بعد مشاهدة الحلقات الأولى، يمكننا القول إن الموسم الرمضاني يفتقر لزخم البدايات، حيث تفتقد جميع الأعمال الدرامية تقريبًا لحلقة أولى مثالية، أي التأسيس المثالي للعالم قدر الإمكان، والتحرُّك داخل خطوط سردية رئيسية خاصة بالنوعية التي ينتمي إليها العمل الدرامي، بحيث يتحمس المشاهد ويحدد موقفه اتجاه العمل، هل يناسب ذائقته أم لا؟
ورغم ضعف هذا الموقف من المشاهدة، لأن من المستحيل الحكم على عمل درامي من الحلقات الأولى، لكن من المحتمل أن يكوّن المشاهد العادي انطباعًا عن المسلسل.
تتحرك أغلب الأعمال الرمضانية ببطء وتتخلى عن قاعدة الحلقة الأولى المثالية، وربما تكمن المشكلة في سردية الـ 30 حلقة نفسها، كسردية شاسعة تحتاج إلى تعيين إيقاع خاص بها، يخدم العمل الدرامي في مجمله.
بيد أنه لا بد لهذه الكلية أن ترضخ لمعايير النوعية (Genre) التي تتحرك داخلها، ما يجبر المخرج على الجمع بين الإيقاع الخاص بالنوعية الفنية، بجانب منح كل حلقة شيئًا جديدًا، للحفاظ على إيقاع الـ 30 حلقة، وهذا شيء في غاية الصعوبة، ولكن على أي حال هناك تقدُّم هائل في الجانب البصري للدراما، في انتقاء وإدارة مواقع التصوير، واختيار المزاج اللوني الملائم للجوّ العام.
من هنا سنحاول تقديم انطباع أولي عن بعض الأعمال الرمضانية التي أوشكت على مجاوزة ثلثها الأول، هي “المشوار” للمخرج محمد ياسين، و”جزيرة غمام” للمخرج حسين المنباوي.
مسلسل “المشوار”
يُعتبر محمد ياسين من المخرجين المرموقين في الوسط الفني، وهذا لتجربته السينمائية الثقيلة، وإسهامه بالانتفاضة الكوميدية في مطلع الألفية بأفلام مثل “عسكر في المعسكر” و”محامي خلع”.
حتى مع انتقاله إلى مساحة الدراما التليفزيونية، صنع عدة مسلسلات مهمة مثل “الجماعة” من تأليف وحيد حامد، و”أفراح القبة” عن رائعة الكاتب العظيم نجيب محفوظ، ومسلسل “موجة حارة”، ليعود للمشاركة في الموسم الرمضاني مرة أخرى بمسلسل “المشوار” من تأليف محمد فريد، بجانب مدير التصوير الرائع عبد السلام موسى، وبطولة النجم محمد رمضان.
منذ البداية، ومع الحلقة الاستهلالية الأولى، سترصد العين عدة ثيمات بصرية تشكّل ملامح مسلسل “المشوار”، حيث يؤسِّس المخرج محمد ياسين للمكان كموتيف بصري أساسي، يمنحه مساحة هائلة في الحلقات الأولى للمسلسل، ليتحول المكان مع مرور الوقت إلى بطل في الدراما، يتعرّض له المتلقّي كضرورة لوجود عالم جديد وطازج من الناحية البصرية.
حيث تألف عين المشاهد مواقع التصوير بطريقة تساهم إلى حد كبير في السردية ذاتها، لينكشف أثر هذا الاهتمام البالغ بالمكان في مشهد المطاردة، حين يدلف ماهر وزوجته بين عطفات الحارات الضيقة ومنافذ الدروب العشوائية التي تطل على البحر، حتى يضيعان في صخب “زفة إسكندارني” محتشدة.
محاولة صنع الدراما في أماكن جديدة على العين تضيف قيمة للدراما ذاتها، لأن المشاهد مضطر للتعاطي مع نوع جديد من التغذية البصرية، مثل جبال الملح وشاطئ الملح في الإسكندرية، فنجد افتتاحية الحلقة الأولى مجرد استعراض للمكان، مساحة هائلة من الجبال الملحية، والبطل ماهر يركض بسرعة ليلحق بهاتفه.
ولكن على الناحية الأخرى يجب على الحكاية أن تتحرك للأمام، لأن النوعية الفنية للمسلسل تندرج تحت مظلة الإثارة والتشويق، ما يفرض على المخرج صنع ذروات ثانوية، تمنح القصة ديناميكية وتبقي المشاهد متحفزًا إلى حد ما، فنجد البطل يركض تقريبًا في كل حلقة.
الركض هي الأداة التي من خلالها يحاول المخرج محمد ياسين أن يمنح مرونة واندفاعًا للمنتج البصري، بيد أن هذا الركض لا يقتصر على الحبكة الرئيسية، بل يمتدّ إلى حبكة ثانوية، مثل صنع تمثيلية للخروج من المصنع قبل الموعد المحدد.
تمرُّ الحلقات الثلاث الأولى دون حدث رئيسي، ترصد كاميرا المخرج شخوصها داخل حيثيات المكان، تتبع الأبطال داخل الحيز المكاني، يضعها في سياقها الاجتماعي ويكشف أجزاء كبيرة من عالمها، بجانب أنه يسمح للمشاهد التعرُّف إلى خصوصية المكان، من حيث الأشخاص المرتبطة بالمساحة المكانية مثل الصنايعية والأرزوقية وطبيعة الوظائف المتاحة.
حتى يأتي مشهد المطاردة كذروة درامية ترفع من الإيقاع، ليهبط السرد بعدها، ويبطئ من جريانه، وتتحول القصة إلى ما يشبه كرًّا وفرًّا، ولكن على مساحة كبيرة من الدقائق، حيث يهدر المسلسل دقائقه على حلقات ليست لها قيمة فعلية في سير الأحداث.
الأمر أشبه بحلقات الـ Filler في الأنمي الياباني، حلقات ليست لها قيمة في السردية الرئيسية، ولكنها تحمل ثيمة المسلسل وتكثّف الضوء على عناصر فنية، ما يخرج حلقات مقبولة من الناحية البصرية، ولكنها لا تساهم في تحريك السرد.
يصنع محمد ياسين منتجًا بصريًّا ممتازًا، ولكن هذا لا يكفي لصنع مسلسل من 30 حلقة، بيد أنه على أي حال يضطر لصنع حلقتَين تقريبًا في حديقة الحيوان، حلقتَين فيما يقارب الساعة دون حدث حقيقي تقريبًا، إلا إذا اعتبرنا دفن الآثار في حديقة الحيوان حدثًا رئيسيًّا، وهو بالفعل حدث شبه رئيسي، ستترتّب عليه الحبكة في المستقبل، ولكنه لا يأخذ سوى عدة دقائق على الشاشة.
فيما يعرض ياسين للشخصيات وهي تمرح في حديقة الحيوان، ربما يودّ من المشاهد أن يقترب أكثر من الشخصيات، أن يتوحّد معها، ولكن كما قلنا النوعية التي يلعب فيها المسلسل هي مساحة إثارة وتشويق، لذا عليه أن يؤسِّس لحدث أساسي في كل حلقة، حدث يسيطر على الحلقة كلها، بيد أنه على الناحية الأخرى يستلزم الحذر الشديد في إظهار المعلومات للمشاهد، يجب على كل معلومة أن تخرج في مكانها الصحيح، وفي وقتها الصحيح.
على أي حال هذا مجرد انطباع ما يقارب الـ 10 حلقات، ربما يرتفع الإيقاع في الـ 20 حلقة القادمة، ولكن بالطبع لا يمكن أن يبقى الإيقاع على الوتيرة نفسها، فالشخصيات حتى الآن بعيدة عن الخطر، معزولة عن الأطراف الرئيسية للصراع، وهذا طبيعي، ولكن يجب أن يرفع محمد ياسين النسق، ويمنح الدقائق أحداثًا مؤثرة، والحق أن هذا النوع من المط والتطويل يتبدّى -في بعض الأحيان- طبيعيًّا في سردية الـ 30 حلقة، إنما لا يمكن قبوله على أي حال.
طبعًا هذا الانطباع يدور بعيدًا عن الأخطاء الاعتيادية للدراما المصرية، مثل الأسنان ناصعة البياض لأبطال من المفترض أن ينتموا إلى طبقة اجتماعية دنيا، وأظافر مقلمة شديدة النظافة لبطلة المسلسل رغم عملها في مصنع للملح، بالإضافة إلى محاولة بحث البطل عن منافذ أو طريقة لبيع الآثار على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا أراه غريبًا، ولكنه ربما يكون مرتبطًا بعقلية طبقة اجتماعية قليلة التعليم.
مسلسل “جزيرة غمام”
يحاول عبد الرحيم كمال أن يصنع ما يشبه الملحمة، “سيرة أولاد الشيخ مدين”، على غرار السِّيَر الشعبية التي نمرّرها على الألسنة في فيض الكلام، بين نغمات التقفية الشعرية التي تمنح الأقاصيص الثقيلة مرونة ووقعًا أجمل على الآذان.
ينسج عبد الرحيم كمال عالمًا شبه مستقل، يحيطه بالبحر فيعزله عن الكلية العالمية، ويفصله عن مسالك التطور، بيد أنه ليس مبتورًا بشكل كامل عن العالم، فالعواقب والمشكلات الداخلية هي نفسها التي تواجهنا في بلادنا، لذلك الشخصيات مألوفة والغريب منها يتحدث لغة مفهومة وسلسلة.
تقع الجزيرة في مساحة ليست بالضئيلة، لذا كان من الضروري خلق الكثير من الشخصيات لترفعه وتضبط شؤونه، ولكن من الناحية النقدية وجود عدد كبير من الشخصيات يضع العمل الدرامي في خطر تهميش الشخصيات.
ربما هذا النوع من الأعمال على اتّساعه هو النوع المناسب لسردية الـ 30 حلقة، لأنه يبني عالمًا من الصفر تقريبًا، يحتاج أن يقدم شخصيات تؤسّس لحبكة مناسبة، ويصعّد الأحداث بطريقة طبيعية، وهنا تكمن الصعوبة في صنع الدراما بطريقة غير مباشرة، لأننا شاهدنا مئات من الأعمال على هذه الشاكلة.
سرد وتطوير الشخصيات هما ما يجعلان بعضها متفردًا واستثنائيًّا، تحتاج بعض القصص إلى التجريد والرمزية، والبعض الآخر إلى الشخصيات الثقيلة للانفلات من فخّ المباشرة والسطحية، فمن الصعب قبول سردية مفرطة في عاديتها بين الخير المطلق والشر المطلق، الشيطان والملاك، الأبالسة والشيخ المكشوف عنه الحجاب، لا يجب أن تسير الأمور هكذا، هذه الثنائيات تضعف من أثر القصة ولا تمنحها الحرية الكافية.
يتعرّض عبد الرحيم كمال لثنائية الخير والشر عن طريق شخصية عرفات البطل ذي القلب النظيف، وشخصية خلدون طرح البحر، الذي يمثل الشيطان أو الشخص الذي باع نفسه للشيطان، والجزيرة هي القماشة التي تلفّ هذا الصراع.
لكنه في الوقت ذاته يخلق شخصيات رمادية، تقع بين الخير والشر، وتؤمن بخيرها الخاص، مثل الشيخ محارب والشيخ عجمي، وهذا ما يمنح القصة المرونة الكافية لتلعب على عدة خطوط سردية، الخط الأكثر شمولية والصراع الكوني بين خلدون وعرفات، والخط الداخلي المتمثل في الصراع على السلطة المحلية، بين الشيخ محارب والعجمي و”البطلان”.
يندمج الخطان مع بعضهما، وتتشابك الأحداث، في بعض الأحيان تبدو الحوارات مباشرة، لأنها تخرج من شخصية أحادية النظرة حتى الآن مثل شخصية عرفات، ولكننا لا نعرف ما سينتج في النهاية عن شخصية عرفات.
يستهلّ عبد الرحيم كمال منتجه الإبداعي بمنهجية معروفة في الكتابة هي نظام النبوءة، وهي هيكلة تعتمد على التكهُّن بنبوءة معيّنة -الزوبعة في المسلسل-، وفي المساحة بين البداية والنهاية يجب أن تحدث هذه النبوءة بطريقة ما، ومع مرور الوقت تقترب الزوبعة/ النبوءة من الحدوث دون أن يشعر باقترابها أحد سوى الشخص المختار/ المخلص، وهو المكلَّف من قبل صاحب النبوءة بتحذير الخلق ومواجهة العواقب.
وهكذا تسير القصة، تخفق النبوءة من بعيد كأنها غير موجودة، فيما يتصارع الخلق في الداخل على السلطة والقوة، يودّون الانتصار لأنفسهم وتصوراتهم في المقام الأول، وتتدفق الخطوط الدرامية، لتشمل الجزيرة كلها، ولكننا حتى العشر حلقات الأولى لا نستطيع إمساك شيء ما، وهذا طبيعي، ولكن القصة إلى حدّ كبير تسير بشكل جيد، بغضّ النظر عن بعض الشخصيات الأحادية التي لم تنكشف بشكل كامل في العمل حتى الآن.
فإذا بقي “البطلان” كما هو عليه، سيتحول إلى مسخ، شرير صرف، وهذا لا يتفق مع طبيعة الدراما المعاصرة، لذلك الشيء الأكثر صعوبة بالنسبة إلى هذا النوع من المسلسلات هو تطور الشخصيات، فتعدد الشخصيات وانزلاقها في السردية الرئيسية يحتمان تطورها بعدة أشكال ربما ستخلق تحالفات وجبهات، حيث شخصية عرفات في حاجة ماسة إلى التطور، لكن حتى الآن لا نستطيع الحكم، هذا مجرد انطباع عن الثلث الأول من المسلسل.