سجّل معدل التضخم السنوي في تركيا رقمًا قياسيًّا هو الأعلى منذ عقدَين كاملَين، بوصوله حاجز الـ 61.14% في مارس/ آذار 2022، مقارنة بـ 54.4% في فبراير/ شباط الماضي، حسب معهد الإحصاء الوطني، لتسجّل الدولة التركية ثاني أعلى معدل تضخم بين دول العالم بعد زيمبابوي التي تربّعت على القائمة بمستوى تضخم وصل 72.7%.
وكشف المعهد في بيانه عن ارتدادات هذه القفزة غير المسبوقة في معدلات التضخم على أسعار السلع والخدمات، حيث زادت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 5.4% في مارس/ آذار الماضي مقارنة بما كانت عليه في فبراير/ شباط، فيما زادت أسعار المواصلات بنسبة 99.12% تلتها أسعار الأغذية بـ 70.33%.
ورغم الجهود التي بذلتها الحكومة التركية -ولا تزال- خلال الآونة الأخيرة، لامتصاص صدمة موجة التضخم المتوقعة في ظل المستجدات الإقليمية والدولية، السياسية والاقتصادية والأمنية والصحية، إلا أن الأوضاع تجاوزت قدرة أنقرة لتصطدم بشكل مباشر بالمواطن التركي، الذي وجد نفسه -دون سابق إنذار أو إعداد مسبق- وجهًا لوجه أمام غول الأسعار الجديد، الذي يلتهم كل ما لديه من مدخرات ويفقد حصن راتبه قوته وصلابته.. فما هو الحل للخروج من تلك الشرنقة قبل أن تتجاوز خطوطها الحمراء؟
اختبار صعب
تعدّ الأزمة الحالية الاختبار الأصعب للاقتصاد التركي منذ عام 2002، إذ حطمت معدلات التضخم المعلن عنها مؤخرًا الرقم القياسي على مدار 20 عامًا الماضية، أما تضخم المنتجين فكان الأعلى في السنوات الـ 27 الأخيرة، ومن ثم جاءت الهزة أكثر قوة من أي أزمات أخرى.
ربما يشير البعض إلى أن موجة التضخم الحالية ليست الأكبر في تاريخ البلاد، إذ سبقتها أخرى أكثر شراسة في تسعينيات القرن الماضي، غير أن ما يميّز الارتفاع الأخير هو حالة القلق من التداعيات، لا سيما أن المواطن التركي بدأ يتلمّس ارتدادت ما حدث في صورة زيادة جنونية في الأسعار وثبات نسبي أو نمو بطيء في الأجور والرواتب، وتزامن ذلك من شعور متنامي بتهديد الأمن الغذائي وتعريض سلة غذاء العالم كله للخطر في ضوء المستجدات الأخيرة.
واستطاع التضخم القفز بتلك السرعة بعد سلسلة الإجراءات التي اتخذتها أنقرة على أمل وقف نزيف الأسعار المتنامي، أبرزها خفض معدلات الفائدة العام الماضي، حيث كان يرى الرئيس رجب طيب أردوغان أن كلفة القروض العالية أحد أسباب تنامي التضخم، رغم معارضة البعض لتلك السياسة التي ربما تأتي بنتائج عكسية، وعليه خفّض البنك المركزي أسعار الفائدة 5 نقاط مئوية في الربع الأخير من العام الماضي، لتبقى على مستوى 14% حتى العام الحالي.
حالة اليأس التي بدأت تهيمن على الشارع التركي دفعت الحكومة للتحرك قبل فوات الأوان، على أمل طمأنة المواطنين ودفعهم إلى تشارك المسؤولية مع الدولة، فخفضت نسبة كبيرة من الضرائب على السلع الأساسية وقلّلت تعريفة الكهرباء.
كما قررت تثبيت أسعار المواد الغذائية (الزيت والدقيق والسكر والحفاضات و20-25 نوعًا آخر من المواد الغذائية والسلع الأساسية) في البلاد بأسعارها الحالية حتى ديسمبر/ كانون الأول القادم، ما يخفف نسبيًّا العبء عن المواطنين، ويفتّت مرحليًّا كرة الثلج التضخمية المتزايدة يومًا تلو الآخر.. لكن يبقى السؤال: هل يتحمل المواطن التركي حتى نهاية العام؟
أسباب الأزمة.. تهاوي الليرة العامل الأبرز
تتصدر العملة الوطنية التركية (الليرة)، التي تعرضت لضربات موجعة خلال السنوات الأخيرة، قائمة الأسباب المحورية التي قادت إلى تلك المعدلات الكبيرة من التضخم، فالانهيار الذي شهدته في قيمتها الشرائية أمام العملات الأجنبية أحدث قفزة هائلة في الأسعار، ومن ثم أربكت سوق العرض والطلب السلعي بشكل صعّب من مهمة الاحتواء السريع.
الليرة التي تعاني منذ عام 2014 من انحدار تدريجي أمام الدولار الأمريكي، دفعت ثمنًا باهظًا جدًّا جرّاء المستجدات السياسية والاقتصادية، الإقليمية والدولية، على رأسها حسابات الأمن القومي التركي في العراق وسوريا، ومحاولة التمسُّك بالسيادة والاستقلالية أمام الضغوط الأمريكية، فضلًا عن العواصف العالمية التي خيّمت على الجميع كجائحة كورونا وغيرها.
ولم يكن الشأن الداخلي بمعزل عن تفاقم الوضع، سواء للعملة أو لمعدل التضخم، حيث شهدت البلاد موجات من الاضطرابات أثّرت بشكل واضح على الوضع الاقتصادي، مثل محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، ثم الاستحقاقات الدستورية المتلاحقة التي زادت من درجة حرارة المشهد الداخلي، كإجراء انتخابات مبكرة، برلمانية وبلدية، والاستفتاء على التعديلات الدستورية التي كانت مثار جدل لدى البعض.
وما زاد من سوداوية المشهد جائحة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على القطاعات الأكثر حيوية داخل المكوّن الاقتصادي التركي، على رأسها كل من قطاعَي السياحة والعقارات، إذ تعرّضا لهزات عنيفة أفقدت البلاد موردًا كبيرًا من موارد العملات الأجنبية الثابتة، ما كان له صداه السلبي على العملة المحلية.
يحذّر الخبراء من سياسة رفع أسعار صرف العملات الأجنبية على المدى البعيد، إذ أن أكثر من 85% من الدين العام التركي (الداخلي والخارجي) مرتبط بالعملات الأجنبية
يرى الكاتب التركي، مراد كارتالكايا، أن زيادة سعر صرف العملة الأجنبية هو السبب الرئيسي في الأزمة، والضلع الأكبر في تفاقم التضخم، مستعرضًا في مقال له خارطة الزيادات التي شهدها سعر الدولار منذ عام 2001 وحتى اليوم، وكيف أثّرت على زيادة أسعار السلع الرئيسية التي بدورها أدّت في النهاية إلى ارتفاع معدلات التضخم.
يشير كارتالكايا في مقال تحليلي له إلى أن سعر الدولار عام 2001 ارتفع بمتوسط 139%، وبالتبعية ارتفع معه مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 76%، وفي عام 2018 ارتفعت العملة الخضراء بنسبة 74%، قابلها زيادة في مؤشر الأسعار للمستهلك بنسبة 70%.
أما في عام 2020، زادت قيمة العملة الأمريكية بنسبة 31%، فيما ارتفعت الأسعار بحوالي 12%، وخلال العامَين الماضيَين زادت قيمة الدولار قرابة 82%، فيما ارتفع معها مؤشر الأسعار بقيمة 47%.
ويحذّر الخبير الاقتصادي التركي من سياسة رفع أسعار صرف العملات الأجنبية على المدى البعيد، مشيرًا إلى أن أكثر من 85% من الدين العام التركي (الداخلي والخارجي) مرتبط بالعملات الأجنبية، سواء بشكل مباشر عن طريق الدولار أو غير مباشر عبر التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية.
ومن ثم إن الاستمرار في رفع سعر الصرف سيزيد من الأعباء على خزانة الدولة، كاشفًا أن أنقرة سددت مدفوعات فائدة بقيمة 31.5 مليار ليرة تركية في الربع الأول من يناير/ كانون الثاني إلى مارس/ آذار 2020، إلا أنها دفعت 77.7 مليار ليرة تركية بزيادة قدرها 146% في الفترة نفسها من عام 2022.
الحرب الروسية الأوكرانية
جاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير/ شباط الماضي لتزيد الطين بلة، حيث أدّت إلى تفاقم الوضع العام وأحدثت زلزالًا مدويًا في الاقتصاد العالمي برمّته، وكان لتركيا نصيب ليس بالهيّن من هذا الزلزال بحسب الخبير الاقتصادي التركي كان فوات غورسيل.
يرى غورسيل أن الحرب التي شنّتها موسكو لها 3 تأثيرات مباشرة على الاقتصاد العالمي، أولها التضخم المرتفع، حيث بلغ أعلى مستوياته خلال الـ 40 عامًا الماضية، وذلك بسبب قلة العرض مع تدهور سلاسل التوريد ومخاوفها وزيادة الطلب؛ ثانيًا تراجع التجارة العالمية؛ وثالثًا التباطؤ في الأنشطة الاقتصادية.
وعلى المستوى التركي، يكشف الخبير الاقتصادي عن ارتدادات الحرب على الاقتصاد الوطني، بدايةً من تباطؤ الطلب المحلي وانخفاض القوة الشرائية للأسر، وارتفاع تكاليف الطاقة والمدخلات ومشاكل الإمداد، بما يؤثر على إنتاج السلع والخدمات سلبًا، حيث كل ذلك أفقد النمو الاقتصادي الزخم المطلوب.
واستشهد غورسيل بالأرقام والإحصاءات الخاصة بحركة البيع والشراء وتداعياتها على الميزان التجاري التركي، كاشفًا أن عجز التجارة الخارجية التركية بلغ في مارس/ آذار الماضي 8.2 مليارات دولار، فيما بلغت واردات الطاقة 8.4 مليارات دولار، وفي الربع الأول من العام الجاري بلغ إجمالي عجز التجارة الخارجية 25.6 مليار دولار، فيما يصل العجز السنوي إلى 90 مليار دولار، متوقعًا استمرار العجز في الحساب الجاري حتى نهاية عام 2022.
الاقتصاد التركي.. ثنائية القوة والضعف
لم تكن تلك هي الضربة الأولى التي يتلقاها الاقتصاد التركي، فعلى مدار عقود طويلة مضت تعرّضَ لعشرات القذائف من هذا النوع، غير أن قدرة الاقتصاد وقوته كانتا كفيلتَين بامتصاص الصدمات قدر الإمكان والتعافي منها مبكرًا، لما يمتلكه من أرضية قوية يمكن الاستناد عليها حتى عبور الموجة.
يستعرض الخبير الاقتصادي، عبد الحفاظ الصاوي، في مقال له أوجُه القوة والضعف لدى الاقتصاد التركي، لافتًا إلى أن أبرز مصادر قوته أنه اقتصاد متنوّع لا يعتمد على مجال أو قطاع واحد كما هو الحال في اقتصاديات العديد من البلدان الأخرى، حيث يُعتبر منظومة متكاملة ذات أضلاع متعددة (صناعة وزراعة وسياسة وتجارة وعقارات)، كاشفًا أن حجم هذا الاقتصاد بلغ عام 2020 نحو 5.05 تريليونات ليرة، بما يعادل 720 مليار دولار، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
هذا بجانب قاعدته الإنتاجية والتكنولوجية القوية القادرة على تحقيق معدلات نمو عالية، وهو ما تبيّن بشكل لافت خلال التعامل مع الجائحة، فبينما تراجعت معدلات النمو في معظم دول العالم، حققت تركيا -مع بعض الدول القليلة- معدلات نمو إيجابية بلغت 1.8%.
أما نقاط الضعف فيمحورها الخبير الاقتصادي في 3 محددات رئيسية، أولها قضية الطاقة التي تعدّ أكبر القضايا المؤرقة للاقتصاد التركي، إذ تعتمد البلاد في قرابة 90% من احتياجاتها من الطاقة على الاستيراد، كذلك اعتماد القطاع الخاص على التمويل الخارجي بشكل لافت، ما يزيد من تفاقم الدين الخارجي الذي يستحوذ القطاع الخاص على الجزء الأكبر منه، وأخيرًا السياسات النقدية المتّبعة والتي تُحدث ارتباكًا في السوق، لا سيما فيما يتعلق بأسعار الفائدة وما ينجم عنها من ضربات معاكسة، كهروب الاستثمارات الأجنبية من السوق التركية والقلق من ضخّ استثمارات جديدة.
ما المخرج؟
قبل الحديث عن سُبل الخروج من تلك الشرنقة، من الأهمية بمكان الوقوف على حقيقة الأزمة ميدانيًّا، ومدى تأثير التضخم على الشارع التركي وحياة المواطنين، وهل تُعتبر المعدلات الحالية تجاوزًا للخطوط الحمراء التي تتطلب رفع حالة التأهُّب القصوى كما يشير البعض، لا سيما المشكك في البيانات الواردة عن معهد الإحصاء.
في تقييمه للتضخم في تركيا، يرى كبير الاقتصاديين في TÜSİAD توصياد، جيزام أوزتوك ألتينساتش Gizem Öztok Altınsaç أن أنقرة لم تتخذ بعد أي خطوات لمكافحة التضخم، وأن ما تمَّ اتخاذه بالفعل هي خطوات لمحاربة سعر الصرف، منوّهًا أن التضخم لم يصل بعد إلى المعدل (التأثير الأساسي) الذي يمكنه تهديد الوضع بشكل قلق، وإن كان ذلك يتطلب إعادة النظر في السياسات النقدية المعمول بها مع مراعاة أبعاد الاقتصاد الأخرى.
أما الكاتب آدم تورغوت يطالب باتخاذ خطوات عاجلة تبريدًا للأزمة قبل تجاوزها الخطوط الحمراء، محذّرًا من أن التضخم المرتفع يقود إلى التضخم المفرط، وأن الشعب لن يتحمل حتى ديسمبر/ كانون الأول، وهي المهلة التي أعلنت عنها الحكومة التركية للتخفيف عن كاهل المواطنين.
وعن أبرز الحلول العاجلة التي يجب على الحكومة القيام بها سريعًا -بحسب تورغوت-، إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور، وتعديل جميع الاتفاقات الجماعية طويلة الأجل، ومنح المتقاعدين زيادة فوق معدل التضخم في يوليو/ تموز القادم، وتسوية قضية المؤشرات الإضافية البالغ عددها 3600 -والتي يجري العمل عليها- في أسرع وقت ممكن.
يقدم الخبير الأكاديمي والأستاذ بكلية إدارة الأعمال بجامعة أولوداغ التركية، يوكسيل أوكشاك، روشتة تفصيلية للخروج من مأزق التضخم الحالي، مستندًا في رؤيته على ضلع الأزمة ومحددها الأول (ثنائية العرض والطلب)، إذ يرى أن زيادة الإنتاج في جميع القطاعات بطريقة مخطَّطة ومبرمَجة ستضمن ابتعاد التضخم عن الاتجاه المتزايد ويقف عند حدوده بما يسمح بتقليصه مرحليًّا، وأن التغلب على هذا الشبح سيكون من خلال التحكم في الطلب على المدى القصير، والتحكم في العرض على المدى الطويل.
ومن أبرز الحلول العاجلة التي طالب بها أوكشاك: إنشاء هيكل ائتماني لاستهداف الإنتاج بدلاً من الاستهلاك في توظيف رأس المال، وتطوير النماذج القائمة على تقاسم المخاطر، وزيادة المبادرات والجهود المبذولة للحدّ من المخاطر العالمية والمحافظة عليها، وتعزيز جهود استعادة الثقة في الاقتصاد التركي، ومراجعة السياسات المالية الحالية وعلى رأسها النقدية التي لعبت دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة.
المعارضة.. التشكيك في الأرقام
رغم ما تحمله الأرقام المعلنة رسميًّا بشأن معدلات التضخم من دلالات صادمة، إلا أن المعارضة تشكك فيها وتعتبر أن المعدلات الحقيقية أكبر من المعلن بكثير، محمّلة الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته المسؤولية في الوصول إلى هذه المرحلة التي فقدَ فيها المواطن التركي شعور الأمان الاقتصادي.
وبعد ساعات قليلة من إعلان معهد الإحصاء عن معدلات تضخم مارس/ آذار، خرج السياسي المعارض، علي باباكان، الحليف السابق لأردوغان والذي انشقَّ عن حزبه وأسّس حزب ديفا، بتصريحات له، قائلًا إن “معدلات التضخم الحقيقية أكبر بكثير ممّا أُعلن”، متّهمًا المعهد بـ”تزوير الأرقام”، وهو الذي اتّهم المعهد في يناير/ كانون الثاني الماضي بالاتهامات ذاتها.
وتحاول المعارضة قدر الإمكان توظيف تلك الأرقام السلبية عن الاقتصاد التركي لخدمة أهدافها الدعائية الانتخابية، عبر تشويه صورة أردوغان وحزبه وحكومته، ما يمهّد لسحب البساط من تحت أقدامهم خلال الماراثون القادم، وهو السجال الذي يدفع ثمنه المواطن التركي البعيد نسبيًّا عن حلبة الصراع بين النخب.
تدفع تركيا اليوم ثمنًا باهظًا لتموجات السياسة العالمية وصراعات النفوذ والسيطرة بين أقطاب العالم، بجانب السياسة النقدية التي تحفّظ عليها الكثيرون ممن يرون أن فيها شروخات كان يجب ترميمها قبل فوات الأوان، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر وبأقصى سرعة ممكنة لاحتواء الموقف.
هزة عنيفة تواجهها أنقرة التي تحاول قدر الإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر سدّ أكبر قدر من الثغرات على رأسها الوساطة لتبريد الأزمة الأوكرانية، بما يخفف الضغوط السعرية العالمية ويقلِّل من وقع تأثير الحرب على أسواق الطاقة والأسعار العالمية، ومن ثم التضخم، لكن تبقى جهودًا مرتبطة بعوامل خارج دائرة السيطرة.