ترجمة: أحمد بدوي
بعد عقدين من انهيار الاتحاد السوفييتي وما ترتب عليه من ضعف للمعسكر العروبي المتشدد، وبعد عقدين ونصف من توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وانتهاء الخطر الأكبر على الأمن المصري، فإن احتفاظ مصر بآلاف الدبابات ومئات الطائرات المقاتلة يبدو بلا معنى، ومع ذلك فإن وقف واشنطن لمعونتها العسكرية البالغة 1.3 مليار دولارًا سنويًا بعد إطاحة الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي أثار عاصفة من الغضب مع تهديد السلطة العسكرية بالرجوع لكفيلها الروسي السابق.
لماذا تستمر القاهرة في الالتزام بهذه الاستراتيجية العسكرية التي عفا عليها الزمن؟ هل بالغت الإدارة الأمريكية في قدراتها، معتبرة أنه يمكن التهديد بوقف المعونة العسكرية لخلق تأثير سياسي؟ وماهي آثار تلك الحادثة على مصر والشرق الأوسط؟
المشهد من ناحية نهر النيل
رغم معاهدة السلام الموقعة سنة 1979 بين مصر وإسرائيل، فإن مصر لم تستوعب بعد أنها في سلام مع جيرانها في الشرق، ما يسود بين الطرفين هو “سلام بارد” حيث لم يرد نظام مبارك خلال فترة حكمه البالغة 30 عامًا أن يزد من تطبيع العلاقات الثنائية أو أن يغير من رأى العامة وتصوراتهم عن المواطنين الإسرائيليين تحديدًا واليهود بشكل عام.
ولذلك فليس فقط “مصر الرسمية” بل والجمهور بشكل عام لايزال يرى في إسرائيل عدو محتمل يتحتم التكافؤ معه، وقد ألمح وزير الدفاع الأسبق “محمد طنطاوي” لذلك في مجلس الشعب في فبراير 1996.
السلام لا يعني الاسترخاء، فالتطوير المستمر للنظم العسكرية وسباق التسلح يثبتان أن البقاء للأقوى، القوة العسكرية أصبحت شرطًا أساسيًا من شروط السلام.
وبالتبعية فقد أجرت القوات المسلحة المصرية مناورات واسعة تتضمن محاكاة هجومًا على دولة – دولة شرقية عادة -، وفي المناورات الثلاث الكبرى – والتي جرت في سبتمبر 1996 وأبريل 1998 وفبراير 2009 – قامت القوات المصرية بمحاكاة صد غزو إسرائيلي عن طريق عمليات الانتقال من الدفاع للهجوم وعبور قناة السويس واستعادة السيطرة الكاملة على شبه جزيرة سيناء.
وكنتيجة لذلك فقد انتهجت مؤسسة الدفاع المصرية سياسة تكافؤ استراتيجي مع إسرائيل، تجلت في برنامج تحديث شامل طويل الأمد بدأ منذ الثمانينات واستمر لأكثر من عشرين عامًا، وفي نهايته كانت القوات المسلحة المصرية قد تحولت لمؤسسة عسكرية “غربية” حديثة وتخلصت من النفوذ السوفييتي الذي يعود تاريخه للخمسينات، وفي 2014 تمتلك مصر عاشر أكبر جيش في العالم بما يقارب 460000 جنديًا في الجيش النظامي.
وحقيقة أن الضباط المصريين (ومنهم عبد الفتاح السيسي) قد حضروا دورات تدريبية في مؤسسات أمريكية مثل كلية الحرب في كارلايل ببنسلفانيا وكلية القيادة والأركان العامة في فورت ليفنوورث بكنساس وجامعة الدفاع الوطني في واشنطن العاصمة تعد رمزًا بارزًا لخروج مصر من العباءة السوفيتية على عكس الماضي عندما تضمّن مجال دراسة الضباط المصريين الماركسية وطبيعة عمل الحزب الشيوعي، هم الآن يدرسون الديمقراطية وعلو السلطات المدنية على العسكرية، ووفقًا للميجور جنرال المتقاعد “روبرت سكيلز” والذي خدم كقائد لكلية الحرب “هذا الجيل الجديد من الضباط المصريين قد تعرضوا للعسكرية الأمريكية وقد أعجبوا ليس فقط بالطريقة التي نحارب بها حروبنا ولكن أيضًا بالعلاقة بين الجيش والمجتمع”، ومع ذلك فإن انقلاب 30 يونيو يثير شكوكًا جادة حول مدى عمق استيعاب هذه القيم الديمقراطية.
بالإضافة إلى أن القوات المسلحة المصرية تشارك في تدريبات مشتركة مع العديد من الجيوش الغربية والشرق أوسطية: في 2009 نفذ الجيش المصري مناورات مع القوات المسلحة الفرنسية والإيطالية والبريطانية والهولندية والألمانية، بينما نفذت التدريبات المصرية – التركية والأمريكية – المصرية في 2012، ذروة هذا التعاون العسكري هو مناورة النجم الساطع المشتركة بين مصر والولايات المتحدة والتي أُجريت تقريبًا مرة كل عامين منذ 1980، ولكن تم إلغاء مناورة 2011 نتيجة للأحداث التي أحاطت بخلع الرئيس حسني مبارك في ذلك العام، وأيضًا قام الرئيس أوباما بإلغاء مناورة 2013 بسبب انقلاب القوات المسلحة المصرية على مرسي، وفي كلا المرتين كانت هناك تداعيات لهذا الإلغاء على العلاقات المصرية الأمريكية.
المشهد من ناحية نهر بوتوماك
تعد مصر منذ عام 1979 – بالإضافة للسعودية – واحدة من حجري زاوية السياسة الأمريكية في العالم العربي، حيث عملت كوسيط في مباحثات السلام العربية الإسرائيلية والفلسطينية الإسرائيلية، كما عملت على نشر الوسطية ومكافحة التطرف في العالم العربي، وكذلك توفر الدعم العسكري للقوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة، إن أهمية مصر الجيواستراتيجية تكمن في حقيقة أنها الجسر بين الشرق والغرب، حيث تقع في تقاطع الشرق الأوسط مع شمال أفريقيا وأسيا، والأكثر أهمية من ذلك هو سيطرتها على قناة السويس، للتحرك سريعًا بين البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي فإن الأسطول الأمريكي يعبر قناة السويس بإذن من السلطات المصرية، أي تأخير أو قيود سوف تحتم على حكومة الولايات المتحدة وضع قوات بحرية بالقرب من رأس الرجاء الصالح وحوله في جنوب أفريقيا من أجل الوصول للخليج الفارسي والمحيط الهندي؛ وكنتيجة لذلك فيجب على واشنطن الحفاظ على علاقات وثيقة بالقاهرة رغم تغيرات النظام منذ 2011.
ويتعلق الجزء الثاني للدعم العسكري المستمر لمصر بالمزايا التي تحققها صناعة السلاح الأمريكية، يوافق الكونجرس كل عام منذ 1986 على معونة عسكرية مقدارها 1.3 مليار دولارًا لمصر، وهى ثاني أكبر حزمة مساعدات بعد التي تحصل عليها إسرائيل، ولكن لا يحصل الجيش المصري على هذا المبلغ نقدًا، وإنما مثل الإسرائيليين فإن نصيب ضخم من هذا الكرم يُدفع للمقاولين العسكريين الأمريكيين الذين يقومون بتجميع الدبابات والطائرات وإرسالهم لمصر، نقلت واشنطن 221 طائرة F16 بقيمة 8 مليار دولار لمصر كجزء من حزمة المعونة العسكرية رغم أن المستشارين العسكريين الأمريكيين يقولون منذ سنوات إن مصر لديها طائرات ودبابات كافية ولا تحتاج للمزيد.
وبالمثل فأكثر من ألف دبابة من طراز أبرامز قد نقلت لمصر منذ 1992 بتكلفة 3.9 مليار دولارًا رغم أن ما يقرب من 200 دبابة منهم لم تخرج من علبها ولم تستخدم أبدًا، مثل هذا الاتفاق يمكن أن يكون له فوائد داخل مصر أيضًا؛ فمصنع أبو زعبل لإصلاح الدبابات (المعروف بمصنع 200 الحربي) في حلوان هو موقع الإنتاج المشترك لدبابات أبرامز ويعمل فيه الآلاف من العمال المحليين؛ وكنتيجة لذلك فإن مقاولين الدفاع الأمريكيين يربحون الملايين من الدولارات سنويًا ويوظفون عشرات الآلاف من العمال كنتيجة مباشرة للمعونة العسكرية الأمريكية لمصر ودول أخرى في الشرق الأوسط، وبكلمات “بروس بارون” رئيس صناعات بارون بأكسفورد بميتشيجان والتي تصنع أجزاء الدبابة أبرامز من طراز M1A1 التي ترسلها الولايات المتحدة لمصر: “المعونة التي نعطيها لمصر تعود مرة أخرى للولايات المتحدة وتحافظ على وظائف 30 عامل من عمالي”، وبالتالي فإن أصحاب الأعمال الصغيرة مثل صناعات بارون يعملون في تناغم مع المؤسسات الصناعية الكبرى مثل جنرال دايناميكس لدعم لوبي يجمع السياسيين المحليين ورجال الأعمال والاتحادات العمالية لتوعية أعضاء الكونجرس بشأن التداعيات المحلية التي قد يحدثها تقليل الإنتاج العسكري أو تجميد مشاريع الإنتاج.
المعونة الأمريكية: الاحتجاج والمصالحة
هذه هى خلفية الجدل حول وقف المعونة العسكرية لمصر والتي ظهرت لأول مرة خلال أحداث يناير وفبراير 2011 عندما قامت قوات أمن نظام مبارك باستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وتم إلغاء فكرة وقف المعونة بعد سقوط مبارك في ضوء التنسيق والتعاون بين القيادة العليا المصرية ومثيلتها في الولايات المتحدة، كما شعرت واشنطن أن مصر تتجه لانتخابات ديمقراطية حرة ما يعني أن استمرار المعونة سوف يدعم الديمقراطية ويقوي الاستقرار في هذا البلد.
طرح التساؤل حول استمرار المساعدة العسكرية مرة أخرى بعد سقوط الرئيس مرسي في يوليو 2013، والذي كان بجميع مقاصده وأغراضه انقلاب عسكري، وإن كان بدعم شعبي مهول، النفور الأمريكي من مثل هذه التغييرات غير الديمقراطية للحكومات يترجمه قانون يمنع إعطاء المساعدة الاقتصادية – بقليل من الاستثناءات – لحكومة أى دولة تقوم بإزاحة رأس السلطة المنتخب انتخابًا سليمًا بانقلاب عسكري أو فرمان، مع ذلك فقد امتنعت إدارة أوباما في البداية عن وصف إزاحة مرسي بهذه المصطلحات، ولم يكن التدخل العسكري في السياسة المصرية هو الشيء الوحيد الذي أغضب واشنطن، بل هناك أيضًا حقيقة شن القوات المسلحة حملة قمع عنيفة ضد الإخوان المسلمين.
في يوليو الماضي تم تأجيل التسليم المفترض لأربع طائرات F16، وفي 15 أغسطس ألغى أوباما المناورة المصرية الأمريكية المشتركة والتي كان يفترض تنفيذها في سبتمبر، بالإضافة لقيام مسئولين بارزين في الإدارة الأمريكية بإدانة الفض العنيف لتجمعات مؤيدين الإخوان المسلمين في اليوم السابق.
رد فعل المسئولين العسكريين البارزين وأعضاء الحكومة المؤقتة على الإدارة الأمريكية لم يتأخر كثيرًا، فعلى خلفية الانتقادات أجرى الزعيم المصري الجديد السيسي مقابلة مع الواشنطن بوست هاجم فيها إدارة أوباما، حيث قال: “أنتم تخليتم عن المصريين، أدرتم لهم ظهوركم وهو مالن ينسوه لكم”، وأضاف أن تجميد تسليم الطائرات المقاتلة “ليس طريقة للتعامل مع جيش وطني” واشتكى من ضعف الدعم الأمريكي لـ”الأحرار الذين ثاروا ضد حكم سياسي ظالم”، وسرعان ما ترددت انتقاداته في كلمات حازم الببلاوي رئيس الوزراء الذي أضاف أن مصر قد حصلت على معونات عسكرية من روسيا لفترات طويلة في الماضي وبذلك فليس هناك سبب للقلق.
ومقابل هذه التصريحات القوية – وإن كانت مقيدة – لمسئولين القاهرة، ظهر الغضب على المستوى الشعبي بشكل أكثر قوة ووضوح، حيث دعا حسام الهندي (أحد قادة حركة تمرد) الجموع للنزول للشوارع في يوليو بعد الانقلاب مباشرة للدفاع عن الثورة ضد الإخوان المسلمين، والذين أتهمهم بالتعاون مع الولايات المتحدة لإسقاط شرعية الثورة، وادعى أن للجماعة تاريخ طويل من العلاقات الوثيقة مع إدارة أوباما والذي ظهر في الدور الكبير الذي لعبته في الضغط على حماس للوصول لهدنة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير (عملية عمود الدفاع).
وعندما هددت الولايات المتحدة بقطع المعونة عن مصر أطلقت حركة تمرد حملة احتجاجية تحت عنوان “امنعوا المعونة”، تبعتها بوقت قصير بحملة “لاستعادة السيادة”، احتجاجًا على ما أسماه قادتها “محاولة الولايات المتحدة التدخل في الشئون الداخلية المصرية”، ونشرت عريضة على موقعها الإلكتروني للدعوة لوقف المعونة الأمريكية وإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل بعد التدخل الأمريكي غير المقبول في الشئون المصرية والكيفية التي دعمت بها الولايات المتحدة المجموعات الإرهابية في مصر، أوقع هذه العريضة كمواطن مصري للمطالبة بإجراء استفتاء حول موضوعين: الأول هو رفض المعونة الأمريكية بكل أشكالها، والثاني إلغاء معاهدة السلام بين مصر والكيان الإسرائيلي وإعادة صياغة المعاهدات الأمنية لضمان حق الدولة المصرية في تأمين حدودها.
ولم يدخر محمود بدر – أحد مؤسسي تمرد – كلماته في مهاجمة أوباما لإدانته لـ”ثورة 30 يونيو”، حيث طالب واشنطن بعدم التدخل في الشئون الداخلية المصرية خصوصًا في صراع الجيش والمتظاهرين ضد إرهاب الإخوان المسلمين، معلنًا في تعبيرات واضحة أن مصر لم تعد في حاجة لمعونة الولايات المتحدة الأمريكية: “أقول لك أيها الرئيس أوباما، لماذا لا تذهب أنت ومعونتك الصغيرة عديمة المعنى للجحيم؟” بالنسبة لبدر وأعضاء حركته الاحتجاجية فإن الكفاح المسلح وإراقة الدماء كانوا ثمنًا ضروريًا لإنقاذ الأمة من جماعة الإخوان.
بعد شهرين تقريبًا، في التاسع من أكتوبر، صعدّت واشنطن من ضغطها على الحكومة المصرية المؤقتة حيث أعلنت قرارًا بـ “الحفاظ على علاقتنا بمصر مع إعادة تقييم مساعدتنا للمضى قدمًا بمصالحنا بشكل أفضل”، شدد البيان على استمرار حصول القاهرة على مساعدات الرعاية الصحية والتعليم والقطاع الخاص، كما ستساعد الولايات المتحدة مصر في حماية حدودها ومحاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن في شبه جزيرة سيناء مع توفير التدريب للقوات المصرية وقطع الغيار للمعدات العسكرية الأمريكية في مصر، ولكن أضافت وزارة الخارجية أن الإدارة الأمريكية قد قررت تجميد نقل أنظمة الأسلحة الرئيسية والتمويل للنظام العسكري حتى تشكيل حكومة مدنية ديمقراطية منتخبة في انتخابات حرة وعادلة.
وفي رد فعل الحكومة المصرية أصدر “بدر عبد العاطي” المتحدث باسم الخارجية بيان رسمي أشار فيه إلى أن تلك الخطوة تثير تساؤلات عن مدى رغبة الإدارة الأمريكية في تقديم الدعم الاستراتيجي الدائم لأمن مصر، ترغب القاهرة في الحفاظ على علاقات دافئة مع واشنطن، ولكن مع الحفاظ على استقلالها الكامل فيما يخص شئونها الداخلية ولن تتأثر بأطراف خارجية.
في الأسبوع التالي أصدر وزير الخارجية “نبيل فهمي” تصريحات مشابهة مستنكرًا وصول التوتر بين القاهرة وواشنطن لوضع حرج، مع ذلك فإن تجميد المعونة شيء يمكن للشعب المصري التعامل معه: “الشعب المصري لن يتردد في تحمل عواقب مثل هذا الموقف للحفاظ على حرية اختياراتهم بعد ثورتين، يجب على القاهرة فتح أبوابها لقوى أخرى مؤثرة على الساحة الدولية، مثل هذه الخطوة سوف تعطيها قنوات أخرى متعددة للتحرك وتمهد الطريق لعلاقات أقوى بروسيا والصين”، وأضاف فهمي أن هناك جانب إيجابي في القرار الأمريكي حيث إنه سوف يساعد كلاً من مصر والولايات المتحدة على إعادة تقييم وتقدير علاقتهم في المستقبل”.
فشلت إدارة أوباما في توقع كيف ستؤثر تصريحاتها وتصرفاتها في كل من عامة المصريين وقادتهم، لم تفشل فقط في تقدير عمق النفور العام من المحاولات الاستبدادية للإخوان لتحويل مصر لثيوقراطية إسلامية، ولكن الأهم من ذلك أنها لم تستوعب كيف ستُرى ردودها كإهانة وهجوم على الكبرياء الوطني، ينظر المصريون لحكومة الولايات المتحدة على أنها تتصرف كأنها أشترت البلد بالمعونة وتحاول استخدامها للتدخل في شئونها الداخلية.
تعامل المسؤولون المصريون مع الموقف بهدوء ومسئولية، فالتصريحات التي أصدرتها القيادة عكست الرغبة في الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ولكن أيضًا نجحت في الدفاع عن الشرف الوطني، وفي نفس الوقت مهد السيسي ورفاقه الطريق لدخول لاعبين آخرين – روسيا والصين – والذين يستطيعون توفير أسلحة ومعدات للجيش المصري.
تداعيات وقف المعونة الأمريكية
يبدو أن هناك ثلاثة عواقب رئيسية تترتب على تقليل حجم المساعدة العسكرية الأمريكية لمصر ولكن لا تقتصر كلها على مصلحة مصر، ولدورها في إسقاط مبارك فإن واشنطن أرسلت رسالة لأعدائها وحلفائها في الشرق الأوسط أن كلماتها وصداقتها بلا معنى محدد، إذا كان حليف مخلص مثل مبارك – الذي حافظ على علاقات وثيقة بالولايات المتحدة وخدم مصالحها جيدًا لثلاثين عامًا – يمكن أن يجد نفسه مرمي تحت الحافلة عندما تكون هناك مشاكل، إذن فليس هناك أحد آمن.
قوى انتقاد إدارة الولايات المتحدة لإسقاط الإخوان الشكوك حول مصداقيتها بعد ذلك، إسقاط الجماعة – وهي قوة دينية وسياسية تعرف بوضوح معارضتها للقيم الغربية – كان يجب أن يخدم المصالح الأمريكية، لكن على الرغم من ذلك فقد أدانته واشنطن وأدانت الجيش المصري، والذي تعتبره الغالبية أكثر علمانية ووسطية؛ وبالتالي أكثر اتساقًا مع واشنطن وقيمها، لم تساهم فقط التصريحات بشأن الحاجة لتجميد المعونة العسكرية في هز استقرار الشارع المصري ولكن أيضًا بدت وكأنها تشجع الجماعات الإسلامية وتظهر عدم دعم إرادة ملايين المتظاهرين من المعسكر المعادي لمرسي، رفض واشنطن لمساعدة قاهرة ما بعد مرسي ظهرت كدليل على عدم ولاء الولايات المتحدة لحلفائها ولبعض الناس دليل على ضرورة محاربتها والخيانة التي تمثلها.
والعاقبة الثانية تتعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية، وككل نقاش يتعلق بالمعونة الأمريكية لمصر يظهر فيه نقاش لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وبرغم أن الولايات المتحدة ليست طرف قانوني في اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل وبرغم أن ذلك الاتفاق لا يتضمن أي شروط تجبر واشنطن على إمداد أي من مصر أو إسرائيل بمعونة عسكرية أو اقتصادية، إلا أن الولايات المتحدة قد ألحقت مذكرتين مرفقتين تحدد التزاماتها لكلا الطرفين، كوسيط بين الطرفين وكطرف يسعى لضمان توازن القوى في المنطقة والاستقرار والتعاون المصري الإسرائيلي، وقد أعطت واشنطن بشكل تقليدي وبموافقة الكونجرس المساعدات لكل من مصر وإسرائيل؛ وكنتيجة لذلك فالادعاء المصري بأن السلام مع إسرائيل يرتبط بالمعونة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية مبرر إلى حد معقول.
حقًا، هناك مخاوف في إسرائيل من أن قطع أو تجميد المعونة العسكرية لمصر قد يؤثر سلبًا في التعاون الأمني بين القدس والقاهرة، بل والأسوأ على اتفاقية السلام نفسها، حيث تعتقد إسرائيل أن أموال المعونة الأمريكية لمصر هي السبب الوحيد لالتزام مصر بالمعاهدة وبدونها فلن يشعر النظام المصري بالحاجة للحفاظ عليها.
النتيجة الثالثة والأخيرة للتهديد أو التقليل الفعلي للمعونة الأمريكية هو تنامي أدوار الدول الأخرى، تحديدًا روسيا في العلاقات في الشرق الأوسط، يُنظر للولايات المتحدة تحت إدارة أوباما على أنها قوة ضعيفة تنسحب ببطئ من المنطقة ولأن علوم الطبيعة – والسياسة أيضًا – تكره الفراغ، فتردد الولايات المتحدة يشجع القوى المنافسة على لعب دور أكبر في مصر وهو مالا يبشر بالخير على المدى البعيد، ويشهد التاريخ الأمريكي على ذلك.
حاولت إدارة آيزنهاور في الخمسينات استغلال المساعدة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية لإقناع جمال عبد الناصر بالانضمام لتحالف لحماية المنطقة من الشيوعية، ولما فشلت مغازلة القاهرة رفضت واشنطن إمداد مصر بالأسلحة المطلوبة وسحبت بعد ذلك عرضها بتمويل إنشاء السد العالي، وفشلت هذه الاستراتيجية حيث وفرت موسكو السلاح للقاهرة سريعًا عبر تشيكوسلوفاكيا، في البداية لم يكن عبد الناصر يرغب في ربط نفسه بإحدى القوى العظمى، بل فضل المراوغة البارعة بين واشنطن وموسكو، وفي عملية طويلة صبورة تطورت عبر السنوات اللاحقة تحولت العلاقات السوفيتية لعلاقة اتكالية – وهي العلاقة التي ازدادت بشكل واضح بعد هزيمة المصريين في حرب 1967 -، عاملين هامين كانا مسئولين عن ذلك: أولاً لم يضع الروس شروطًا لمساعداتهم للدول العربية، ثانيًا غياب أى تصريح بأن الشرق الأوسط حيوي للمصالح الأمريكية، والذي اعتبرته روسيا كضوء أخضر للتدخل بشكل كامل.
وبرغم نهاية الحرب الباردة في نهاية الثمانينات، فإن روسيا الصاعدة تحت حكم “فلاديمير بوتين” لاتزال ترى الشرق الأوسط كمساحة هامة لمصالحها العسكرية والسياسية ولن يسعدها أكثر من تقليص الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ومنذ انفجار الاضطرابات الأخيرة في الشرق الأوسط سعت موسكو لزيادة نفوذها في المنطقة عن طريق حماية نظام بشار الأسد في سوريا وحشر نفسها تكرارًا في المواجهة بين الغرب وإيران حول قدرات الأخيرة النووية، وبعد إسقاط مرسي نمت العلاقات بين القاهرة وموسكو، حيث زار وزير الخارجية المصري موسكو في سبتمبر 2013 وفي أكتوبر زار رئيس المخابرات العسكرية الروسية القاهرة، وبعدها بشهر زار وفد مصري موسكو للإعراب عن امتنان المصريين للدعم الروسي لثورة 30 يونيو التي خلعت مرسي والإخوان، ولأول مرة منذ غيرت مصر وجهتها من الشرق للغرب في منتصف السبعينات زار وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” ووزير الدفاع “سيرجي شويجو” مصر في 13 نوفمبر 2013 سويًا، وبعدها بشهرين في منتصف فبراير 2014 زار وزير الدفاع السيسي ووزير الخارجية فهمي موسكو حيث كان محور الزيارة اللقاء بين الرئيس بوتين والسيسي.
ركز الحوار بين الجيش المصري والقيادة السياسية ونظرائهم الروس على تقوية العلاقات بين البلدين والتعاون في مجالات متنوعة من ضمنها الطاقة النووية، وكان على قمة هذه التفاهمات التعاون في المسائل العسكرية وصياغة صفقة أسلحة شاملة، تساوي طبقًا للعديد من التقارير ما بين 2 إلى 3 مليار دولار، ووفقًا لهذا العقد الذي تموله السعودية والإمارات، فسوف تمد روسيا الجيش المصري بطائرات MiG-29 وهليكوبتر هجومية من طراز MI-35 وبطاريات صواريخ للدفاع الجوي وبطاريات مضادة للمراكب وأسلحة خفيفة وذخيرة.
ومقابل هذه الأسلحة وافقت مصر على إمداد الأسطول الروسي بخدمات المرفأ في الإسكندرية وتقوية التعاون بين الأسطولين في المتوسط، ووافقت سوريا بالفعل على استخدام سفن الأسطول الروسي لميناء طرطوس ولكن في حالة سقوط نظام الأسد وفقدان هذه المرافق تفكر موسكو في “الخطة ب”، ويعد تقوية العلاقات بمصر خطوة هامة لروسيا في سعيها للحفاظ على دور استراتيجي هام وحضور مستمر في المتوسط، وهو الهدف الذي يصبح أكثر أهمية مع ضم شبه جزيرة القرم في البحر الأسود.
نستنتج:
الكساد الاقتصادي والإرهاب المتنامي وانتشار العنف والمعارضة الداخلية للحكومة الانتقالية على قمة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه مصر، وعلى عكس ما قبل اتفاقية 1979 عندما كانت إسرائيل هى التهديد الأكبر لمصر، على القاهرة الآن أن تواجه الخطر المتمثل في المنظمات المرتبطة بالجهاد العالمي – خصوصًا أولئك الناشطون في سيناء – برؤية استراتيجية جديدة تشتمل على الوسائل اللازمة لمكافحته، من الواضح أن عصر الحرب التقليدية ذات المناورات الضخمة بالدبابات المدعومة جوًا قد ولّى وليس هناك فائدة في تشوين كميات ضخمة من الأسلحة الثقيلة، التهديدات التي تسببها المنظمات الإرهابية الناشطة في سيناء تحتاج إلى خطة جديدة ترتكز على إجراءات رشيقة لمكافحة الإرهاب.
في نفس الوقت ننصح واشنطن بالنظر لأبعد من تفاصيل المعونة العسكرية في ضوء مصالحها بعيدة المدى، المعونة العسكرية لها أهمية أبعد من الحفاظ على قدرة الجيش المصري، إنها تعبر عن عمق دعم الولايات المتحدة لحليف، كما أنها في الواقع تمثل إعلان للولاء للعلاقات الوثيقة بين البلدين، أى قطع أو تقليص للمعونة لمصر سوف تفهمه أي أجنحة علمانية ووسطية داخل النظام الحاكم – وسوف تفهمه المعارضة الإسلامية – كتصويت أمريكي على عدم الثقة في حلفائها، في مصر خصوصًا ولكن أيضًا في كل الشرق الأوسط، مثل هذه التدابير التي تتخذها واشنطن تفتح الباب للاعبين من الخارج – وهم ليسوا بالضرورة وسطيين أو حداثيين – لاختراق مصر وباقي المنطقة وبالتالي تتأثر سلبًا مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
على المدى القصير وفي أعقاب انخفاض المساعدة لن تقطع مصر علاقاتها بالحكومة الأمريكية بحسم لأن ذلك سوف يؤدي بالضبط لعكس ما يسعى له السيسي وأعضاء جبهة إنقاذ مصر، مصر سوف تكون أقل استقرارًا إذا فقدت المورد الأول لمعدات وذخائر وقطع غيار جيشها وسوف يستمر اقتصادها في المنحنى الهابط الذي دخل فيه منذ فبراير 2011، على الجانب الآخر فإن فتح بوابات مصر للروس والسعوديين وآخرين سوف يعطي تلك الدول قوة ونفوذ يمكن على المدى البعيد أن يبعد مصر عن كفيلها الأمريكي؛ ولهذا السبب فإنه إذا أرادت واشنطن أن تستمر في التأثير على اعتبارات القاهرة السياسية فيجب عليها أن تفتح مستودعاتها العسكرية لها بدلاً من أن تغلق الأبواب في وجهها.
المصدر: ميدل إيست فورم