“على وجبة واحدة مسلوقة في اليوم” بهذه العبارة وصف وائل أبو ربيع، مهجر يعيش في مخيم الركبان، حال أسرته التي تعاني مع آلاف الأسر هناك من أوضاع مأساوية وحصار خانق تفرضه قوات النظام والميليشيات الإيرانية حول المخيم، إذ تمنع عنهم المواد الأساسية للبقاء على قيد الحياة من أغذية وطحين ووقود وخضراوات وأدوية ومواد تدفئة في المخيم الواقع بالجنوب السوري على الحدود السورية الأردنية العراقية بطول 18 كيلومترًا، على الشريط الحدودي ضمن منطقة (55 كيلومترًا) التابعة للتحالف الدولي في قاعدة التنف العسكرية التي تهيمن عليها القوات الأمريكية.
يتابع وائل حديثه عن معاناة أسرته التي تشكّل صورةً مشابهةً لآلاف الأسر المعدمة التي تعيش نفس المأساة في المخيم، حسب وصفه، إذ يقول لـ”نون بوست”: “أقل احتياجات الأسرة غير متوافرة، حتى رغيف الخبز صار حلمًا لأطفالي الثلاث بعد توقف فرن الخبز الوحيد في المخيم عن العمل، ونفاد مادة الطحين، حتى الأرض بخلت علينا بأعشابها التي كنا نلتقطها في الربيع، بسبب القحط الذي أصاب المنطقة هذه السنة وشحّ الأمطار”.
وعند سؤالنا عن طبيعة الإفطار الذي يعمل على تأمينه في شهر رمضان، أجاب وائل: “نلجأ الى أطعمة مسلوقة بسبب فقدان مادة الزيت، فمثلًا نسلق المعكرونة – إن وجدت – ونتناولها بجانب بعض حشائش الأرض كالنعناع الذي ينمو بالقرب من الخيام، وذلك بسبب ارتفاع الخضراوات المستخدمة في طبق السَّلَطة، فقد بلغ سعر كيلو البندورة خمسة آلاف ليرة سورية، في مخيم 90% من قاطنيه عاطلين عن العمل”، مضيفًا “لم يعد الأمر غريبًا بالنسبة لنا.. نريد البقاء على قيد الحياة أطول وقت ممكن”.
المجلس المحلي في مخيم الركبان كان قد أصدر بيانًا في العاشر من الشهر الحاليّ، أشار فيه إلى أن قاطني المخيم في ظل هذه الظروف المأساوية باتوا أمام خيارين: أحدهما البقاء في المخيم وتحمّل ظروف الحياة، وهذا موت بطيء، والآخر مغادرة المخيم نحو مناطق سيطرة النظام، وهذا يعني التهديد بالاعتقال التعسفي من أجهزة المخابرات السورية، لافتًا إلى أن عشرات العائلات عازمة على مغادرة مخيم الركبان نحو مناطق سيطرة النظام بعد انقضاء أيام عيد الفطر.
تواصل موقع “نون بوست” مع رئيس المجلس المحلي لمخيم الركبان محمد درباس الخالدي الذي أكد أن “المخيم يشهد أوضاعًا متأزمةً تعيد إلى الذاكرة ما عانته الغوطة الشرقية خلال فترة حصارها الطويلة”، مضيفًا “النظام يعمد إلى التضييق على المخيم خاصة خلال شهر رمضان بهدف إجبار قاطنيه على الهجرة والتوجه نحو مناطق سيطرته، ما أدى لنقص المواد الغذائية والاقتصار فقط على المواد المتوافرة عبر طرق التهريب التي ترهق قاطني المخيم بأسعارها الخيالية”.
لافتًا إلى أن “قاطني المخيم يلجأون إلى سلق طعامهم والاعتماد في وجبات إفطارهم على صنف واحد من الطعام الذي يصنع بطريقة السلق بسبب عدم وجود مادتي السمن والزيت، إضافة إلى فقدان مادة الطحين أهم مادة في المخيم، وإن وجدت فسعرها باهظ جدًا بالنسبة لسكان لا يعملون شيئًا، حيث وصل سعر كيس الطحين 50 كيلوغرامًا 130 ألف ليرة سورية، أي: ما يقارب 33 دولارًا.
تضييق دولي ومطالب بإنهاء المعاناة
تتميز منطقة (55) أقصى الجنوب السوري بأنها امتداد الحماد السوري (قسم من البادية)، وهي منطقة صحراوية خالية من المدن والقرى، وتعتبر منطقة حماية قاعدة التنف العسكرية التي تسيطر عليها قوات أمريكية بخمسة وخمسين كيلومترًا، حتى منطقة العيانية ومقهى الشحيمي ومنطقة السبع بيار، تحوي أراضي قاحلة غير صالحة للزراعة وما صَلُح منها فهو بحاجة لاستخراج المياه من الآبار وهذا مكلف جدًا.
يذكر الخالدي أن “السنة مرت قاحلة وماحلة دون أمطار، ما قلّل نمو أنواع عديدة من الحشائش، كانت تُستخدم للاستهلاك البشري، إضافة الى أن الثروة الحيوانية في المنطقة باتت مهددة بالانقراض بسبب القحط وانتشار الأمراض بين القطيع، ما أدى لنفوق عددٍ كبيرٍ منها”.
وتتواصل مطالب القاطنين في المخيم بفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية التي من شأنها إيقاف شبح الجوع والأمراض، إلا أن تلك المطالب لم تلق تجاوبًا من الحكومة الأردنية والأمم المتحدة، إذ لفت الخالدي “أنهم وجّهوا نداءات كثيرةً للحكومة الأردنية والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والحقوقية لانتشال سكان المخيم من على شفا موتٍ محقق، لكن دون مجيب، فالأردن يتابع حصاره للمخيم جنوبًا والعراق شرقًا، والنظام والميليشيات الإيرانية والاحتلال الروسي شمالًا وغربًا”، حسب وصفه.
لافتًا إلى أنهم “عرضوا على الأمم المتحدة رعاية خروجهم عبر ممرات صحراوية آمنة نحو الشمال السوري من خلال شرق تدمر المحطة الثالثة أو من شرق تدمر نحو المنصورة، لكن الأمم المتحدة صمّت أذنيها، بينما النظام يصر أن يكون التهجير نحو مناطق سيطرته تجاه مدارس الإيواء بحمص”.
أزمة إنسانية على مرأى التحالف الدولي
رغم وجود قوات التحالف الدولي على مقربة من مخيم الركبان في قاعدة التنف، فإنها لا تتدخل أبدًا في قضية حصاره، رغم مطالبات القاطنين للتحالف بدعمهم وإدخال المواد الأساسية والأدوية وتأمين قوت يومهم على الأقل، بل يتعامى عن حصار المخيم والارتفاع الهستيري لأسعار المواد، فوفق عماد غالي، صحفي في شبكة الركبان نت وورك، ومقيم في المخيم، فإن “غياب الوارد المالي مع استحالة تأمين المواد الأولية الضرورية للاستمرار على قيد الحياة بسبب ارتفاع أسعارها أو فقدانها هو ما يتحكم بحياتهم، فكيلو الطحين بلغ 3000 ليرة سورية، واللحم 27 ألف ليرة سورية، واللبن 8 آلاف ليرة سورية والأرز 5 آلاف ليرة سورية ولتر المازوت 6 آلاف ليرة سورية والبنزين 7 آلاف ليرة سورية وجرة الغاز 200 ألف ليرة سورية، وربطة الخبز بوزن 700 غرام 2000 ليرة سورية.
وتابع غالي “هناك مهربون يُدخلون موادًا غذائيةً بأسعار مرتفعة جدًا إلى المخيم عبر طُرق تهريب في البادية السورية، إلا أن نظام الأسد عندما يكتشف تلك الطرقات يبقى المخيم شهرًا أو أكثر دون أي مواد ريثما يتم العثور على طرق تهريب بديلة”.
انهيار قطاع الصحة
منذ سبتمبر/أيلول 2019 لم تدخل قوافل المساعدات الإنسانية الأممية إلى المخيم، ما فاقم انهيار الوضع الغذائي والصحي، ومع شهر رمضان تزداد الحالات المَرضية خاصة الأطفال والمواليد الجدد الذين يعانون سوء التغذية بسبب نقص الغذاء المتكامل وحليب الأطفال والفيتامينات اللازمة لهم وللحوامل والمرضعات، فقد عجّت نقطة شام الطبية التابعة لجيش مغاوير الثورة بحالات إسهال شديدة والتهاب المسالك البولية ومشاكل هضمية.
يؤكد أسامة محمود، ممرض في نقطة شام الطبية التابعة لجيش مغاوير الثورة، أنهم استقبلوا خلال الفترة الماضية 40 حالة مرضية بشكل يومي تعاني من إسهال شديد ومشاكل هضمية نتيجة سوء التغذية وصيام يوم طويل وإرهاقٍ جسدي، فضلًا عن إصابات الأطفال التنفسية نتيجة الغبار، إضافة لآلام البطن ومشاكل الجهاز الهضمي التي لم يعرفها الأطفال إلى حين إغلاق نقطة اليونيسيف على الحدود الأردنية منذ سنتين.
ونوّه محمود إلى أن “القطاع الطبي منهارٌ وفي تراجع مستمر، إذ لا يوجد أطباء مختصون في النقطة الطبية شام، ويقتصر الاعتماد على الممرضين فقط وقابلة واحدة لاستقبال حالات الولادة، إضافة إلى توقف النقطة عن استقبال الحالات الباردة والاقتصار فقط على الإسعافات الأولية، ما يجبر العديد من المرضى على التوجه نحو مناطق سيطرة النظام وهذا يعرضهم للاعتقال أو انتظار حتفهم بصحبة مرضهم، فضلًا عن وجود جهاز رذاذ واحد، وجهازين أكسجين فقط يخدم آلاف المحاصرين، وعجز فعلي عن تأمين الأدوية اللازمة، أقلها حبوب السيتامول”.
يتبع مخيم الركبان إداريًا لريفي دمشق وحمص حيث أنشئ عام 2014، ويضم قرابة 8 آلاف نازح معظمهم من مناطق حمص وريف دمشق وتدمر ودير الزور، فروا من نظام الأسد والميليشيات الموالية خلال العمليات العسكرية في اقتحام مدنهم وأحيائهم المأهولة وارتكاب مجازر ضدهم، في حين يعمل نظام الأسد من جهة على الضغط السياسي والعسكري لإفراغ المخيم وإجبار قاطنيه على العودة لحضن الوطن وإجراء تسويات ومصالحات، فيما تمنع السلطات الأردنية من جهة أخرى اقتراب قاطني المخيم من حدودها وتقديم أي نوع من أنواع الدعم الإنساني لهم، ما يفاقم أزمتهم الإنسانية التي تنذر بمجاعة قريبة.