لم تستسلم الأسيرة الفلسطينية لقيود الأسر يومًا، فمنذ اليوم الأول لاعتقالها تصنع داخل زنزانتها عالمها الخاص كما لو كان يحاكي حياة الحرية، فتسخّر المقومات المتاحة للترفيه عن نفسها وخلق الأجواء الأسرية بمشاركة زميلاتها في الأقسام والزنازين التي تجاورها.
ورغم القوة والصبر اللذين تمتلكهما الأسيرات في التغلُّب على منغصات السجّان، إلا أن هناك مناسبات تجعلهن أكثر إيلامًا لبُعدهن عن عوائلهن كما في شهر رمضان.
ومنذ نشأة السجون الإسرائيلية، يروي الأحرار عند الإفراج عنهم قصصًا مثيرة تكشف عن مقدرتهم في تطويع واقع الأسر، لخلق تفاصيل فيها شيء من الفرح تشبه الحرية، فلا شيء يقف حاجزًا أمام رغباتهم فيصنعون من العدم حياة.
عالم الأسيرات له خصوصيته، فهنّ رغم قلة عددهن أو حتى سنوات اعتقالهن مقارنة بالأسرى الرجال، إلا أنهن يتركن إرثًا لمن يأتين بعدهن، فيسرن على النهج ذاته في تفاصيل المناسبات كافة، خاصة شهر الصيام.
عادة وبمجرد اقتراب الشهر الكريم يقلّبن الذكريات، كل منهن تصف لزميلاتها كيف الطقوس بين عائلتها، ورغم أنها متشابهة لكن تبقى هناك بعض التفاصيل المختلفة، فيتعلمن عادات ووصفات رمضانية جديدة، ويضفن إليها لمسات السجن الخاصة بهن.
زينة رمضان ومعجون الأسنان
ولأن صاحب التجربة هو الأقدر على وصفها، تروي المحررة نسرين أبو كميل لـ”نون بوست” كيف تصنع الأسيرات الأجواء الرمضانية، ويتغلبن على شوقهن للمّة العائلة عند الإفطار والسحور.
عادت أبو كميل (46 عامًا) إلى أبنائها وزوجها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد غياب 6 سنوات في سجن الدامون الإسرائيلي، عاشت دور الأم للأسيرات القاصرات داخل غرفتهن المشتركة، وكانت الأخت لمن هنّ في جيلها.
تقول إن رمضان داخل السجن مختلف، فعند ثبوت هلال الشهر الكريم تكبّر وتهلِّل الأسيرات، ومن ثم ينادين على بعضهن في الغرف الأخرى عبر الشبّاك الذي يتوسط باب غرفتهن، ويرددن: “رمضان كريم، عقبال الحرية”.
وبعد المعايدة على بعضهن، يبدأن بقصّ الزينة الرمضانية وصنع سلاسل ورقية يتدلّى منها فانوس أو هلال مصبوغ بالألوان، من التي يحتفظن بها بعدما أُدخلت عبر الصليب الأحمر، ثم تُلصق على الجدران بواسطة معجون الأسنان.
وحين تفرغ الأسيرات من تعليق الزينة، يصطففن لصلاة التراويح وقراءة القرآن وقيام الليل، بعدها يخلدن للنوم، لكن هناك أسيرة تتوكّل مهمة “المسحراتي” في إيقاظ زميلاتها على السحور حين تنادي من فتحة الباب، ثم بعد حوالي الساعة تخرج إحداهن تنادي بصوت عالٍ: “يا عباد الله كفوا أيديكم عن الطعام”.
وبعد صلاة الفجر تخلد الأسيرات للنوم حتى ساعة الفورة (الساحة التي يخرج إليها الأسرى لمدة ساعة يوميًّا)، وتكون صباحًا، وقتها تتجاذب الأسيرات الأحاديث عدا عن المسابقات التي تُعقد إما بحفظ سورة قرآنية وإما بالإجابة عن سؤال ديني أو ثقافي، والجائزة “راديو بسماعته أو شوكولاتة”.
إعداد الإفطار دون سكّين
تستذكر أبو كميل تفاصيل ما عاشته داخل معتقل الدامون في شهر رمضان، حين كانت الأسيرات يتسابقن في إعداد أشهى الأكلات بأبسط الإمكانات المتوفرة، رغم تنغيص مصلحة السجون بمنع توفر احتياجاتهن لتجهيز الطعام من “الكنتينا” (المكان الذي يتوفر فيه بعض أغراض الطعام والمعيشة للأسرى بأسعار عالية).
وكما الأمهات يصنعن الطعام بمساعدة بناتهن في الخارج، تمامًا تخلق الأسيرات مثل تلك الأجواء، فمثلًا كانت تنادي المحررة أبو كميل على الصغيرتَين مرح بكير وشروق دويات: “تعالا ساعداني، اتركا ما في أيديكنّ وحرّكا الطبخة”، والقول لها.
وتعلق: “الأيام الأولى من شهر رمضان هي الأصعب، فكل طقس نفعله نستذكر عوائلنا ونبكي، لكن ما يهوّن علينا هي رسائلهم التي تصل عبر الإذاعة، نتشجّع ونضحك ونردد ما سمعناه، ثم نكمل برنامجنا الرمضاني”.
أما عن الأكلات التي تعدّ وكيفية طهيها، تصمت أبو كميل وتضحك: “هل لكم أن تتخيلوا إعداد مائدة رمضانية دون سكّين”، وتوضّح أن مصلحة السجون تمنع استخدام السكاكين، ما يضطر الأسرى بشكل عام استخدام الغطاء المعدني لعلب السردين في التقشير والتقطيع.
وتحكي أنها وبعد مرور شهور على إطلاق سراحها لم تعتَد على استخدام السكّين جيدًا، عدا عن أنها تربط أي حدث يجري معها بالسجن وتقارن، ثم تتمنى لو كانت رفيقاتها الأسيرات ينعمن بالحرية مثلها.
قبل خروج أبو كميل من الأسر دوّنت وصفاتها في الطبخ للفتيات اللواتي يكملن سنوات الحكم، وعلّمت الصغيرات منهن كيفية حفظ الطعام ساخنًا، وأوصتهن بالصبر
وعودة إلى أقراص الكبة والمنسف والمقلوبة وحلوى القطايف، الأكلات التي تشتهيها الأسيرات على المائدة الرمضانية، ولا تتوفر مكوّناتها مرة واحدة لإعداد مثل هذه الأطباق، فتعمد الأسيرات إلى التحايل على الواقع عبر تخزين بعض الأطعمة التي توفرها مصلحة السجون، خاصة وحصتهن منها كل يوم ثلاثاء قطعة لحم، والخميس ستيك، والجمعة دجاج، فتحفظ المسؤولة عن الغرفة تلك اللحوم في الثلاجة، وحين تكون الكمية كافية يُصنع ما لذّ وطاب.
تصف أبو كميل صناعة الكبة داخل السجن بأنها عبارة عن البرغل الخشن الذي يُنقع لساعات ويُفرك عدة مرات ليتحوّل إلى عجينة، ثم تفرم اللحمة ناعمة بغطاء علبة السردين، حتى الحصول على قرص الكبة.
أما القطايف وفق قولها، فإنهن يستبدلن الطحين إما بالسميد وإما بالخبز المجفف وإما بالبسكويت الذي يُطحن ليتحول إلى المادة المطلوبة، ويُضاف إليها الحليب المجفف والقرفة والسكر والسفن آب بدلًا من الخميرة.
وتذكر أنهن استعملن البسكويت المالح بدلًا من “البقسماط” للحصول على قطع من “شنيتسل” الدجاج، وحين حرمتهن مصلحة السجون من توفر البهارات صنعنها من مكوّنات بسيطة أسموها “على إيش”.
وكما يتبادل الجيران في الخارج أطباق الطعام في شهر رمضان، تعمد الأسيرات إلى الالتزام بهذه العادة أيضًا، فقبل موعد الفورة يجهّزن أشهى الأصناف لتبادلها فيما بينهن، رغم أن هناك ساعات طويلة قبل آذان المغرب لكنهن لا يستطعن إرسالها وقت الإفطار، بسبب إغلاق المجنّدات الإسرائيليات أبواب الغرف عليهن وحرمانهن الخروج حتى لصلاة التراويح جماعةً.
وقبل خروج أبو كميل من الأسر دوّنت وصفاتها في الطبخ للفتيات اللواتي يكملن سنوات الحكم، وعلّمت الصغيرات منهن كيفية حفظ الطعام ساخنًا، وأوصتهن بالصبر.
المنغصات وفرحة العيد
وعن أبرز المنغصات التي تتعرض لها الأسيرة في شهر رمضان، قالت أبو كميل: “تتعمّد مصلحة السجون في شهر الصيام القيام بالتفتيشات الليلية التي تقلق الأسيرات، عدا عن حرمانهن الخروج لصلاة التراويح جماعة، بالإضافة إلى سحب بعض المنتوجات من “الكنتينا” التي تُستخدم في إعداد الطعام، أو رفع أسعارها لإرهاقنا ماديًّا واستنفاد مخصصاتنا المالية التي تصل من ذوينا”.
وحين ينتهي شهر رمضان ويثبت هلال شوال، تطرق الأسيرات على الأبواب لتهنئة بعضهن، ويجهّزن الكعك والمعمول والحلوى الباردة ويصنعن القهوة صباح العيد، ويرتدين أجمل الثياب التي وصلت من ذويهن.
وتجدر الإشارة إلى أنه وفق نادي الأسير الفلسطيني، فإن عدد الأسيرات في سجون الاحتلال 33 أسيرة من بين قرابة 4400 أسير.