لم يشهد شعب هرولة نحو الفقر بسرعات جنونية كما يشهد اليمنيون، يومًا تلو الآخر يُزجّ بمئات من أبناء الوطن الذي كان بالأمس سعيدًا إلى أتون العوز والاحتياج، لتواصل البلاد نزيفها البشري والاقتصادي والاجتماعي.
التقارير الأممية تقول إن اليمن يعاني أسوأ أزمة إنسانية في العالم، إذ إن أكثر من 80% من السكان البالغ إجمالي عددهم 30 مليونًا بحاجة ماسّة إلى مساعدات، حيث المأساة تتفاقم بالإشارة إلى أن من بين تلك النسبة هناك 12 مليون طفل على مشارف الموت البطيء جرّاء سوء التغذية التي وصلت إلى مستويات قياسية.
جهود دولية لاحتواء الموقف، مساعدات بين الحين والآخر، تحركات دبلوماسية، ضغوط إنسانية، لكن الوضع كما هو دون تغيير، إن لم يزدد سوءًا، وسط تحذيرات من أن استمرار الحرب الدائرة هناك منذ عام 2015 لعامَين قادمَين ربما يقود الشعب اليمني بأكمله إلى كارثة محققة، ستكون وصمة عار على الجميع، على المشاركين في الحرب والقوى الداعمة لهم من الخارج، والمتابعين لها إقليميًّا ودوليًّا من داخل الغرف المكيّفة.
لا صوت يعلو فوق صوت البارود والنار، ولا حديث يدور غير همهمات القتال بحثًا عن المكاسب، مئات المليارات تُنفق شهريًّا لتغذية المعارك، فيما يبقى اليمنيون وقودها المشتعل، هذا الوقود الصامت الذي أخرسه الجوع وأعماه العطش وأدماه غياب الخدمات الصحية، ليدفع الشعب الضحية ثمن تجاذبات إقليمية تتعامل معه كقطعة شطرنج يُضحّى بها في أي وقت، وبلا ثمن، حفاظًا على حياة الملك والوزير… أو حتى الطابية.
إحصاءات صادمة
في 6 مايو/ أيار 2021، خرج المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، بتصريح صادم عن المشهد المأساوي اليمني، حين قال إن الوضع الإنساني في هذا البلد “يسقط من حافة هاوية” مع أكثر من 20 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدة إنسانية.
أضاف المسؤول الأممي أن هناك 16 مليونًا من الرجال والنساء والأطفال يعانون من جوع شبه كامل، وأن عشرات الآلاف من الأشخاص يعيشون في ظروف شبيهة بالمجاعة، فيما يقبع 5 ملايين آخرين على بُعد خطوة واحدة من المجاعة.
قبل هذا التصريح بعدة سنوات، أشار تقرير مؤشرات الاقتصاد اليمني الصادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي إلى ارتفاع نسبة الفقر في اليمن إلى 85%، وأن هناك 17 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من 20 مليون بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بينهم أكثر من 9 ملايين نسمة مهدّدون بخطر المجاعة، فيما يفتقر نحو 16 مليون نسمة إلى المياه الصالحة للشرب ومرافق الصرف الصحي.
وحذّر البنك الدولي في دراسة له من ظهور بؤر تشبه المجاعة في عدد من المحافظات شمالي اليمن وفق عدد من المؤشرات، فيما أكّد منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، ديفيد غريسلي، أن 20 مليون شخص (ثلثي سكان البلاد) يحتاجون إلى المساعدة عقب 7 سنوات من الحرب، مضيفًا أن البلاد تشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وأن الأوضاع قد تتأجّج إن لم يكن هناك تحرك فوري وحلول عاجلة.
أوضاع مؤلمة
“أتيت إلى مصر لأكمل رحلة علاج قدمي المبتورة نتيجة قصف للحوثيين بعدما بات العلاج في اليمن مستحيلًا.. إذ لا أملك ما يكفيني يومًا واحدًا”، بصوت تعلوه نبرة انكسار وحزن، استهلَّ صهيب (41 عامًا) حديثه عن الوضع الصعب الذي تحياه أسرته في الداخل اليمني.
ويستعيد الرجل اليمني في حديثه مع “نون بوست” أوضاع عائلته المأساوية، لافتًا إلى أنهم قد يقضون أيامًا بأكملها لا يتناولون سوى وجبة واحدة فقط في اليوم، خاصة خلال الأعوام الأخيرة، فمنذ عام 2017 وحتى اليوم تفاقمت الأوضاع سوءًا مع تأخُّر الرواتب وانقطاعها في كثير من الأحيان، مضيفًا “قبل أن آتي إلى القاهرة لم أتقاضَ راتبي طيلة 10 أشهر تقريبًا”.
ويوضّح صهيب أنه بجانب علاجه في مصر يقوم ببعض الأعمال اليدوية ومساعدة أقارب له يعملون في صالونات حلاقة وتجارة في منطقة الأزهر والحسين بوسط القاهرة، لأجل تحويل أي مبلغ لعائلته في اليمن، قائلًا: “أحوّل شهريًّا لهم قرابة 100 دولار يقتاتون بها، بعدما بات الحصول على السلع الغذائية هناك مغامرة غير محسوبة”، وتابع: “حاولت كثيرًا إحضارهم إلى مصر أو أي بلد آخر لكن للأسف لم تتمّ الموافقة حتى اليوم”.
واختتمَ الرجل اليمني حديثه بجملة عابرة، قال فيها: “كثير من اليمنيين يتمنون الموت كل يوم”، وبالاستفسار عن مقصده من تلك العبارة قال: “هل تعلم أن هناك عائلات بأكملها تحيا على فضلات الطعام في الشوارع ومن صناديق القمامة؟ هل تتخيل أن بعض الأسر قد تلجأ إلى أكل لحوم الحيوانات الميتة وإلا فلا مصير أمامها سوى الموت؟”، وقبل أن يرحل أومأ برأسه قائلًا: “لعن الله الحرب ومن أوقدها وشارك فيها وشرّدنا هكذا”.
تنطبق حالة صهيب على أكثر من 3 ملايين يمني نازح، سواء كان نزوحًا داخليًّا أو خارجيًّا، حيث معركة اليوم الواحد في توفير لقمة العيش أو شربة ماء، وسط الاضطرابات التي تشهدها موجات المساعدات الدولية التي تتعرض بين الحين والآخر لهزّات عنيفة إما بسبب الوضع الأمني وإما قلة التمويل، وهو ما يعني تعريض حياة الملايين للموت.
وكانت دراسات حديثة قد كشفت عن لجوء العديد من الأسر اليمنية إلى الاعتماد على ما سمّته “الاستراتيجيات السلبية” للتأقلم مع الوضع الاقتصادي المتدهور، كأن يتمَّ استهلاك الأغذية غير المفضّلة أو التي تفتقد للعناصر الغذائية اللازمة، أو ربما تلك التي تكون مدة صلاحياتها محل شكّ، هذا بخلاف اتّباع سياسة تقليص الوجبات، فبعض الأسر تتناول وجبتَين وأخرى وجبة واحدة يوميًّا.
المحطة الفاصلة
تُعتبر الحرب التي شهدها اليمن منذ عام 2015 وحتى اليوم، والتي خلفت وراءها أكثر من 377 ألف قتيل بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فضلًا عن نزوح 16% من أبناء الوطن، محطةً فاصلة في مسيرة توغُّل الفقر داخل المجتمع اليمني، حيث قفزت المعدلات بعد السنوات الأولى للحرب بصورة لم تشهدها البلاد طيلة تاريخها.
كانت نسبة الفقر عام 2014، أي قبل الحرب بعام واحد فقط، لا تتجاوز 47%، لتقفز بحلول العام الجاري إلى أكثر من 80% وسط توقعات بزيادة تلك النسبة إذا ما استمرَّ الوضع على ما هو عليه، بحسب بيان الأمم المتحدة الذي قال إنه “إذا استمرَّ القتال حتى نهاية عام 2022، فستُصنّف اليمن كأفقر بلد في العالم”.
كشف البيان أن تلك الحرب جعلت اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم وأغرقته في أزمة تنموية مروعة، مشددًا على أنها كانت سببًا في حدوث أكبر انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث لهذا البلد، محذرًا من أن الحرب إذا ما استمرت حتى عام 2030 “سيعيش 78% من اليمنيين في فقر مدقع، وسيعاني 95% من سوء التغذية، و84% من الأطفال سيعانون من التقزُّم”.
يُذكر أن نسبة الفقر في اليمن لم تتجاوز حاجز الـ 40% عام 1998، ثم تراجعت إلى 34.8% في الفترة 2005-2006، وكانت الأمور رغم قسوتها أحيانًا في نطاقها الآمن نسبيًّا، وسط خطط محلية وإقليمية ودولية للنهوض باليمنيين وإنعاشهم اقتصاديًّا، في ظل تهيئة المناخ العام للاستجابة للخطط والبرامج التنموية، قبل أن يصل الوضع إلى ما هو عليه حاليًّا.
المتهم الأول
خلال سنوات الحرب في اليمن، أصبح سكان اليمن البالغ عددهم 30 مليونًا يعيشون مجاعة واحدة، إلا القليل منهم، وهم المستفيدون من الحرب والمتربعون على السلطة، سواء من قبل الحوثيين أو الحكومة الشرعية، هكذا علّق الكاتب اليمني، محمود الطاهر، على خارطة الفقر المنتشرة في بلاده.
وأضاف الطاهر في حديثه لـ”نون بوست” أنه رغم وجود مساعدات أممية فاقت الـ 11 مليار دولار يفترض أن تصل إلى الأسر الأكثر احتياجًا، إلا أن مسؤولين في الحكومة الشرعية والحوثيين ساهموا في عدم إيصالها إلى مستحقيها من الشعب معدومي الدخل بسبب إطالة أمد الحرب، والذين فقدوا مصدر دخلهم سواء من خلال مصادرة الحوثيين لأشغالهم أو توقفها بسبب الحرب.
كما استولى الحوثي على تحويلات المنظمات الإغاثية الدولية، وسط تساهل شخصيات حكومية (مقابل نسبة تصلهم من الحوثيين)، وحوّلوا تلك الأموال لصالح ما يطلق عليه الحوثيون المجهود الحربي، ولذا اجتمع الفساد وسرقة الجوعى ليشكّلا سلاحًا ضد اليمنيين، وهو ما فاقم الحرب.
واتهمَ الحوثيين بأنهم سبب رئيسي في إيصال اليمنيين إلى هذا الحد من الفقر، لعدة أسباب أبرزها مصادرتهم الاحتياطي النقدي في البنك المركزي اليمن، وقطع مرتبات الموظفين، واستغلال موارد الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم في إثراء قياداتهم، وشراء الأسلحة، وهو ما كوّن طبقتَين في اليمن، طبقة ثرية جدًّا وطبقة معدمة، وهو الأسلوب ذاته الذي كان ينفّذه نظام الإمامة في البلاد قبل ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962.
وعلى الجانب الحكومي، فيرى أن الفساد هو السمة الرئيسية التي فاقمت الأوضاع الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية، نتيجة أن عوائد النفط وموارد الدولة في المناطق المحررة تذهب إلى جيوب القيادات العسكرية والسياسية المحسوبة على الشرعية اليمنية، بعض هذه القيادات في الشرعية هرّبت أموالها إلى دولة في المنطقة العربية، واشترت بما يزيد عن 100 مليون دولار فقط والمعروفة عقارات في مصر وقطر وتركيا، وهناك أعمال غير معروفة لا يمكن الحديث عنها إلا في حال وجود دليل ملموس، على حد قوله.
أمل النجاة
رغم التصريحات الوردية الصادرة بين الحين والآخر من قبل شركاء الحرب، بشأن تخفيف التوتر والسماح للشعب بالتنفس قليلًا، إلا أن الأوضاع تسير من سيّئ إلى أسوأ، الأمر تعقد خلال العامَين الأخيرَين تحديدًا، حيث تراجع حجم التمويلات والمساعدات الدولية لإغاثة الشعب اليمني.
أعلنت الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2020 أنّ النقص في التمويل أدى إلى إغلاق 15 برنامجًا إنسانيًّا رئيسيًّا من أصل 45، بما يعادل ثلث البرامج الأساسية، بجانب اضطرار الوكالات الأممية إلى تقليص توزيع المواد الغذائية والمساعدات الصحية في أكثر من 300 مرفق صحّي في البلاد، وفق بيان لها.
الصرخات ذاتها أطلقتها منظمتا “اليونيسف” والأغذية والزراعة “الفاو” وبرنامج الأغذية العالمي في بيان مشترك لهم مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2020، حين أشاروا إلى “أن درء المجاعة عن اليمن يتلاشى مع مرور كل يوم”، محذّرين من أن احتمالية مضاعفة الفقراء والذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي إلى 3 مرات تقريبًا خلال الآونة المقبلة إذا ما استمر الوضع.
فيما توقعت المنظمات الثلاث أن يصل عدد اليمنيين الذين يعانون من سوء التغذية إلى 9.2 ملايين بحلول عام 2030، فيما “سيرتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 22 مليونًا، أي 65% من السكان”.
من لم يمت من الحرب قد يموت من الجوع، ومن لم ينزح باختياره قد يجد نفسه مضطرًا لذلك وإلا كانت حياته هي الثمن، البدائل تتقلص، ورفاهية الاختيار تتآكل، ليجد أبناء اليمن السعيد أنفسهم أتعس شعوب الأرض، إذ قُدِّر لهم أن يقعوا بين كفَّي رحى شركاء حرب لا همّ لهم سوى النفوذ والتوسعات والأجندات، ولو كان ذلك على حساب شعب دولة بأكملها.