في قارة أوروبا المنقسمة على نفسها منذ عقود، لا شيء مثل عدو مشترك لإحياء منظمة مفككة، لهذا ساد مؤخرًا اعتقاد بشيء من التفاؤل بإمكانية تحريك المياة الراكدة وإعادة اللحمة بعد التكتل الغربي ـ غير المقصود ـ ضد العدوان الروسي على أوكرانيا، فالحرب بشيء من غريزة العرق الأبيض حركت بلدان الغرب للدفاع عن مكتسباتها التاريخية من الديمقراطية والمجتمع المفتوح والاقتصاد الحر وحرية الضمير والاختيار.
وفوق كل ذلك أصبح يروق لها تصوير الأزمة الأوكرانية كأنها منحة إلهية للتخلص من خصم تاريخي دون الانخراط في مواجهة كارثية معه، وفي الوقت نفسه إلحاق أضرار جسيمة بالشعبويين الذين كانوا قبل الهجوم يدعمون بشكل موحد الرئيس الروسي ويعبرون دون مواربة عن تعاطفهم واحترامهم له.
لكن اليمين الشعبوي الذي فرض نفسه على الساحة السياسية والثقافية والاجتماعية خلال السنوات الماضية في بلدان كبرى على رأسها فرنسا وإيطاليا والمجر لم يتأثر بما يحدث، بل المفاجأة أنه ظهر أكثر قوةً وعداونيةً مع ظهور أعراض التكتل الغربي ضد روسيا، من ملايين المهاجرين والتضخم والارتفاع الجنوني في الأسعار، وأصبح يقف بشراسة ضد دعوات استغلال الأزمة للتوحد والانصهار في المنظومة الغربية التي يعتبرها أسس البلاء ويرغب في تفجيرها بكل الطرق الممكنة.
في فرنسا.. الطوفان قادم
قفزت الأزمة الأوكرانية الروسية وانعكاساتها على الأوضاع في أوروبا إلى صدارة اهتمامات الناخبين في الفعاليات الانتخابية المختلفة التي ستجري خلال الفترة القادمة، وفي دولة مثل فرنسا، ستعتمد الجولة الثانية للإعادة بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان في 24 أبريل/نيسان المقبل على تسويق كل منافس مصلحة بلاده بالطريقة التي يراها للناخبين، من حيث الموقف المبدئي والسياسي الذي سيتخذه من الصراع الروسي الغربي المشتعل على جميع المستويات.
يصارع إيمانويل ماكرون الرئيس الحاليّ الذي تتضارب مؤشرات استطلاعات الرأي عن حظوظه للفوز بفترة انتخابية جديدة، في بلد معروف بالأساس برئاسة المدة الواحدة، ونادرًا ما يمنح الشعب الفرنسي حكامه ولايةً ثانيةً، مارين لوبان، الوجه الأكثر بريقًا لليمين المتطرف الشعبوي، المعادي للأجانب والأقليات الدينية والمؤيد على بياض لموسكو.
يلعب ماكرون على مراكز قوته، فهو يتمتع بكاريزما الزعامة والقدرة على مداعبة الحس القومي والفوقية الفرنسية التي تكمن تحت الجلد لكل فرنسي، بجانب صلابته في الدفاع عن القيم الغربية، وهي ملكات وضعت له القبول في الأوساط الأوروبية، باعتباره سياسيًا وزعيمًا كانت تحتاجه القارة العجوز، إذ يجمع بالنسبة لهم بين قوة وبأس الشباب وحكمة الكبار.
كما أنه السياسي شبه الوحيد الذي ما زال يتمسك بالتواصل الشخصي الودي مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين، في الوقت الذي يشارك أوروبا عقوباتها، بل ويسابق الجميع في ابتكار الضغوط الشرسة على روسيا للتراجع عن مخططاتها تجاه أوكرانيا، ويرسم سيناريوهات قاتمة لمستقبل الصراع مع الروس وينادي بتقليل الاعتماد على ورثة السوفييت في الطاقة والموارد الزراعية، ما يساهم في تقليل قوتهم وإضعاف تأثيرهم لأقل درجة ممكنة.
ومع ذلك لم يكن صعبًا على لوبان إعادة تسويق مشروعها للشارع الفرنسي، فاستغلت غزو أوكرانيا لتدمير سردية الرئيس ماكرون وتفجير الكثير من المخاوف بشأن تكلفة المعيشة، بعد أن تجاوز سعر البنزين 2 يورو للتر، وهي قيمة أعلى بكثير من المستوى الذي أشعل فتيل تمرد السترات الصفراء في فرنسا، كما ارتفعت أسعار الكهرباء والغاز والخبز لأرقام جنونية.
لم تنس المرشحة المتطرفة وهي تركز حملتها على قضايا تكلفة المعيشة، إعادة الروح لرهاب الإسلام والمهاجرين، وتحريض الفرنسيين ضد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بسبب التكلفة التي سيدفعونها من أجل اللاشيء لفرنسا، فالأزمة ليست على أراضيها ولا تخصها، ومثل لوبان لا يعنيها إلا الشيفونية القومية ولا شيء غيرها.
ترفض مارين وأنصارها أن يكون لفرنسا أي دور على المسرح العالمي أبعد من الدفاع عن مصالحها دون غيرها، فالأزمة الأوكرانية وحدها كلفت فرنسا حتى الآن 30 ألف لاجئ، وتستعد البلاد بحسب وزير الإسكان لاستضافة ما يقرب من 100 ألف آخرين خلال الفترة القادمة، والأفضل لمرشحة اليمين المتطرف طردهم وإعادة إنتاج الثقافة الروسية في التعامل مع قضايا الخارج.
منطق المرشحة الرئاسية يفضل الكثير من البراجماتية والنفعية، والكثير من الابتعاد عن الانخراط في مستنقعات الصراعات التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلا لو كان لهم قدرة على استثمارها لصالحهم، لهذا رفضت في مارس/آذار الماضي الوجود في البرلمان خلال إلقاء فولوديمير زيلينسكي الرئيس الأوكراني كلمة أمام النواب الفرنسيين للحديث عن أزمة بلاده، قبل أن تعود وتتراجع تحت ضغوط شرسة معلنة الحضور، لكن بعد أن تركت رسالة للجميع برأيها الرافض لزيلنيسكي.
تسوق لوبان لما تعتبره ثقافة العالم الجديد التي لا تعرف بلادها حتى الآن كيف تتأهل له، حيث تُعرّفه بالقدرة على استخدام القوة لتغيير النظام الدولي وارتكاب جميع المحرمات في سبيل ذلك، حتى لو كانت المحرمات العليا ـ الأسلحة النووية ـ.
وربما لهذه القناعات لم تخف يومًا إعجابها ببوتين، ولم تعتذر عن سفرها إلى موسكو بعد الانتخابات الرئاسية عام 2017، التي خسرت فيها أمام ماكرون، ولم تنزعج من ترويج صورها مع الرئيس الروسي في الكرملين، وموقفها المعلن منذ 2014، من حيث الدعم الكامل لضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتمزيق أوكرانيا.
تتفاءل لوبان بفوز أقرانها في المجر وصربيا، إذ حقق اليمين الشعبوي انتصارات سهلة هناك في الانتخابات الأخيرة، رغم اختلاف الظروف والبيئة السياسية بين المجر وفرنسا، فرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي فاز لفترة رابعة على التوالي يفرض قبضة استبدادية على البلاد جعلتها تبتعد كثيرًا عن مسارات الثوابت الغربية في الديمقراطية وحرية الإعلام والاقتصاد الحر وإشكالية العلاقة مع بوتين.
يسيطر أوربان على وسائل الإعلام بشكل شبه كامل، ويفرض نوعًا من السلطوية على مؤسسات الدولة ويسخرها للعمل وفق قناعاته ويزيد من مساحة التقارب مع روسيا، وهي سمات مختلفة تمامًا عن البيئة السياسية الفرنسية، لكن بإثارة الخوف من تحديات ملايين اللاجئين، وتفزيع الفرنسيين من حمى التضخم التي تزيد يومًا بعد الآخر وتتماس مع حياتهم اليومية، وتمهد لوبان لاقتناص الفرصة ونزع كرسي الرئاسة عبر تخريب جهود التحالف الأوروبي الوليد.
ساسة إيطاليا.. بوتين أفضل زعيم في العالم
في إيطاليا تتزايد طبقة المواليين للسياسة الشعبوية بسبب الدعاية المكثفة التي تلعب على مخاوف وتحيزات الشارع، وتغرقه في طوفان من الدعاية المضللة التي استطاعت بالفعل التأثير على الصوت الإيطالي الرسمي، ومنعته لفترة طويلة من الدخول في سباق مع التصعيد الإنجليزي والفرنسي وباقي كتلة أوروبا الشرقية العائدة من معسكر الاتحاد السوفيتي التي تصطف مع أوكرانيا بشكل عضوي وتدفع حلف الأطلسي للدخول في مواجهة صعبة مع الروس.
تسوق المعارضة الإيطالية الشعبوية لديمقراطية معيبة، فترفض الوحدة الأوروبية في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ وتحاول الشوشرة على الاصطفاف مع أمريكا، ويلعب الشعبويون في دعم بوتين وإبعاد إيطاليا عن محور الصدام معه على إثارة الأزمة المزمنة المعروفة بمعاداة الولايات المتحدة.
على عكس العلاقات الودية التاريخية مع روسيا، يذكر الشعبويون الطليان بالماضي المتوتر مع الولايات المتحدة الذي تسبب في قطع العلاقات الدبلوماسية أكثر من مرة منذ نحو قرن ونصف، بجانب احتلال أمريكا لبلادهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي أزمات في الذاكرة الوطنية الإيطالية وليس من السهل نسيانها.
يبرز في هذه الأجواء نائب رئيس الوزراء الإيطالي السابق أوربان بعبارات مفجعة وساخرة من الرئيس الأوكراني، وكذلك القومي اليميني المتطرف جيورجيا ميلوني، ومعهما رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني الذي يرأس حزب فورزا إيطاليا ولا يزال يتمسك بصداقته الشخصية لبوتين ويعتبره الزعيم الأول على قادة العالم، ما فجر الانقسامات بين الأحزاب السياسية الإيطالية بشأن الحرب في أوكرانيا التي يعتبرها متخصصون نقطة ضعف في جهود الغرب لتشكيل جبهة موحدة ضد روسيا.
ربما الصوت الوحيد المؤيد للتشدد مع روسيا والالتحام بالتكاتف الغربي هو رئيس الوزراء الحاليّ ماريو دراجي وحكومته التي اتخذت مؤخرًا موقفًا متشددًا تجاه موسكو، لدرجة أن رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق أدان له ببعض الفضل في قرار الغرب تجميد الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي الروسي.
لكن رئيس الحكومة الذي لا يعرف جيدًا الحسابات الانتخابية، ولم يسبق له الترشح للانتخابات، وتم جلبه لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية منذ 14 شهرًا فقط، تظهر استطلاعات الرأي أنه غير مرحب به في إيطاليا، ولا يوجد أي دعم شعبي له، لا سيما في قرارات إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، ليؤكد الشعبويون أنهم الأكثر استفادة من الصراع الأوكراني الروسي، فمهما كانت القيم الغربية والدفاع عنها قضية مهمة ومصيرية للبلدان الأوروبية، فإن الاحتياجات والمصالح الوطنية والشخصية لا تقل أهميةً في منظومة الحياة الغربية، وهذه المفردات ستظل عامل ضغط ورقمًا كبيرًا في الشارع السياسي الغربي، ما يعطي أكسير الحياة للشعبويين وأنصارهم للبقاء على الساحة ينتظرون اللحظة الحاسمة.