على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، في قريتَي كفر كما والريحانة بالجليل، وكذلك في جبل الجليل الأخضر، ترى أقوامًا يرفعون علمًا لا هو بالعلم الفلسطيني ولا بعلم الاحتلال الإسرائيلي الذي اتّخذ من فلسطين مقرًّا لوطنه القومي المزعوم، بل هو علم باللون الأخضر يزيّنه 10 نجوم، ويُطلقون على أنفسهم “شعب الأديغة”، وهم الشراكسة اصطلاحًا عند العرب.
من على أراضي الشام بدأت الحضارة الجديدة لشعوب الأديغة، وهي الطوائف الشركسية، وهم مسلمون وليسوا عربًا، ففلسطين تميّزت عن غيرها من بقاع الأرض باحتضانها للعديد من السلالات البشرية والشعوب المهاجرة، حيث يوجد فيها العرب والإفرنج والأرمن والسامريون أيضًا، وهم من سلالة بني إسرائيل، أقدم الطوائف البشرية وجودًا.
وفي فلسطين تعددت الديانات بين مسلمين ومسيحيين ويهود ودروز، وقد اُصطفيت من بين العالم كله لتكون موطن النبي المسيح عيسى عليه السلام، وموطن العديد من الأنبياء الآخرين.
ومن هنا سيتمّ الحديث عن إحدى أهم الطوائف البشرية وجودًا هنا، وهم الشراكسة، الذين لديهم حضارة وتاريخ عُرفا قديمًا بأنهما الأقدم وجودًا بين الحضارات البشرية، بل الأكثر رقيًّا وتقدمًا، فوفقًا للتقويم الشركسي هم الآن في السنة 6231، مقارنة بسنة 2022 ميلادي و1443 هجري، ما يُشير إلى مدى قدم هذه الحضارة التي انبثقت من جبال القوقاز قديمًا.
كيف وصلوا فلسطين؟
تواجد الشراكسة أول مرة في فلسطين بغرض الدفاع عن البلاد الإسلامية والعربية، حيث جاؤوها كشكل مؤقت مقاتلين وليسوا مهاجرين، فقاتلوا في فلسطين ضد أكبر إمبراطوريات العالم “التتار والمغول“، حينما كانت مصر وبلاد الشام تحت قيادة الدولة المملوكية، والمماليك غالبًا هم من القوقازيين والشراكسة الذين ورثوا الحكم الإسلامي والعربي من الأيوبيين، وكان السلطان الشركسي سيف الدين قطز والظاهر بيبرس حاكمَي الدولة المملوكية آنذاك.
عُرفت فلسطين قديمًا بجبروت أهلها كما عُرف بها الشراكسة
سيطر التتار والمغول على شبه العالم، حيث كانت نقطة خروجهم من منغوليا، وهي جمهورية حبيسة الآن بين الصين وروسيا، وتمددوا بين شقَّي العالم فساروا شرقًا، قضوا على الصين واليابان وروسيا، وتقدموا غربًا تجاه باكستان وبلاد فارس.
ثم واصلوا السير نحو العراق وقضوا على الدولة العباسية، وكانت أول دولة إسلامية تسقط، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، وذبحوا فيها من 800 ألف إلى مليون عربي، وسيطروا على حلب ودمشق، ما أدى إلى انسحاب المماليك إلى مصر.
وقبل وصولهم فلسطين، آخر محطات المغول، قُدّرت ضحايا جرائمهم في العالم بـ 40 مليون شخص، ومن شدّة بطشهم كان يعتقد الكثير بأنهم “يأجوج ومأجوج“، نظرًا إلى أنهم من سلالة يافث ابن النبي نوح عليه السلام، وهي نفس السلالة البشرية التي يقال إن” يأجوج ومأجوج” يردون إليها.
وحينما أصبحت فلسطين ومصر وأفريقيا الهدف الأخير للتمدد السرطاني للتتار والمغول، سارع السلطان المملوكي سيف الدين قطز وقائد جيوش المماليك الشركسي بيبرس، بجلب قوافل من المقاتلين الشراكسة لفلسطين، حيث عُرفت فلسطين قديمًا بجبروت أهلها كما عُرف بها الشراكسة.
والتحمت جيوش الجبابرة معًا، المكوَّنة من العائلات الفلسطينية بمشاركة الشراكسة من جيوش المماليك ضد قوات التتار والمغول في غزة، آخر مدينة فلسطينية على الحدود مع مصر، وكان هذا أول دور شركسي في البلاد العربية، وهو تحرير فلسطين ومنع دخول الأعداء إلى مصر وبلاد أفريقيا.
فمِن أرض غزة توقف تمدد المغوليين بعد مقتل غالبية جيوشهم، قبل أن تجري المعركة النهائية التي هي معركة عين جالوت شمال فلسطين، هُزم فيها المغول شرّ هزيمة، وكُسرت شوكتهم وأُنهكت قواهم في العالم، التي امتدت من اليابان والصين حتى فلسطين.
يقول المؤرخ السوري الشركسي الدكتور عادل عبد السلام: “ليست هذه المرة الوحيدة التي يُدافع بها الشراكسة عن بلاد العالم العربي، فبعد رحيل الصليبيين من بلاد الشام وهزيمتهم على أيدي الأيوبيين 1178، بقيت القوات الصليبية في جزء قريب من الوطن العربي، حيث كانت تتمركز قواتهم في جزيرة قبرص، يذهبون من خلالها لارتكاب جريمة بالوطن العربي كرسالة انتقام من هزيمتهم أمام صلاح الدين، ثم ينسحبون لجزيرتهم”.
ويكمل: “من هذه الجزيرة القبرصية عادوا واحتلوا فلسطين عام 1240، وقاموا لاحقًا من خلالها باحتلال دمياط المصرية، وغزو الإسكندرية، وصلبوا نساءها وأطفالها وعاثوا فيها فسادًا عام 1365، وقاموا بنفس العمل الإجرامي في مدينة طرابلس اللبنانية عام 1393، فكان الوطن العربي تحت خطر جديد أشبه بالنكسة التي حلّت عليه من التتار والمغول”.
ويضيف عبد السلام: “حتى قام السلطان المملوكي الشركي الجديد سيف الدين برسباي بتنظيم حملة لتحرير قبرص استمرّت عامَين من معارك طاحنة بين العرب والمسلمين ضد الصليبيين من عام 1424 حتى عام 1426، فسقطت قبرص، وتحولت إلى أندلس ثانية بإخراجهم من آخر معاقلهم في الساحل الشامي والمصري وقبرص، وأُزيل كابوس أهلك البلاد العربية”.
لكن كيف تواجدوا في فلسطين كشعب؟
يقول الدكتور الباحث في التاريخ الشركسي الدكتور علي كشت لـ”نون بوست”: “قبل الحرب الروسية عليهم قديمًا، كان للشراكسة مناطق حكم ذاتي ودولة معترف بها وفق “اتفاقية بلغراد” بين قيصر روسيا والدولة العثمانية عام 1739، نظرًا إلى تواجدهم الحضاري والسياسي والعسكري القوي، حيث كان عددهم يفوق 10 ملايين نسمة، ولهم قومية تجمعهم باسم الدين الإسلامي واللغة والعادات والتقاليد، وكان الاستقلال الذاتي الذي مُنح للشراكسة شرطًا عثمانيًّا لوقف حروبهم مع الروس”.
شنّت روسيا حربها على من تبقّى من الشراكسة في القوقاز، من خلال معاقبة جموع من الأهالي بالإبادة الجماعية عند إقدام ثوري شركسي على أية عملية فدائية
ويضيف كشت: “لكن بعد هذا الاعتراف بـ 25 عامًا، وتحديدًا عام 1763، ألغت القيصرية الروسية كافة معاهداتها مع العثمانيين، وبدأت بتوسيع أراضيها من خلال ضمّ مناطق القوقاز وبلاد ما وراء النهر إليها، حيث لم ترغب روسيا أن تجاورها دولة إسلامية، وقد دفعت أكثر من ربع مليون جندي للحرب مع شراكسة القوقاز، حيث كانوا شبه عُزّل من السلاح مقارنة بإمبراطورية قيصر روسيا، وسُمّيت بحرب الـ 100 عام (من سنة 1763 إلى سنة 1864)”.
ورغم أن ذلك كان أطول صمود أسطوري سُجّل في التاريخ، إلا أن الشراكسة هاجروا أخيرًا بعدما أنهكتهم الحرب مع روسيا، حيث قُتل منهم أكثر من 3 ملايين شخص، وقذفت بهم مراكب الهجرة نحو بلاد الشام، قبل ترسيم الحدود بينها.
وهناك سكنَ جزء منهم في الأردن وفلسطين، فلم تكن هناك مملكة هاشمية وقتها، حيث كانت تمثل مناطق نهر الأردن جزءًا من المحافظات الفلسطينية، وآخرون دفعتهم المراكب نحو لبنان وسوريا والأناضول، وكانت هذه “الهجرة الشركسية الأولى” كما يقول الباحث علي بشت.
كانت في تلك الفترة فلسطين وبلاد الشام تحت حكم الدولة العثمانية خلفًا للمماليك في هذه البلاد، ورأت الدولة العثمانية وجودهم في فلسطين لصالحها، نظرًا إلى جبروتهم في القتال والدفاع عن أماكن مكوثهم وتاريخهم النضالي القديم في زمن المغول والصليبيين، فأي اعتداء على بلاد الشام يؤدي إلى التلاحم القوي مع العرب والشراكسة.
ووفق ما جاء في مقالات المؤرخ عادل عبد السلام: “نظرًا إلى حضورهم القوي بعد هجرتهم لبلاد الشام، قامت الدولة العثمانية بتعيين الشركسي محمود نامي قائدًا عامًّا للقوات المسلحة المصرية عام 1867، وعيّنه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية ككُلّ، أي بعد هجرتهم لفلسطين بـ 3 سنوات، ثم قام العثمانيون بتجنيد العديد منهم كمقاتلين وقادة للجيوش في سوريا والشام”.
وكانت “الهجرة الشركسية الثانية” نتيجة الانتفاضة الشركسية التي قادها من تبقّى في القوقاز بين عامَي 1905 و1907، وكانت ثورة مسلحة تهدف للتحرير، مشابهة للثورة الفلسطينية المعاصرة، حيث أدّى اقتطاع الشراكسة من أملاكهم ونقلها للمستوطنين الروس إلى إشعال هذه الثورة.
هذا فضلًا عن محاولة إجبار من عاد من الهجرة الأولى على تبديل ديانته للمسيحية، فشنّت روسيا حربها على من تبقّى من الشراكسة في القوقاز، من خلال معاقبة جموع من الأهالي بالإبادة الجماعية عند إقدام ثوري شركسي على أية عملية فدائية.
ولكن رغم ذلك، كان لنَفَسَهم الطويل في القتال خلال الحرب العالمية الأولى التي استمرّت 4 سنوات (من عام 1914 حتى عام 1918)، وصمودهم مع مقاتلي الدولة العثمانية على الجبهة القوقازية واستنزافهم لخزينة روسيا ومقاتليها، بالإضافة إلى قيام الثورة البلشفية، دور كبير في انهيار الإمبراطورية القيصرية الروسية.
الشراكسة في الحروب مع “إسرائيل”
وبحسب الباحث الدكتور علي كشت، “شاركت مجموعات منهم في الدفاع عن فلسطين خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، أي عام النكبة الفلسطينية، حيث أصبح الشراكسة جزءًا لا يتجزّأ من الشعب الفلسطيني”.
مكملًا: “قام الشراكسة بتنظيم أنفسهم تحت مسماهم والعلم القوقازي الخاص بهم، ودافعوا بقوة عن فلسطين، وكانت تلك الجبهات القتالية تحت قيادة جواد أنزور، حيث استغاث بهم العرب وعلى رأسهم الرئيس الأول للجمهورية السورية حسني الزعيم، حينما اشتدت المعارك مع الصهاينة في الأرض الفلسطينية”.
حاول الشراكسة استعادة مدن فلسطين، طبريا والجليل، بعد تحرير تل العزيزات الجولانية، وتمركزت قواتهم مع صف القوات العربية في فلسطين، لكن غياب الدعم العربي وتفكُّك جيوش العرب داخل فلسطين لم يساعد في التصدي للاحتلال الإسرائيلي في تلك الحرب
بدأت المعركة الشركسية الإسرائيلية بقيادة جواد أنزور، من على أرض تل العزيزات الفاصلة بين هضبة الجولان السورية والأراضي المحتلة الفلسطينية، بعدما فشلت كافة المحاولات العربية لاستعادتها، وكانت هذه أول عملية “كوماندوس” ضد الاحتلال، بل أول عملية تحرير بعد إعلان قيام دولة “إسرائيل”.
واستطاعوا تحرير تل العزيزات ودافعوا عنه حتى الرمق الأخير، وسقط 200 مقاتل شركسي، ما أخّرَ احتلال “إسرائيل” للجولان 20 عامًا (من عام 1948 حتى عام 1967)، وأصبح فيما بعد اسم موقع تل العزيزات بالجولان مرتبطًا بالشراكسة.
وحاول الشراكسة استعادة مدن فلسطين، طبريا والجليل، بعد تحرير تل العزيزات الجولانية، وتمركزت قواتهم مع صفّ القوات العربية في فلسطين، لكن غياب الدعم العربي وتفكُّك جيوش العرب داخل فلسطين لم يساعد في التصدي للاحتلال الإسرائيلي في تلك الحرب، ما أدّى إلى تراجع القوات الشركسية إلى تل العزيزات.
ويتوزّع الشراكسة في فلسطين تحديدًا في قرية كفر كما بالجليل المحتل شمال فلسطين، وفي قرية الريحانية، ويقدَّر عددهم اليوم في فلسطين بأكثر من 8000 شخص، ولديهم هويتهم ولغتهم الشركسية الخاصة وهي لغة “الأديغابزة”، ولديهم أيضًا نمط حياتهم الخاص الذي لم يتأثر باندماجه بالشعوب.
وخرجت جموع ترابط في مدينة القدس المحتلة تحت قيادة نهاد أبزاخ، وقبيلة أبزاخ من إحدى القبائل الشركسية الاثني عشر، ولقد شاهدهم العالم عبر شاشات التلفاز خلال أحداث حي الشيخ جراح، ولقد أدّى قمعهم مع شباب أم الفحم الذين دافعوا عن الأقصى إلى اندلاع الحرب في غزة عام 2021.
ولديهم كيانهم المستقل أيضًا في المناطق التي لجأوا إليها بعد احتلال فلسطين 1948، في الأردن وسوريا ولبنان، كما يتواجدون بقوة في العاصمة الأردنية عمّان ولديهم تجمع باسم “المجلس العشائري الشركسي الأردني“، حيث يُعقد اجتماع لأعضائه كل سنتَين غالبًا بوجود الملك الأردني عبد الله الثاني، وذلك لأنهم من ساهموا بإنشاء العاصمة عمّان قبل تأسيس المملكة الهاشمية، فقد تواجدوا فيها قبل إنشاء المملكة بـ 30 عامًا.
وفي تركيا ما زالت الدولة تهتمّ بالشراكسة الذين هاجروا إليها، فقد أُقيم نصب تذكاري للشراكسة في مدينة إسكي شهر عام 2017؛ كما أُقيم نصيب تذكاري آخر يحمل صورة شاب وفتاة صُنع من العاج الأحمر في بلدة بيليك دوزو، إحدى ضواحي إسطنبول الأوروبية، في نهاية عام 2021؛ ونصب ليَدٍ بارزة من البحر الأسود الذي غرق فيه المهاجرين الشراكسة، في بلدة مرعش قرب الأناضول جنوبي تركيا، تمَّ عام 2019.