منذ يبدأ الطفل الفلسطيني ارتياد المدرسة، يتعلم جغرافيا فلسطين التاريخية، ويعلم أنه من بلد متنوّع التضاريس من البحر والنهر والجبال والأحراج الغابية والصحراء، الصحراء التي قلّما يلتفت إليها في تعليمه، ونادرًا ما تتطرّق لها وسائل الإعلام حينما يكبر، رغم أنها تشكّل ما يقارب نصف مساحة فلسطين، وكانت شاهدة على عدة حضارات، وتحتل حاليًّا أحد أهم نقاط صراع الوجود العربي مع الاحتلال في الداخل المحتل.
صحراء النقب، الممتدة من وسط فلسطين التاريخية حتى جنوبها على البحر الأحمر، لاقت حديثًا ضعيفًا في المناهج التعليمية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، رغم ما تشكّله من هدف استراتيجي هام للاحتلال، وقد بحثت الحكومات المتعاقبة في أروقة مؤسساتها الأمنية والسياسية حول كيفية تهويد الصحراء والاستيلاء على الأرض، وتهجير الفلسطينيين منها.
عبر التاريخ.. نقب فلسطينية
يذكر مصطفى مراد الدباغ، المؤرِّخ الفلسطيني الكبير، أن النقب كانت على مرّ التاريخ مرتعًا لعدد من القبائل العربية المتجولة في أنحائها سعيًا وراء الكلأ والماء لقطعان أغنامها وإبلها، وكانت الطريق الواصل بين مصر وشبه الجزيرة العربية، ومنها تنطلق الوفود العربية القادمة من هاتين المنطقتين خاصة من سيناء المصرية إلى بلاد الشام، وبذلك اكتسبت الموقع المهم تجاريًّا واقتصاديًّا.
وقبل النكبة عام 1948، تمركز بدو فلسطين في 3 مناطق: المنطقة الجنوبية من النقب (قضاء بئر السبع)؛ وفلسطين الوسطى، لا سيما السهل الساحلي؛ ومنطقة الجليل في الشمال، ويمكننا تقدير عدد البدو الفلسطينيين قبل النكبة بنحو 116-141 ألف نسمة، منهم 65-90 ألفًا في قضاء بئر السبع وغزة.
حاولت “إسرائيل” مرارًا وتكرارًا إسناد صفة “الترحال” على بدو النقب لتجريدهم من حقّهم كمواطنين أصليين في الصحراء الفلسطينية، إلا أن الحقيقية التاريخية هي أن بدو فلسطين لم يكونوا بدوًا رحّلًا مثل بدو السعودية أو الأردن، بسبب التمدُّن في فلسطين قبل العام 1948 حيث كانت التجارة مزدهرة في مدن فلسطين ومنها غزة، التي تبعد عن مدينة بئر السبع في النقب مسافة 32 كيلومترًا، كما أن مدينة الخليل تبعد عن بئر السبع ومضارب البدو مسافة 20 كيلومترًا فقط.
يقيم البدو في مدن وقرى قضاء بئر السبع ويبلغ تعدادهم في منطقة النقب نحو 300 ألف نسمة
وعلى عكس بدو إيران والسعودية وسوريا والأردن الذين يرحلون مسافات كبيرة تصل إلى 300 و500 كيلومترًا، لم يكن هذا في تاريخ فلسطين خلال 200 عام مضت، بل كان هناك ما يُسمّى بشبه ترحُّل لدى بدو فلسطين لا يزيد عن 35 كيلومترًا، أي من جنوب بئر السبع إلى شمالها.
وقد عمل قسم كبير من بدو النقب في الزراعة، وكانت زراعة متطورة على عكس ما يدّعيه الاحتلال من أنهم عاشوا على الحليب واللبن فقط، وإبّان النكبة فاقت الأراضي المستصلحة للزراعة الـ 4 ملايين دونم.
أما بئر السبع، المدينة التي أعلنتها اليونسكو عام 2005 إحدى المدن التاريخية، فيشهد الماضي على أصالتها وجذورها الممتدة بعيدًا إلى الوراء، حيث عُثر على أحافير بها ولُقى تاريخية وآثار تدلّ على وجود حضارات قديمة، يونانية وبيزنطية ورومانية وإسلامية.
ولعلّ من أبرز مظاهر التمدُّن التي عاشتها مدينة بئر السبع، ما يدحض ادّعاءات الاحتلال الحالية بأن بدوها كانوا عابري سبيل، وجود سوق قديم يُسمّى “سوق البدو”، يعود إلى عصر الدولة العثمانية، ومحطة قطارات أسّسها السلطان عبد الحميد الثاني لربط أجزاء الإمبراطورية ببعضها، ومسجد عثماني بُنيَ في فترة 1900-1905 حوّلته “إسرائيل” إلى متحف.
أقرَّ العثمانيون بوجودهم قانونيًّا
ويمكننا بشكل لا ريب فيه الاستدلال على الوجود التاريخي للبدو في النقب، من خلال قراءتنا لكتاب “أراضٍ فارغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب” (Emptied Lands: A Legal Geography of Bedouin Rights in the Negev)، الذي يتحدث مؤلِّفوه، ألكسندر كدار وأحمد عمارة وأورين يفتاشل، عن أراضي النقب قبل الاحتلال الإسرائيلي، إبّان الحكم العثماني والانتداب البريطاني، وبعده، وعن صراع أهلها القانوني في الحفاظ على أرضهم.
يشير الكتاب بوضوح إلى “أن العثمانيين قدّروا أعداد البدو في الاتحادات القَبَلية الخمسة الرئيسية آنذاك في النقب: الطايع، والعزازمة، وطرابين، وجبارات، والحناجرة، بنحو 70-80 ألف شخص، وفي اعترافها بحقوق البدو على أراضيهم، اشترت الحكومة العثمانية 2000 دونم عثماني (تبلغ مساحة كل دونم عثماني حوالي 919 مترًا مربعًا) من اتحاد العزازمة وشرعت في بناء المباني الحكومية والعامة”.
ومع إنشاء العثمانيين سجلّ للأراضي، تطورت ميزات نظام الأراضي البدوية مع استقرار اتحاد المناطق البدوية، حيث يمكن تشبيه هذا الاتحاد البدوي بـ”القبائل العليا التي تستند بشكل فضفاض إلى الأصول والأراضي والمصالح المشتركة، قدّم الاتحاد القبائلي شكلًا من أشكال الحكم الإقليمي والقانوني وكان أيضًا مصدرًا للهوية، ووقّعت القبائل الكبرى عام 1891 اتفاقية حدودية أقرّها العثمانيون، ما أدى إلى ترسيم حدود دائمة”، بحسب ما يذكر الكتاب.
حاليًّا، يقيم البدو في مدن وقرى قضاء بئر السبع، ومن بين هذه المدن والقرى تأتي رهط وتل السبع وشكيب واللقية وكسيفة وعرعرة وتل عراد وحورة وأم بطين وشقيب السلام وأم حيران وأم متان والقصر وأخشم والأعسم وبير هداج ووادي النعم وترابين الصانع، ومدن وقرى أخرى عددها أكثر من 10 مدن و160 قرية، ويبلغ تعداد البدو في منطقة النقب نحو 300 ألف نسمة.
الانتداب البريطاني.. حين بدأ التمهيد للاحتلال الصهيوني
رغم ما أورده تقرير أبرامسون (1921) على أنه كان هناك 2 مليون و845 ألفًا و389 دونمًا يزرعها البدو في ناحية بئر السبع، أصدر هربرت صمويل، أول مندوب سامٍ بريطاني، أكثر من 100 قانون معظمها موجّهة لتسهيل انتقال الأراضي إلى اليهود، ولعلّ من أخطرها نقض المادة 103 من قانون الأراضي العثماني، فبينما كان هذا القانون يشجِّع إحياء الأرض ويقدّم الحوافز لذلك، أصدر صمويل قانونًا يجرّم كل من يحيي أرضًا مواتًا.
يقضي قانون الأراضي الموات لعام 1921 بأن كل من يحيي أرضًا مواتًا لن تسجَّل له ملكيتها، ويعاقب على هذا العمل كمعتدٍ على الأرض، أما من أحيا الأرض وفلحها منذ القديم فعليه أن يسجِّل هذه الأرض خلال شهرَين من إصدار القانون في دائرة الأراضي، مع طلب الحصول على الطابو لإثبات الملكية.
لكن الذي أفشلَ مخططات صمويل وسكرتيره القانوني الصهيونى نورمان بنتوتش، أن ونستون تشرتشل، وزير المستعمرات البريطاني حينها، زار فلسطين، وقابل شيوخ بئر السبع، وأخبرهم أن بريطانيا تعترف بحقوقهم وعاداتهم، وشجّعهم على تسجيلها دون رسوم.
ازداد الوجود العربي في النقب شيئًا فشيئًا، حتى أسدلَت النكبة بظلامها على فلسطين، وبدأت محاولات تهجير السكان من النقب وإحلال المستوطنين مكانهم، وفي خضمّ المجازر وقوة الرصاص التي نفّذتها العصابات الصهيونية خلال النكبة، أجبرَ الاحتلال قرابة الـ 100 ألف بدوي على الرحيل من منطقة النقب، وتحوّل أغلبهم إلى لاجئين في الأردن وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة المحاصر ومناطق الضفة الغربية المحتلة، خصوصًا مناطق الخليل والأغوار والقدس.
بانتهاء القرن العشرين، كانت معالم التجمُّعات البدوية الكبيرة في النقب قد بدأت بالبروز، قابلها وضوح في رسم الاحتلال سياسات تهجير لسكانها، واستكمال سيطرته وتنفيذ مشاريعه عليها.
وقد سخّر لذلك القضاء في استصدار قوانين خاصة لتسهيل الاستيلاء على أراضي الصحراء الفلسطينية، وسلّح مستوطنيه ليضيّقوا على الفلسطينيين، ودفع بجرّافاته إليها لهدم البيوت وتجريف الأراضي، ومع ذلك واصلت النقب وأهلها المقاومة والصمود رغم النكبة المستمرة حتى يومنا هذا.