تمتلك السودان ثروات وموارد طبيعية كفيلة أن تضعها على قوائم الدول الأكثر ثراءً في القارة الإفريقية، إلا أن الفقر يسير بخطوات متسارعة داخل الشارع السوداني، إذ بات قرابة 80% من السودانيين فقراء، إثر انهيار العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي حتى وصل سعر الدولار الواحد إلى 447.5 جنيه سوداني بعدما كان يساوي 2.3 جنيه في 2010 و47.5 جنيه في 2018.
لغة الأرقام ليست صادقة
كعادة الدول التي تعاني من تراجع معدلات الشفافية والخاضعة في الغالب لأنظمة حكم عسكرية، فإن هناك فجوة كبيرة بين الأرقام المعلنة رسميًا عن مؤشرات الفقر في السودان والواقع الفعلي، فبينما تذهب تقارير الأمم المتحدة (المستقاة بطبيعة الحال من البيانات الصادرة عن الحكومة السودانية) إلى أن 46.5% من سكان البلاد يعيشون دون خط الفقر، فإن هناك مصادر أخرى تشكك في صحة المعلن به.
على سبيل المثال، أعلنت مفوضية الضمان الاجتماعي أن 77% من إجمالي السودانيين يقبعون تحت خط الفقر، لافتة أن دخل الفرد منهم لا يتجاوز 1.25 دولار يوميًا، وبحسب مدير المفوضية، عز الدين حاج الصافي، فقد قفز مستوى الفقر من 50% عام 1994 إلى 77% في الأعوام الأخيرة، فيما قدر خبراء آخرون أن المعدل الفعلي يتجاوز حاجز الـ 80%.
كل الأرقام المعلنة عن معدلات الفقر في البلد الإفريقي تستند إلى مؤشر الفقر المحلي الذي يحدد 1.9 دولار يوميًا للفرد، أما في حال حسابه على المؤشر العالمي الذي يبلغ 3.5 دولار، وفي بعض الأحيان 5.5 دولار يوميًا، فإن أكثر من 95% من الشعب السوداني سيقبع تحت طائلة “خط الفقر” وهي الوضعية التي تدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل بلد يمتلك ثروات طبيعية هائلة.
الطعنة الأكثر إيلامًا
كان الاقتصاد السوداني يتمتع حتى عام 2010 بمعدلات نمو مقبولة نسبيًا، وحافظت عملته المحلية (الجنيه) على توازنها واستقرارها أمام الدولار الأمريكي، فكان الدولار يساوي 2.3 جنيه سوداني فيما لم يتجاوز التضخم حاجز الـ 13%.
إلا أن الأمور سرعان ما انقلبت رأسًا على عقب بعد انفصال الجنوب عام 2011، حيث فقدت البلاد 75% من إنتاجها النفطي الذي تستأثر به الدولة المستقلة حديثًا، وقرابة 50% من الإيرادات المالية، فيما تعرضت البنية التحتية للاقتصاد لهزات عنيفة، أدت إلى انكماش الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 1.3% في العام ذاته، وسرعان ما قفزت إلى 3.4% في 2012.
ومع بدايات 2013 بدأت خطة الإصلاح التي تبنتها السلطة السودانية وقتها، ليبدأ التعافي مبكرًا، فبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.7% عام 2018، فيما تراجع التضخم إلى 19.8% عام 2015، ليرتفع بعدها إلى 43.5% عام 2018.
ويعد عام 2018 مرحلةً فاصلةً في مسيرة الاقتصاد السوداني، فقد قفزت معدلات التضخم والأسعار بصورة جنونية، وتهاوت العملة المحلية بعد قرار تحرير سعر الصرف الذي اتخذته الحكومة، فوصل سعر الدولار إلى 47.5 جنيه سوداني، بعدما كان 2.3 جنيه في 2010/2011، ما انعكس بطبيعة الحال على مستوى معيشة متوسطي ومحدودي الدخل.
شهادات مؤلمة
تشير أسماء عثمان (45 عامًا)، معلمة لغة عربية بمدينة أم درمان (غرب)، إلى أنها خلال الأعوام الأربع الأخيرة تحديدًا، أي منذ قرار تعويم الجنيه، اضطرت للعمل بوظيفة أخرى داخل إحدى المكتبات من أجل الوفاء بالتزامات الحياة التي باتت فوق قدرة راتبها الحكومي.
تقول في حديثها لـ”نون بوست” إن راتبها بعد قرابة أكثر من 10 سنوات عمل لم يتجاوز 15 ألف جنيه سوداني (33.5 دولار) وهو لا يكفي لالتزاماتها اليومية وأسرتها المكونة من 4 أفراد، رغم أن الزوج يعمل بنفس المهنة ويتقاضى راتبًا قريبًا نسبيًا من راتبها.
وتضيف أنه قبل 2018 كانت الأمور أفضل نسبيًا رغم الضغوط وقلة الخدمات أحيانًا، لكن اليوم الوضع أصبح كارثيًا على حد قولها، فقد اضطرت إلى تقليل نفقات الطعام والشراب رغم تحذيرات الأطباء بمخاطر ذلك على نجلها الأصغر الذي لم يبلغ 5 أعوام، مؤكدة أنها قررت هي وزوجها الانتقال إلى بلد آخر للحياة فيه براتب ربما يكون أفضل مما هو عليه الآن، مرجحة أن تكون القاهرة أو كيب تاون وجهتها القادمة.
تشير شهادات الكثير من السودانيين إلى أن الفقر بدأ ينخر في عظم المجتمع، وسط انشغال السلطة الانتقالية بكعكة الحكم والكراسي، ليُترك الشعب وحيدًا في مواجهة غول الأسعار والتضخم والبطالة، وهي معركة غير متكافئة من الأساس، فبالرغم من اتخاذ الحكومة عدة خطوات برفع مستوى الأجور نسبيًا بين الحين والآخر، لكن النسب لا تتناسب مطلقًا مع قفزات الأسعار، وهو ما أكده الخبير الاقتصادي محمد الناير الذي أشار إلى أن “الأجور الحاليّة لا تلبي إلا 10% من متطلبات المعيشة” خلال حديث له مع الأناضول.
فيما ذهب الخبير الإستراتيجي أحمد آدم إلى ما أشرنا إليه بداية التقرير من أن نسبة الفقر في السودان تزيد على 80% في ظل تراجع معدلات الإنتاج والهزة التي تعرضت لها الخريطة الديموغرافية للبلاد حيث الهجرة الجماعية من الريف للمدن وزيادة نسب البطالة والهجرة خارج البلاد، متوقعًا زيادة معدلات الفقر لنسب جنونية خلال المرحلة المقبلة بعد دخول شرائح كبيرة من المجتمع في دائرة الفقر في ظل استمرار الوضع على ما هو عليه.
الفساد على رأس الهرم
يتصدر الفساد قائمة الأسباب التي دفعت نحو أكثر من ثلثي الشعب إلى مستنقع الفقر، هذا الفساد الذي تحول من حالات فردية إلى ظاهرة عامة تخيم على المشهد برمته، حيث شجع غياب الشفافية وعدم المحاسبة والعجز التشريعي وفقدان أجهزة الدولة السيادية قدرتها التأثيرية وحراكها الداخلي الفاسدين على المضي قدمًا في طريقهم دون أي رادع، وهو ما تكشفه التقارير الواردة في البلاد خلال العقود الماضية التي تؤكد سيطرة وهيمنة حفنة قليلة من السودانيين على مقدرات الشعب بأكملها.
بالأمس كانت الأعين تنصب نحو حزب المؤتمر الحاكم إبان عهد عمر البشير، الذي تحول إلى مرتع للفساد والمفسدين، من العسكر والنخبة على حد سواء، وبعد سقوط النظام في أبريل/نيسان 2019 استبشر الناس خيرًا، ظنًا أن شعارات مناهضة الفساد التي رفعوها في ثورتهم ستكون محل تقدير واهتمام، إلا أن الأمور لم تكن كما خطط لها، إذ انتقل الفساد من أروقة الحزب إلى سراديب السلطة الانتقالية، كل فريق يسعى للحصول على أكبر قدر من المكاسب في أقصر وقت ممكن، فيما يترك الشعب في الشارع يتضور جوعًا.
ويعتبر السياسي السوداني عصام الشيخ، في حديثه لـ”نون بوست” أن صراع النخب العسكرية الطامعة في حسم مقعد الرئاسة وفي المقدمة منهم رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أحد الأسباب المحورية لهذا الانحدار، إذ باتت المصالح الشخصية والفئوية فوق كل اعتبار.
وأضاف أن كل فصيل يسعى لحشد موقف دولي داعم له في معركة الرئاسة المستقبلية، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب وقوت يومه، مستشهدًا بتورط حميدتي وشركته الخاصة في تهريب ذهب السودان إلى الإمارات وتحوله إلى سمسار مرتزقة لبعض الحكام الخليجيين، وفي المقابل هرولة البرهان للرياض والقاهرة للحصول على الدعم ولو عبر بوابة التنازلات.
ومن الفساد المالي والسياسي إلى الفساد الإداري، حيث غياب الرؤية وفقدان البوصلة، والتحرك بعشوائية دون دراسة أو تخطيط، وهو ما يجهض أي اقتصاد في العالم، إذ يتسبب هذا النوع من الفساد في حدوث اختلالات هيكلية في بنية المنظومة الاقتصادية كفيلة أن تهدمها من قواعدها بما ينعكس على مستوى معيشة المواطن الذي من المرجح أن يتحمل وحده فاتورة هذا الفشل، في صورة أعباء ضريبة إضافية أو تقليص للدعم المقدم.
ويأتي عدم الاستغلال الأمثل للموارد ضمن قائمة الكبار المشاركين في مسيرة إفقار الشعب السوداني، حيث الفشل في إدارة الثروات الطبيعية وتركها قصعة مستباحة للفاسدين، بجانب سوء تقدير العملية التعليمية ومخرجاتها والتعامل مع المواطن كرئة مهملة دون النظر إلى دوافع زيادة الإنتاجية وتأهيله بما يدعم قاطرة الاقتصاد، هذا بخلاف تداعيات الصراعات والحروب التي دفعت البلاد ثمنها باهظًا جدًا.
ثروات هائلة
لم يكن السودان بلدًا فقيرًا كما تعكس مؤشرات وأرقام الفقر، إذ يمتلك خريطة ثرية من الثروات والإمكانات والموارد فضلًا عن موقع جيوسياسي كفيل بأن يضعه على قائمة الدول الأكثر رخاءً في القارة الإفريقية، إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية وتخلص من قيود ومكبلات النمو.
يمكن اعتباره بلدًا زراعيًا في المقام الأول، إذ تستحوذ الزراعة على 30.4% من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ نحو 181 مليار دولار أمريكي في 2017، فيما بلغت حصة الفرد من إجمالي الدخل القومي (GNI) ما يقارب 4.480 دولار في نفس العام.
يمتلك السودان ثروات طبيعية لا تمتلكها دول عربية بأكملها، أبرزها المساحات الشاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، حيث قرابة 200 مليون فدان من أجود الترب الصالحة مع وفرة هائلة في مصادر المياه من خلال النيل الأرزق والأبيض ونهري الدندر والرهد بجانب عطبرة، ومتوسط أمطار سنوي 400 مليار متر مكعب، ومياه جوفية تقدر بنحو 4.2 مليار متر مكعب.
كما يتمتع بثروة حيوانية كبيرة، تصل لنحو 102 مليون رأس من الماشية المتحركة في المزارع الطبيعية التي تقدر مساحتها بـ 118 مليون فدان، وتعتبر الخرطوم المصدر الأول للحوم والأغنام والماشية والأبقار لكثير من دول إفريقيا وبعض دول الخليج.
وعلى مستوى الثروات المعدنية، فتغطي صخور الأساس نصف مساحة البلاد، وعليه تمتلك كميات كبيرة من التكوينات المعدنية ذات القيمة الاقتصادية الهائلة، أبرزها الذهب والفضة والبلاتين، بجانب الأحجار الكريمة مثل الأوبال والزبرجد، فضلًا عن المعادن الأساسية كالنحاس والزنك والرصاص وأخرى إستراتيجية كالحديد والكروم والمنجنيز، مع عشرات المعادن النادرة مثل النايوب والتنتال وأحجار البناء والزينة والسيلكون وغيرها.
الهروب من المقصلة
بدايةً يفتقد السودان لوجود قاعدة بيانات ومعلومات حقيقية عن نسب ومعدلات الفقر، فتكون التقديرات نسبية بين جهة وأخرى، وعليه يرى البعض أن عدم وجود تلك القاعدة أبرز التحديات التي تقف أمام جهود التنمية، فالتشخيص الدقيق ابتداءً أول طريق العلاج.
ويشير خبراء إلى أنه لو أن هناك إرادة حقيقية لدى الدولة لحل تلك المعضلة فلا بد من وضع خطة إستراتيجية عاجلة، تستند إلى معلومات حديثة ودقيقة وتتناغم فيما بينها من خلال تشاركية كل القطاعات (تعليم وصحة وتنمية اجتماعية ونفسية)، وجدول زمني محدد، يساعد في تقييم ما تحقق من الخطة وما تبقى.
وفوق ذلك لا بد أن تكون الشفافية العنوان الأبرز وأن يتم مناهضة الفساد أينما كان موطنه، مع التخلص من السياسات القديمة ووضع أخرى متواكبة مع تطورات العصر وضرورات المرحلة وتراعي خصوصية الداخل السوداني، وبالتزامن مع ذلك لا بد من تعزيز خط الإنتاج المحلي واستغلال التفوق في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية لتدعيم الحضور السوداني عالميًا في هذا السوق بما ينعكس بطبيعة الحال على الاقتصاد الوطني، مع مراعاة تطوير البنية التحتية التي تمثل أحد أبرز التحديات أمام الاقتصاد السوداني.
في النهاية، يدفع الشعب السوداني وحده ثمن تجاذبات السلطة وفساد النخبة وإهدار ثروات بلاده، وأيضًا ثمن الحسابات الدولية المعقدة التي أودعته أسير عزلة دامت لسنوات، ليقف مكتوف الأيدي يراقب الوضع من مقاعد المتفرجين في انتظار لحظة انتصار نسبي تُحسن وضعه الذي بات على أبواب خط الإنسانية الأحمر.