تحاول زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان القيام بما عجز عنه والدها في السابق والظفر بمفاتيح حكم فرنسا، فلأول مرة في تاريخ هذا البلد الأوروبي يبدو اليمين المتطرف قريبًا جدًا من قصر الإليزيه، مستغلة انشغال ماكرون بالحرب الروسية ضد أوكرانيا وتدهور الوضع المعيشي للفرنسيين.
تقدم ملحوظ
أحرزت مارين لوبان خلال الجولة الأولى من الانتخابات تقدمًا ملحوظًا مقارنة بما حصلت عليه في انتخابات أبريل/نيسان 2017، إذ جاءت في المرتبة الثانية بعد حصولها على 23.15% من الأصوات خلف ماكرون الذي حصل على 27.85%، واكتفت لوبان في الجولة الأولى لانتخابات سنة 2017 بـ21.53% من الأصوات رغم أن نسب المشاركة كانت أعلى في تلك الانتخابات مقارنة بانتخابات الأحد الماضي.
صحيح أن الفارق بين ماكرون ولوبان سنة 2017 كان 3%، وهذه المرة يبلغ الفارق بين المرشحين ما يقرب من خمس نقاط، إلا أن الفجوة بينهما في الدورة الثانية من المحتمل أن تكون أكثر ضيقًا مما كانت عليه قبل خمس سنوات.
تأمل لوبان أيضًا في الاستفادة من تجربتها للفوز بمفاتيح الإليزيه، إذ اكتسبت خبرة كبيرة من الاستحقاق الرئاسي السابق
وفقًا لاستطلاعات رأي أجريت الأحد الماضي، تتراوح نوايا التصويت بين 51% و54% لصالح الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، مقارنة بنحو 46% و49% لمنافسته زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان.
على عكس الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الماضية التي فاز بها ماكرون بعد حصوله على نسبة 66.1% من الأصوات، تبدو لوبان هذه المرة قريبة أكثر من أي وقت مضى من قصر الإليزيه، خاصة إذا أحسنت استغلال الفرص المتاحة لها.
احتياطي مهم من الأصوات
تظهر العديد من المؤشرات أن احتياطات الأصوات التي يمتلكها ماكرون منخفضة للغاية، مقارنة بلوبان، ويتمثل هذا الاحتياطي في ناخبي مرشح حزب الخضر يانيك جادو (4.63%) ومرشح الحزب الشيوعي فابيان روسيل (2.28%) فضلًا عن ناخبي الحزب الاشتراكي (1.74%) والجمهوريون (4.8%)، لا سيما بعد دعوتهم إلى عدم التصويت لليمين المتطرف.
في المقابل يبدو احتياطي اليمينية المتطرفة مهم جدًا وكبير، فقد حظيت بدعم اليميني المتطرف إيريك زمور الذي دعا أنصاره إلى التصويت لمارين لوبان رغم الخلافات التي لديه معها، كما ستعتمد لوبان على ناخبي مرشح حزب “انهضي فرنسا” نيكولا ديبون إينيان (2.1%)، الذي دعا بدوره للتصويت لصالحها في الدورة المقبلة.
تعلم مرشحة اليمين المتطرف أن الجبهة الجمهورية التي يعول عليها ماكرون لقطع الطريق أمامها كما حدث معها في انتخابات سنة 2017 وحدث مع والدها في انتخابات 2002، ضعيفة هذه المرة، فقد فقدت الكثير من قوتها ولم تعد متماسكة كما كانت في السابق، لذلك تعمل على اختراقها.
Je suis déterminé à poursuivre le combat et je ne me tromperai pas d’adversaire. C’est la raison pour laquelle j’appelle à voter pour Marine Le Pen. Il y a quelque-chose de beaucoup plus grand que nous : la France.#MerciZemmourpic.twitter.com/msx5Q8adgn
— Eric Zemmour (@ZemmourEric) April 10, 2022
ستغازل لوبان ناخبي مرشح “فرنسا الأبية” جان لوك ميلونشون، خاصة بعد أن أظهرت استطلاعات للرأي أن ما يقرب من نصف الذين صوتوا لميلونشون، (21.9%)، لا يعتزمون التصويت والربع منهم يريدون التصويت لزعيمة اليمين المتطرف لأسباب اجتماعية بالدرجة الأولى.
ليس هذا فحسب، إذ ستعمل لوبان أيضًا على استقطاب ناخبي حزب “الجمهوريون”، خاصة هؤلاء التابعين لجناح إيريك سيوتي، الممثل للجناح الصلب في اليمين التقليدي، المشهور بطروحاته اليمينية المتطرفة والقريبة جدًا من طروحات مارين لوبان.
وسبق أن رفض سيوتي الانضمام إلى “الجبهة الجمهورية” لدعم إيمانويل ماكرون ضد مارين لوبان في الدور الثاني لرئاسيات سنة 2017، كما أكد أنه يفضل دعم إيريك زمور في مواجهة ماكرون حال وصولهما إلى الدور الثاني لرئاسيات 2022.
تأمل لوبان أيضًا في الاستفادة من تجربتها للفوز بمفاتيح الإليزيه، فقد اكتسبت خبرةً كبيرةً من الاستحقاق الرئاسي السابق، وقالت في هذا الشأن: “نواجه هذه الدورة الثانية متسلّحين بخبرة حصلناها قبل خمس سنوات ستعود علينا بنفع كبير”.
القدرة الشرائية مطية لوبان نحو الإليزيه
في مسعاها للفوز بالرئاسة، غيّرت لوبان -البالغة من العمر 53 عامًا- قليلًا من لهجتها والمواضيع التي ركزت عليها، حتى تستقطب مجموعات جديدة من الناخبين، فبعد نجاح الحزب لفترة طويلة في استقطاب الطبقة العاملة، تتجه مارين لوبان في الوقت الحاليّ لاستهداف المعسكر المحافظ.
تمكنت لوبان في البداية من تحييد السجال بشأن مواقفها السابقة وعلاقاتها القريبة من حاكم موسكو فلاديمير بوتين، بعد أن سارعت بتحديد موقفها مما يحصل في أوكرانيا، معتبرة أن روسيا “معتدية” وأوكرانيا “معتدى عليها”، ودعت إلى مساعدة اللاجئين الأوكرانيين، ومن ثم بدأت الاهتمام بمشاغل الفرنسيين.
ينتشر القلق في صفوف الفرنسيين من ظاهرة غلاء المعيشة الذي بدأت علاماته قبل الحرب الروسية الأوكرانية
في الوقت الذي ركز فيه إيمانويل ماكرون على سبل وقف الحرب الروسية ضد أوكرانيا وابتعاده قليلًا عن مشاغل الفرنسيين، خاضت لوبان حملةً ميدانيةً ركزت خلالها على القوة الشرائية التي تمثل الشاغل الرئيسي للناخبين في فرنسا.
كان ماكرون يأمل في استغلال تراجع الإصابات بفيروس كورونا ووساطته في الحرب، لكن “القدرة الشرائية” تمكنت من حجب هذه المسائل التي لا تتصدر اهتمامات الشارع الفرنسي في الوقت الحاليّ على الأقل.
أحسنت لوبان قراءة استطلاعات الرأي والعمل وفقها، حيث أظهرت الاستطلاعات أن أكثر من نصف الفرنسيين مهتمون في المقام الأول بمواضيع مثل القدرة الشرائية وأجورهم وارتفاع أسعار الطاقة، فيما تأتي موضوعات الهجرة وإصلاح نظام الرعاية الصحية والتعليم في مراتب متأخرة من اهتماماتهم.
ركزت لوبان على القدرة الشرائية للفرنسيين وابتعدت عن التركيز على ملف المهاجرين وخففت من خطابها المعادي لهم خلال الأسابيع الماضية، حتى تكون أكثر اعتدالًا وتخترق اليمين التقليدي واليسار الراديكالي على حد سواء.
ظهر هذا الأمر في جولات لوبان في الأسواق والبلدات الصغيرة على مدار أسابيع، إذ وعدت الفرنسيين بتحسين القدرة الشرائية وبرواتب أفضل وبسن تقاعد مبكر أو حد أدنى أفضل للأجور، وهو ما يريده غالبية الناخبين.
? Il y a une forme de déconnexion de la part du Président de la République vis-à-vis de ce que vivent les Français. Des millions de Français sont à 5 euros près à la fin du mois. Je propose un ensemble de mesures pour rendre 150 à 200 euros en moyenne par foyer et par mois. pic.twitter.com/qhLo1GkSPi
— Marine Le Pen (@MLP_officiel) April 13, 2022
ينتشر القلق في صفوف الفرنسيين من غلاء المعيشة الذي بدأت علاماته قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وواصلت الارتفاع بسبب الحرب، ما فرض على كثير من الفرنسيين تعديل أنماط حياتهم.
أصبح ارتفاع أسعار الوقود وانخفاض القدرة الشرائية من أهم الأمور التي تشغل وتثقل جيب الفرنسيين في الآونة الأخيرة، وتقدّم مرشحة حزب التجمع الوطني مارين لوبان نفسها بوصفها مرشحة للقدرة الشرائية ومحامية عن هؤلاء الذين يعانون من التضخم وارتفاع أسعار الكهرباء والوقود والمواد الغذائية، وسبق أن قالت إن مقترحاتها، في حال تنفيذها، “ستعيد للأسر الفرنسية مئتي يورو شهريًا في القدرة الشرائية”.
أثبتت مارين لوبان أنها باتت رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية الفرنسية وقادرةً على الوصول إلى الإليزيه وتحقيق ما عجز عنه والدها جان ماري لوبان، فالإمكانات تبدو متاحة لمرشحة اليمين المتطرف لفك شيفرة قصر الإليزيه والوصول إلى الحكم، لكن المهمة ليست سهلة.