بالقطاع المصرفي، وهو بدوره ما ساهمَ في عملية الركود وبالتالي تفشّي ظاهرة الفقر والبطالة.
لقد أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في سبتمبر/ أيلول 2021 دراسة تحت عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهَمة”، قالت فيها إن الفقر بات يطال 74% تقريبًا من مجموع السكان، وإذا ما تمَّ أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82% من السكان.
وأصدرت “الإسكوا” تقديرات حول معدّلات الفقر في لبنان عام 2020، حيث أشارت إلى أن الفقر طال عام 2020 نحو 55% من السكان تقريبًا، بعد أن كان 28% منهم يعانون منه عام 2019، وكشفت التقديرات الأخيرة وفق “الإسكوا” أن نسبة السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد قد تضاعفت تقريبًا بين عامي 2019 و2021 من 42% إلى 82%.
وفيما يتصل بالفقر المدقع الذي يشمل الظروف المعيشية كافة، سواء في ذلك الصحية منها والخدماتية والتعليمية وغيرها، بعيدًا عن حصره بمستوى الدخل فقط، فأشارت “الإسكوا” في تقريرها إلى أن 34% من السكان اليوم قد انضموا إلى هذه الطبقة، وفي بعض المناطق اللبنانية أكثر من نصفهم، خاصة في شمال لبنان والبقاع.
كما تُعدّ مدينة طرابلس ومنطقة عكار في شمال لبنان أفقر مدينة ومنطقة على شواطىء البحر الأبيض المتوسط، تنتشر فيها الأحياء الفقيرة وترتفع نسبة البطالة بشكل كبير جدًّا وتنخفض فرص العمل، ما دفع مئات الشبّان من المدينة وجوارها إلى ركوب البحر والهجرة نحو أوروبا، وسُجّل في هذا السياق هجرة 13% من الأدمغة.
إلى جانب ذلك، أشارت البيانات إلى أن نسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية قد ارتفعت إلى 33%، كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف، ونسبة الأسر الفقيرة المحرومة من الكهرباء إلى 54%.
من جهته أشار البنك الدولي في تقرير له بوضوح إلى أن هناك 40% من اللبنانيين تحت خط الفقر، وتوقّع البنك أن ينحدر حوالي 170 ألف مواطن لبناني آخر إلى ما دون خط الفقر.
معدلات البطالة والتضخُّم
أمّا فيما يتعلق بمعدلات البطالة والتضخّم في لبنان، فقد قدّرت منظمة العمل الدولية في تقرير لها نسبة البطالة بين الشباب اللبناني بنسبة 22% عام 2013، فيما قدّر البنك الدولي نسبة البطالة بين الشباب بنحو 34%، أي شاب واحد عاطل عن العمل بين كل 3، رغم غياب الإحصاءات الرسمية حول هذه النسبة حديثًا.
من جهتها، أشارت “الإسكوا” إلى أن نسبة التضخّم في لبنان بلغت 281% في الفترة ما بين يونيو/ حزيران 2019 ويونيو/ حزيران 2021، ونتيجة لهذا التضخّم قفز خط الفقر ليتجاوز الحدّ الأدنى للأجور (675 ألف ليرة)، وأفضى ذلك إلى ارتفاع نسبة الفقر المادي من 29% عام 2019 إلى 55% عام 2020 حتى بلغ 74% عام 2021.
بدوره، أشار وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام في مؤتمر صحفي نظمته غرفة التجارة الأمريكية، عبر تقنية الاتصال المرئي، بعنوان “لبنان: آفاق الانتعاش الاقتصادي”، إلى أن نسب البطالة في لبنان آخذة في الارتفاع، حيث تشير آخر الأرقام إلى أن نسبتها تبلغ 40% على المستوى الوطني و35% على مستوى الشباب.
وأشار سلام أيضًا إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبنان، من نحو 55 مليار دولار عام 2018 إلى 20.5 مليار دولار عام 2021، بينما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 37.1%.
أسباب اتّساع وتفشّي ظاهرة الفقر
تتعدّد الأسباب التي أدّت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتعود في الغالب إلى السياسة المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة من ناحية، وتفشّي ظاهرة الفساد من ناحية ثانية، واستغلال لبنان وإخضاعه لسياسات ومصالح إقليمية ودولية من ناحية ثالثة، أثّرت بشكل كبير على عامل الاستقرار الذي بدوره ساعدَ على تفاقم الأزمة على مختلف المستويات.
فقد رأى الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي، في تصريح لوكالة “الأنباء” القطرية، أن أحد أبرز أسباب الفقر في لبنان هو البطالة، وكذلك الموضوع الصحي، وعدم توفر مساعدات للعائلات الكبيرة، والنزوح السوري الكثيف، وأشار إلى أن الحلّ يكمن في قيام أجهزة الدولة المعنية بتحفيز الاستثمارات الداخلية، وخلق مناخ استثماري ملائم لجذب الاستثمارات الخارجية، مؤكدًا على أن إيجاد فرص العمل يولّد مداخيل ويخلق فرص عمل للناس، ما يحدّ من توسُّع رقعة الفقر.
أمّا وزير الشؤون الاجتماعية السابق رشيد درباس، رأى أن من أسباب الفقر انخفاض نسبة النمو في لبنان من 9% عام 2010 إلى ما بين 1 و2% في الأعوام الأخيرة، إضافة إلى فقدان العديد من الموارد كخدمات الترانزيت والخدمات البرّية وانخفاض مردود السياحة، بسبب إحجام السياح العرب عن زيارة لبنان.
كما لفت إلى التداعيات السلبية للأزمة السياسية في لبنان على الاقتصاد اللبناني، مشددًا على أن الوضع السياسي المضطرب له أثر كبير على تردّي الوضع الاقتصادي، كون الفقر سببه الرئيسي الركود الاقتصادي، مشيرًا إلى تأثير النزوح السوري على ازدياد الفقر في لبنان، خاصة في ظل عدم إيفاء المجتمع الدولي بالتزاماته تجاه النازحين.
ويتّفق وزير الاقتصاد أمين سلام مع هذا التوجّه والكلام، حيث قد أشار سابقًا في مؤتمره الصحفي بالقول: “ندرك أن أهمية تعبئة المجتمع الدولي لتقديم المساعدات والاستثمارات، لكنها تتوقف على الآلية التي تعتمدها الحكومة لتحقيق الإصلاحات المالية والاجتماعية والحوكمة”، وأضاف: “من دون ذلك لا يمكن أن يكون التعافي وإعادة الإعمار مستدامَين، وسيستمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في التدهور”.
وفيما يتصل بمسألة مكافحة الدولة لظاهرة الفساد المتفشيّة في الإدارة ومؤسساتها المختلفة، أشار تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2021 إلى أنّ لبنان احتلَّ المرتبة 154 على قائمة الدول التي عملت على مكافحة الفساد، وعزا التقرير ذلك إلى عدم الاستقرار السياسي، والقمع الشديد للحقوق الأساسية من قبل السلطات، وفشل الطبقة السياسية اللبنانية في معالجة الأزمات المتفاقمة.
ويدخل في إطار الفشل في مكافحة الفساد استمرار منطق المحاصصة بين القوى السياسية، متحكّمًا بأية محاولة للإصلاح أو الخروج من الأزمة، ويدلّ على ذلك فشل مجلس الوزراء في اتخاذ خطوات تسهم في حلّ أزمة الكهرباء، على سبيل المثال، بسبب ربط أيّ حلّ لهذه الأزمة بإنشاء معمل كهرباء في إحدى المناطق استنادًا إلى منطق المحاصصة، وبعيدًا عن أي منطق علمي أو حاجة حقيقية.
إلى ذلك، إن عدم توفّر استقرار سياسي في البلد، والتأخّر في تشكيل الحكومات، أو وضع العراقيل في طريق عملها، أو تعطيل عملها كما حصل بعد أحداث الطيونة التي سقط فيها عدد من القتلى، على خلفية المطالبة بتغيير المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت على خلفية التشكيك بقراراته، وقد توقفت الحكومة عن الاجتماعات لأكثر من 3 أشهر، والتلويح بين فترة وأخرى بالسلاح؛ كلّ ذلك أسهم في تعميق الأزمة الاقتصادية من ناحية، وتأخّر الحلول من ناحية ثانية، خاصة بعد فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حيث يعترف الجميع تقريبًا أنّ الاتفاق معه والحصول منه على تمويل للفترة المقبلة يُعتبر المفتاح الأول لحلّ الأزمة الاقتصادية، وتاليًا التخفيف من أعباء الفقر في لبنان.
آفاق المستقبل
يدرك الجميع في لبنان أن التصدي للحدّ من ظاهرة الفقر يحتاج إلى وضع حلول للأزمة الاقتصادية، تبدأ من وقف الانهيار أولًا ومن ثم استعادة الثقة وبعد ذلك البدء بمسيرة التعافي.
كما يعترف الجميع بأن هذه المسيرة تحتاج بشكل أساسي إلى تمويل خارجي يرفد الدورة الاقتصادية ويضخّ فيها أموالًا جديدة، تكون كافية لإعادة تنشيطها من جديد، وهذا ما يجب أن يجري على وجه السرعة، لأن كلّ يوم تأخير يعمّق الأزمة ويوسّع من دائرة الفقر.
غير أن الحصول على هذه الأموال يحتاج إلى جهات تكون قادرة على تلبية الاحتياجات اللبنانية، وفي مقدّم هذه الجهات يأتي صندوق النقد الدولي الذي تخوض معه الحكومة اللبنانية مفاوضات لإقناعه بالمساعدة، غير أنه يشترط جملة شروط لتلبية الحكومة، من بينها القيام بإجراءات يُطلق عليها الصندوق إصلاحات إدارية ومالية وغيرها.
لم توافق بعد الحكومة اللبنانية على هذه الإجراءات، انطلاقًا من خلفية سياسية لها اعتبارات تتصل بالصراع في المنطقة والإقليم أكثر ممّا تتصل بالوضع الداخلي اللبناني، ومن بين هذه الاعتبارات مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الإسرائيلي المحتل لفلسطين، مع العلم أن الحكومة أعلنت قبل أيام أنها وقّعت بالأحرف الأولى اتفاقًا مبدئيًّا مع صندوق النقد الدولي، غير أنه يحتاج إلى موافقة الإدارة.
المرحلة المقبلة إذا لم تحمل الحلول الجذرية للأزمة السياسية والاقتصادية، فإن ظاهرة الفقر ستزداد توسعًا وانتشارًا، وستصيب المزيد من المواطنين والشرائح التي لم تُصَب بها قبل أعوام
وأمّا على مستوى إمكانية استفادة الحكومة من موارد الدولة للتخفيف من أعباء الفقر، فإن ذلك غير ممكن حاليًّا لأن اقتصاد لبنان يقوم أساسًا على قطاعَي السياحة والخدمات المصرفية، وقد ضُرب قطاع السياحة بسبب جائحة كورونا خلال العامَين الماضيَين، وبسبب الوضع الكارثي الذي يعيشه البلد على مستوى الخدمات الأساسية، وتراجعت الثقة بالقطاع المصرفي إلى حدود كبيرة بعد احتجاز أموال المودعين.
في حين يعاني القطاع الصناعي معاناة شديدة بسبب الإجراءات الحكومية بخصوص النفط والكهرباء ورفع الدعم عنهما، بينما لا يلبّي القطاع الزراعي إلا حاجة بسيطة من السوق اللبنانية من الخضار والحمضيات والتفاح، بينما يستورد لبنان ما نسبته 90% من القمح من أوكرانيا وروسيا.
ولنا أن نتذكّر أن الحرب هناك أرخت بثقلها على كاهل المواطن اللبناني، الذي أضيفت إليه معاناة جديدة هي معاناة الحصول على الخبز والمدعوم منه على وجه الخصوص، بينما لا يمكن التعويل على الاستثمار بالنفط والغاز المكتشفَين في البحر المتوسط قبل الاتفاق مع الأطراف المعنية على ذلك، وقبل تلزيم هذه الاكتشافات لجهات مختصّة وموثوقة، وهذا يحتاج إلى وقت يمكن أن يكون سنوات، وهو ما لا يحتمله الوضع الاقتصادي في لبنان.
وبناء عليه، إن المرحلة المقبلة إذا لم تحمل الحلول الجذرية للأزمة السياسية والاقتصادية، فإنّ ظاهرة الفقر ستزداد توسعًا وانتشارًا وستصيب المزيد من المواطنين والشرائح التي لم تُصَب بها قبل أعوام، وهذا بدوره سيشكّل تحديًّا حقيقيًّا أمام الدولة والمجتمع، وينذر بانتشار الفوضى والسرقة وتفشّي المخدرات، وغير ذلك من الأمور التي يمكن أن تدمِّر ما بقيَ من وطن.