يناضل نحو 300 ألف عربي على 3% من مساحة النقب المحتلة في معركة الصمود وإثبات أحقيتهم بالأرض التي يحاول الاحتلال الاستيلاء عليها وتهجير أهلها وتهويد معالمها ورملها الفلسطيني الأصيل، بعدما صادر منذ عام 1948 ما يقارب 97% من أراضيها.
هذه الديموغرافية العربية طالما شكلت خوفًا لحكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة، ورأت فيها بذور ثورة على الاحتلال والاستعمار، فجهزت لذلك مؤسساتها الرسمية الحكومية ومستوطنيها المدعومين بالكامل لتفتيت تماسك المجتمع العربي في النقب، الذي يمكن – بطبيعة الحال – بمعزلٍ عن محاولات تذويب الوجود العربي في الداخل المحتل عام 1948، ودمجه في المجتمع الإسرائيلي فيما بات يعرف لاحقًا باسم “الأسرلة”، ومن جهة أخرى دفعه إلى الرحيل.
ظروف معيشية صعبة
بعد احتلال “إسرائيل” لفلسطين وتهجير أهلها، وكحال معظم المناطق المحتلة، استوطن اليهود بين بدو النقب وسكانها، وحاول المستوطنون بسط نفوذهم على الأرض الفلسطينية مدعومين بشرطة الاحتلال وحكومته وقضائه الذي أخذ يعلن يهودية الصحراء شيئًا فشيئًا، وعملوا على التضييق على فلسطينيي الأرض المحتلة.
وصلنا عام 2022، وما زالت تجمعات بدوية ومدن فلسطينية في النقب المحتل تفتقر إلى البنية التحتية من صحة وطرق وتعليم وكهرباء وماء، بشكلٍ متعمدٍ من حكومة الاحتلال، في حين توفر لمستوطني النقب كل سبل العيش المريح، بل تقدم لهم على طبقٍ من ذهبٍ مغموس بدمٍ فلسطيني عروض وإغراءات ودونمات مجانية سرقها الاحتلال من سكانها الأصليين، حين أجزلت حكومة الاحتلال 80 دونمًا مجانيًا لكل عائلة يهودية تريد الاستيطان في النقب.
بحسب دائرة إحصاء حكومة الاحتلال، فإن 6 بلدات عربية في النقب، تعتبر الأكثر فقرًا في الداخل المحتل، وفي مقدمتها قرى الغرينات وبير هداج والسر وشقيب السلام وتل السبع وعرعرة النقب وحورة وكسيفة واللقية ومدينة رهط التي تعد أكبر تجمع للفلسطينيين البدو في النقب.
وبينما تقدم السلطات المحلية البدوية خدمات متنوعة لسكان البلدات غير المعترف بها وخاصة للقبائل، أحيانًا دون أي تعويض وأحيانًا بتعويض جزئي من حكومة الاحتلال، فإنه لا يتم تسجيل قسم كبير من متلقي الخدمة في السلطات المحلية ضمن إحصاء السكان في السجل، وتطور التضييق إلى 2018-2019 حين قامت وزارة داخلية الاحتلال بمحاولة قصيرة الأمد لتعويض المجالس بمنحة مخصصة، لكن تم إيقاف التعويض في نهاية عام 2019 دون سابق إنذار ودون تفسير!
فضلًا عن ذلك، بينما تعاني الصحراء الفلسطينية من شح المياه وغلاء ثمنها بطبيعة الحال، تطالب شركة مياه الاحتلال أهالي بدو النقب بدفع ثلاثة أضعاف ثمن المياه الطبيعي الذي يدفعه المستوطنون، وعلى عكس الضرورة الطبية بوجود مستوصف طبي في كل تجمع، يضطر بعض الأهالي كما في قرية خشم الزنة للسفر نصف ساعة إلى مدينة بئر السبع لتلقي أي خدمة طبية.
وتتعمد حكومة الاحتلال عدم توفير مواصلات عامة بين البلدات، في ظل طرقٍ وعرة تعيق اقتناء الفلسطيني لأي مركبة خاصة، مع عدم توفير أماكن صناعية في البلدات العربية، وفرض شروط عمل في الزراعة بمنطقة الحدود مع رفح صعبة جدًا مما يؤدي إلى ترك العمل في النهاية، ولا توجد أطر رعاية وحضانات للأطفال، وتفرض ضرائب باهظة على تربية المواشي، المهنة الأساسية لبدو النقب.
في مواجهة الاحتلال.. مستوطنين وحكومة
تناغم عمل المستوطنين وحكومة الاحتلال في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، يبدو – وفق مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بتسيلم -، كأنه مساران منفصلان لا علاقة بينهما: الدولة تستولي على أراضي الفلسطينيين بطرق علنية ورسمية حازت تصديق المستشارين القضائيين والقضاة، بينما المستوطنون الراغبون هم أيضًا في الاستيلاء على أراضٍ لأجل تحقيق أهدافهم يستخدمون بمبادرة منهم ولأسباب تخصهم العنف ضد الفلسطينيين، إلا أن الواقع مسار واحد: مستوطنون يمارسون عنفهم بدعم تام من الدولة.
لم يكتف الاحتلال بالتضييق من خلال سلطته ومستوطنيه بشكل مباشر على الأرض، بل عمل بشكلٍ موازٍ على محاولة سلخ بدو النقب وسكانها من عروبتهم وهويتهم الفلسطينية الأصيلة، وذلك من خلال محاولات “أسرلتهم”
ومن خلال مؤسسات الاستعمار الصهيوني التنفيذية، الحكومة والجيش والإدارة المدنية والمحكمة العليا والشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك) ومصلحة السجون وسلطة الطبيعة والحدائق وغيرها، يؤجج عنف المستوطنين لتحقيق أهداف الدولة، بل أحيانًا، وبحسب بتسيلم، يكون عنف المستوطنين مثله كمثل عنف الدولة العسكري، عنف منظم ومدجج بالوسائل ويطبق وفقًا لإستراتيجية محددة معينة الهدف.
في النقب، تتأكد هذه المعادلة الاستعمارية مرة أخرى، من خلال مجموعات المستوطنين المسلحة وشبه المسلحة التي بدأت تتنظم تحت دعاوى الدفاع عن النفس والممتلكات في وجه “الإرهاب البدوي”، في سبيل تطويع قضية “جرائم الداخل المحتل” المتواطئ فيها شرطة الاحتلال، التي يعاني منها المجتمع العربي، إلى قضية “إجرام عربي” أو “إرهاب بدوي” يستهدف اليهود، وذلك لتبرير شن حرب شاملة على المجتمع العربي في الجنوب، بشكل خاص، يجري تحت دخانها تصفية قضية الاستيلاء على الأراضي.
تجنيد البدو.. محاولة تذويب العروبة مرة أخرى
لم يكتفِ الاحتلال بالتضييق من خلال سلطته ومستوطنيه بشكل مباشر على الأرض، بل عمل وبشكلٍ موازٍ على محاولة سلخ بدو النقب وسكانها من عروبتهم وهويتهم الفلسطينية، من خلال محاولات “أسرلتهم” وتجنيدهم في جيش الاحتلال وشرطته، رأس الحربة في ارتكاب المجازر بحق أبناء الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه.
وعليه، وضع الاحتلال خططًا وبرامج حكومية عام 2017، تهدف إلى تجنيد ما يقارب 4500 عربي في النقب ودمجهم في جيش الاحتلال، خاصة بعد تخوف وقلق وزير حرب الاحتلال السابق أفيغدور ليبرمان من عزوفٍ كبير لعرب النقب عن التجنيد ومقاطعتهم لجيش الاحتلال، وهو ما يستلزم، وفق ليبرمان، ضرورة زيادة عدد المتطوعين في الجيش من الأقليات أي غير المستوطنين، لا سيما في النقب.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، بدأت سلسلة مشاريع تجنيد في النقب تحت غطاء “تطوير الشخصية وإعداد القيادات الشابة”، ومنها مشروع “أحراي” الممول حكوميًا بميزانيات ضخمة، الذي عمل على تنظيم مسارات ورحلات ونشاطات مختلفة على الطريقة العسكرية للاحتلال، وبمرافقة مرشدين ومجندين وخريجين من جيشه، في محاولة واضحة لتقليص الفجوة بين المجتمع العربي والمؤسسة العسكرية.
يشكل الوجود العربي في النقب خوفًا إسرائيليًا كبيرًا
وتحت شعار “التعايش المشترك، وتقريب الثقافات بين البلدات العربية واليهودية”، انطلق المشروع الحكومي “الشبيبة العاملة والمتعلمة” في معظم البلدات العربية داخل النقب، مستهدفًا الشباب من أعمار 16- 20 عامًا، ضمن مساعي حكومة الاحتلال في تشويه الرواية التاريخية وحرف الحقائق عن أحقية الأرض وأصحابها، وعزل صفة الاحتلال عن “إسرائيل”، في سعي لتوجيه الشباب العربي للخدمة المدنية بشكل مباشر والانخراط في مؤسسات الدولة.
ومما اكتسبه الاحتلال من المشروعين السابقين، أطلق مشروع “نجوم الصحراء”، الذي نظم فيه مسارات كان مرشدوها من جيش الاحتلال وبلباسهم العسكري بكل صراحة، إلا أن هذا المشروع كان من تمويل “الصندوق القومي اليهودي (ككال)”، وهو الصندوق المسؤول عن معظم مشاريع تجريف النقب وتهجير سكانه وتمويل إقامة المستوطنات فيه.
ووفق تقرير عبري، فإن 1514 شابًا عربيًا بدويًا يخدمون حاليًّا في جيش الاحتلال، بما في ذلك 84 ضابطًا: ضابط برتبة عقيد وعشرة برتبة مقدم، بالإضافة إلى ذلك يخدم بشكل دائم 287 مقاتلًا بدويًا في جيش الاحتلال، ومع ذلك، يشدد التقرير على أن عام 2021 شهد انخفاضًا في أعداد الشبان البدو الذين يقبلون على الخدمة في صفوف جيش الاحتلال، وذكر أنه لا يمكن التعرف على حجم هذا التراجع في هذه المرحلة، فالجيش لا يكشف عن البيانات الدقيقة.
مع ذلك، يؤكد الفلسطينيون في النقب، أن جميع مشاريع التجنيد تقدم أوهامًا تحاول مؤسسة الاحتلال بيعها لشباب النقب من أجل الانضمام للجيش، وتستهدف من تعتقد أن لديهم القابلية للانضمام للجيش بسبب انعدام وجود مستقبل آخر أمامهم وخلفيتهم الاجتماعية صعبة ومن واقع فقير، وترى أنهم قد يقعون في فخ التجنيد سعيًا لمستقبل أفضل يعدهم به متعاقدو التجنيد، وأن التجنيد أصبح مشكلة فردية لا جماعية، أي لا توجه جماعي نحوه في النقب، وذلك بعد زيادة الوعي وترسيخ الثقافة الفلسطينية.
بشكل عامٍ، يحاول الاحتلال جاهدًا أن يمزق الوجود العربي في النقب وأن يمحو ما صقلته الصحراء في قلب البدوي وتحويله من شخصٍ يعتز بأرضه وينتمي إليها إلى مواطنٍ يقبل أن يكون “إسرائيليًا” أو لا يمانع في وجود “إسرائيل” بالحد الأدنى، وكان لا بد للاحتلال أن يستهدف العشيرة، بمفهومها البدوي الأصيل، لما تشكله من ترجمان لشكل المجتمع البدوي، وأن يختزل الصحراء في حيزٍ صغير يتحكم به كيفما يشاء.
يشكل الوجود العربي في النقب خوفًا إسرائيليًا كبيرًا، من جهة الخوف من تفوق الحضور العربي على حضور المستوطنين، ما يهدد وجودهم في المنطقة ويفقدهم الأمان، ومن جهة أخرى الخوف من أن تخسر “إسرائيل” السيطرة على أرضٍ يسكنها مواطنوها الأصليون ويتشبثون بها بدمائهم، ويهتفون في هبتهم المستمرة: لن تستطيعوا تهودينا، نحن فلسطينيون!