قالت العرب ما حكّ جلد الإنسان مثل ظفره، وقالت الديمقراطية لا يمكن بناء نظام سياسي ديمقراطي بالاستقواء بقوى خارجية؛ ونستذكر هذه القواعد البسيطة في أجواء من توهُّم معجزة سياسية، ينتظر كثيرون في تونس أن يحققها وفد البرلمان الأوروبي الذي زار تونس وتحدّثَ مع الفاعلين السياسيين.
لقد سبقت الزيارة أحاديث كثيرة عن تعاطف السفارات مع الشعب التونسي الذي تعرض لخديعة كبيرة بانتخابه قيس سعيّد، ونستذكر لنذكر أن انتظار فائدة من تدخل هذه القوى وهم كبير، لا يبني الديمقراطية ولا يحفظ سيادة الأوطان.
نذكر ولا نزايد لنبرز عنصرًا هامًّا في العمل السياسي المستقبلي، وهو البدء من الاعتماد على الذات مهما طالت الطريق، والتحلي بالشجاعة الكافية لإسقاط أوهام قديمة ساهمت في خداع الثورة وأنصارها، ومنها وهم النقابة حامية الفقراء.
إعادة ترتيب ورق اللعب
لم تكن السفارات بريئة من كارثة 25 يوليو/ تموز، كان هذا واضحًا قبل الكارثة وبعدها، فحركة السفراء بين مراكز القرار السياسي في الداخل كانت دؤوبة، وخاصة منها حركة السفير الفرنسي، غير أن إلقاء المسؤولية على السفارات هو هروب جبان من مواجهة حقائق بسيطة وباهرة في وضوحها، حيث أسباب الخراب كامنة في الداخل وما السفارات إلا محرّض يبتغي مصالح بلدانه.
لقد كشف لنا الانقلاب من يقف مع الديمقراطية ومن يقف ضدها، لذلك إن إعادة ترتيب الوضع تقتضي الانطلاق من نتائج هذا الفرز العميق، أي صفّ ديمقراطي واضح مهما قلّ عدده، ضد صفّ لم يؤمن يومًا بالعيش المشترك وظلَّ استئصاليًّا يتحيّن، وأية محاولة للقفز فوق هذه الحقيقة أو تمويهها بدعوى تقوية الصفوف حتى إسقاط الانقلاب، هي خديعة يمارسها الديمقراطيون على أنفسهم.
أظن أنه من المناسب الرضا بالعيش تحت دكتاتورية عارية، أفضل من توهُّم العيش تحت ديمقراطية مغشوشة بموافقات وطنية كاذبة، وهو ما جرى منذ الثورة باسم أخوة وطنية لم تقُم أبدًا.
لقد تركت سنوات الثورة العشر أثرًا عظيمًا في نفوس كثيرة، فالحرية روح نراها سرت في كثير ولا نظن أنه يمكن للناس أن تضحّي بها ثانية مهما كانت التهديدات، وعلى هذا يمكن البناء للمستقبل دون حاجة إلى الاستعانة بالسفراء.
قد تبدو هذه مثاليات نخبوية، فالناس تحتاج الخبز لا الحرية، والمرور بالسفارات قد يوفِّر هذا الخبز، نعم، ولكن المرور بالسفارات هو عملية رهن للحرية في الداخل والخارج بمقابل زهيد، وفي هذا الفرز وجب أن نبرز معطى مهمًّا وهو معطى بنائي.
الذين يتحدثون عن حاجة الفقراء للخبز ويظهرون الشفقة على المساكين، وفي مقدمتهم النقابة، هم من منعَ الفقراء من التمتُّع بنتائج الثورة، وهم من صنعَ الانقلاب، لذلك تصبح جملة الخبز مقدَّم على الحرية جملة كاذبة يبرر بها أعداء الديمقراطية مواقعهم ومواقفهم، وهؤلاء أولى بالحسم فلا يضع العاقل يده بأيديهم، حيث الفرز وضعَ البلد أمام نقطة تأسيس جديدة، لا يمكن ترميم ما خرّب الانقلاب إلا بالقطيعة الشجاعة مع مكوناته.
إعادة التأسيس أو التخلي
هناك ازدواجية لا تزال تشق مواقف الكثيرين من مناهضي الانقلاب، أهم وجوهها الخروج ضد الانقلاب والدفاع في الوقت ذاته عن أهم سند له، وأعني النقابة، حيث هذه الازدواجية في هذه اللحظة تكشف خللًا في التفكير والتخطيط.
كل المؤشرات التي تمرُّ أمام كل بصير، تدلّ على أن النقابة صنعت الانقلاب وحمته ومنحته الوقت الكافي ليستقرَّ، وهي تفرض نفسها الآن كشريك أساسي لقطف نتيجته في سلّتها.
شرط نجاح الترتيبات ما بعد الانقلاب هي الحسم مع النقابة، وعدم الإنصات لنصائح السفراء الذين يمرّون بالنقابة قبل الحديث مع الطيف الديمقراطي المعارض، حيث توجد كذبة كبيرة في تونس اسمها الاتحاد العام التونسي للشغل.
حديث الحوار الوطني وخاصة بشروط النقابة هو نقل عاهة السنوات العشر إلى المستقبل (ولن نملّ من تكرار هذه الحقيقة الصادمة)، فمستقبل الديمقراطية في تونس لا يمرّ بمكاتب النقابة، ومن لم يبنِ على هذه الحقيقة لن يذهب بعيدًا في إعادة التأسيس.
لا أتحدث هنا عن العمل النقابي كخطيئة، بل إني أراه حقًّا بل ضرورة، لكن العمل النقابي ليس ملكًا حصريًّا للنقابة القائمة الآن، هنا بوابة تأسيس تقتضي لحظة وعي عالية تُخرج كل الطيف الديمقراطي من كذبة تاريخ النقابة الشريفة.
بناء تجربة ديمقراطية لا يمكن أن يمرَّ بسفارات دول، بعضها لا يرى البلد إلا كمنتجع سياحي يوفّر الشمس والرمل
بإسقاط وهم النقابة سيسقط أيضًا وهم ثورية اليسار التونسي، فهذه أيضًا كذبة تونسية فضحها الانقلاب، ولا نرى سياسيًّا عاقلًا يبني خطة أو يسير مسيرة مع هذا اليسار.
التأسيس الثاني يتمّ دون هؤلاء، ولو كانت الطريق نحو الديمقراطية طويلة ومضنية، وهي كذلك فعلًا، لكن العناء الذي تكبّده الديمقراطيون منذ الثورة نتيجة توهُّمهم أن النقابة ويسارها في صف الديمقراطية، أكبر من عناء تجاوزهما واعتبارهما بلا وزن حقيقي.
خطة السفراء ليست خطة وطنية
جاء نواب البرلمان الأوروبي، ونظنُّ يقينًا رغم التحفظ على المعلومات أنهم رسموا خارطة طريق بديلة لخارطة الرئيس، لكن دون إلغاء الرئيس، وستتضح الخطة بعد أن يشبع الفرقاء من اتهام بعضهم بالخيانة ويبدأون تبريرات تطبيق الخطة.
في هذه الخطة النقابة عنصر أساسي وطبقة رأس المال لا تضارّ في أرزاقها، بمعنى أن خطة مقاومة الفساد وُضعت على الرف، ومراجعة صفقات النفط التي عقدها الانقلاب مع فرنسا ليست في وارد المراجعة، مع جرعة حريات موزونة بالقسطاس.
لا بأس من مواصلة النقاشات الحرة حول حق الإسلاميين في الحياة، وهل هم بشر فعلًا، وهذه نقاشات يتقن اليسار إثارتها بمقابل، والنتيجة ألّا تصل نتائج فوضى تونس على الضفة الأخرى.
هل هذا هو المبتغى من الثورة ومن معارضة الانقلاب؟ كل الذين أملوا خيرًا من السفارات سيكتشفون الحقيقة التالية: السفارات تحمي بلدانها ولا تعمل على تأسيس ديمقراطية في بلد بلا وزن. هنا وجب أن يحكَّ المرء جلده بظفره.
بناء تجربة ديمقراطية لا يمكن أن يمرَّ بسفارات دول، بعضها لا يرى البلد إلا كمنتجع سياحي يوفّر الشمس والرمل والمتعة الجنسية.