كاد بطل اليسار أن يفوز في الجولة الأولى من سباق الإليزيه، لكنه خسر بفارق بسيط في المرور إلى الدور الثاني، ومع ذلك فإن جان لوك ميلونشون، مرشح حركة “فرنسا الأبية”، نجح في حفظ ماء وجه اليسار الفرنسي، حتى لو أنه فشل في تحقيق حلمه بعدما حل في المركز الثالث خلف إيمانويل ماكرون ومارين لوبان اللذين يتنافسان الآن على كرسي الرئاسة، إذ من المقرر في 24 أبريل/نيسان المقبل، أن يختار الفرنسيون سيد قصر الإليزيه للسنوات الخمسة القادمة.
تثير الانتخابات الفرنسية أكثر من سؤال، لعل أبرزهم: أي مصير لقوى اليسار المتشرذمة التي لم تعرف هذه الحالة من التدهور والتردي منذ قيام الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958، ويبدو أنها لم تنته بعد من تصفية الإرث الثقيل الذي خلفه وراءه فرنسوا أولاند، آخر رئيس يساري لفرنسا؟
نذير بداية النهاية
سبعة مرشحين يساريين خاضوا غمار الرئاسة الفرنسية، ومن الواضح أن تعدد المرشحين ينم عن تفاقم انشقاقات الكتلة اليسارية التي خدمت في نفس الوقت مصالح اليمين، بل عبدت الطريق لمرشحة حزب التجمع الوطني، لتبارز بقوة الرئيس المنتهية ولايته.
ظهرت الجبهة اليسارية متآكلة وهي تدخل الانتخابات الأخيرة، بل حتى في انتخابات 2017 فشلت قوى اليسار في تشكيل جبهة موحدة ومنسجمة، وكذلك في انتخابات عام 2012 لم تكن بحال أفضل مما هي عليه الآن.
باستثناء مرشح حركة “فرنسا الأبية” جان لوك ميلونشون الذي حصل على 22% من الأصوات، أتت النتائج كارثية على زملائه في الإيديولوجيا، منذرة ببداية نهاية اليسار الفرنسي، فقد نالت مرشحة الحزب الاشتراكي آن هيدالغو 1.7% من الأصوات، خلافًا لمرشح نفس الحزب في انتخابات سنة 2017 بونوا هامون الذي حصل على نحو 6% من الأصوات، وحصل الحزب الشيوعي بقيادة فابيان روسيل على 2.3% من الأصوات، في حين نال حزب الخضر بقيادة يانيك جادو 4.6%، وتذيلت لوحة النتائج الانتخابية نتالي أرتو، اليسارية التروتسكية، برقم مؤلم لحزبها “النضال العمالي”، إذ لم تحصل إلا على 0.6% من الأصوات.
اللعب منفردًا خارج التيار
ميلونشون الذي يستحق لقب “بطل اليسار”، قاد منذ البداية حملة انتخابية هدفها الحصول على الأصوات التي تُحرم منها الأحزاب من طرف الممتنعين عن التصويت، وهكذا فإن برلمان الحملة ضم 200 شخصية ثقافية ونقابية وجمعوية، نصفهم من المسؤولين المتمردين، بينما النصف الآخر من غير الأعضاء في الحزب، ونتيجة لذلك نجح ميلونشون في حشد بضعة آلاف من أنصاره خلال أول لقاء خطابي كبير.
المثير أن استطلاعات الرأي الأولية كانت تعتمد نسبة 7 إلى 10% من نوايا التصويت لصالح ميلونشون، لكن “فرنسا المتمردة” استطاعت أن تتقدم أكثر وتحدث المفاجأة، ويُنسب الفضل في هذا النجاح إلى “التصويت المفيد” من طرف عدد كبير من أنصار اليسار الذين اختاروا في النهاية التصويت للمرشح الأقوى والأنسب لتمثيل تيارهم.
لو كانت هذه الجبهة اليسارية موحدة لما أمكن لمارين لوبان التأهل إلى الدور الثاني
على طرف النقيض، انكسرت “فرنسا المتمردة” ومعها باقي اليسار، فلم يستطع مرشحها تجاوز الطور الثاني، ففشل في الإطاحة باليمين المتطرف، كيف لا وهو الذي لعب خارج السرب، إذ كان بإمكان ميلونشون أن يحاول على الأقل حشد اليسار خلفه، لا أن يلعب منفردًا ويعمق الانشطار، عكس ما فعل في 2017، كان قد تحالف مع الحزب الشيوعي الذي حصل على نسبة تجاوزت 2% (أي ما يزيد على 800 ألف صوت) في هذه الانتخابات، كانت بالتأكيد ستمكنه من هزيمة لوبان.
لو كانت هذه الجبهة اليسارية موحدة لما أمكن لمارين لوبان التأهل إلى الدور الثاني، فالفرق بينها وبين ميلونشون كان نقطة واحدة فقط، أي أن الفرق بينهما في الأصوات تعدى بقليل 421 ألف صوت، ولو توحد اليسار على مرشح واحد لكان أكثر من 3.5 مليون صوت ذهبوا إلى هذا التيار المتشرذم، أن تكون مفيدة للرجل اليساري الوحيد، ميلونشون، الذي ظهر قويًا في الحملة الانتخابية، بخطابه الشعبي البعيد تمامًا عن النخبوية البالية الملازمة للخطاب اليساري التقليدي.
القوى التقليدية في أزمة أخطر
من المستعجل الجزم بأن اليسار الفرنسي دخل مرحلة الاحتضار، ولو أنه يعاني من أزمة عميقة لا يحسد عليها، لكنه ما زال موجودًا في المشهد السياسي، ولا يزال يلعب على الأقل دور مُوَازن القوى، حيث يتموضع هذا التيار بين الليبرالية واليمين المتطرف، هذا الأخير يتجه بخطى ثابتة للظفر بكرسي الرئاسة، على نحو يثير القلق بشأن مستقبل فرنسا الديمقراطي والاجتماعي، خاصة أوضاع المهاجرين والمسلمين الذين راهنوا بقوة على اليسار، إلا أنه خذلهم مرة أخرى.
ومع ذلك، يمكن المراهنة على ظهور قوى يسارية لها القدرة على استئناف ربط الاتصال مع الدوائر الشعبية، فضلًا عن إحياء التحالفات أو الجبهات الشعبية، ومن الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل أن المتمردين والاشتراكيين والشيوعيين أصبحوا أكثر وعيًا بالصعوبات التي يمرون بها، كما أنهم لا يزالون حاضرين بقوة في النقابات والنسيج المجتمعي.
الأحزاب التقليدية لليسار هي التي تمر في أزمة خطيرة، بما فيها الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والراديكاليون
اليسار بحاجة كذلك إلى تجديد الخطاب وتوحيده، باعتباره الطريق نحو استرجاع البريق، حتى إن برامجه الانتخابية في عمومها لا تأتي بجديد في مضمونها، ولا تقدم إجابات عن تطلعات الفرنسيين، ما دامت الجمهورية الفرنسية تحافظ على الإرث الاشتراكي، حيث يسود الدور الرعائي للدولة، من مجانية التعليم والتغطية الصحية الموسعة والإعانات المالية التي يستفيد منها الباحثون عن عمل كل شهر، وكذلك العائلات الكبيرة ذات الدخل المحدود، فضلًا عن معونات السكن والنقل العمومي، وفي ظل هذا الوضع يأتي اليسار ببرامج تجتر حديثها الكلاسيكي عن حق التعليم والصحة والعدالة الجبائية مثلًا.
الواضح أن الأحزاب التقليدية لليسار هي التي تمر في أزمة خطيرة، بما فيها الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والراديكاليون، لأنها لم تعد قادرة على تقديم حلول واقعية وذات مصداقية، وتميل إلى أن تكون متمردة على دمجها في مخطط إعادة تشكيل اليسار، لأنها تعتبره احتواءً وشكلًا من التبعية، بينما يجب على قوى اليسار أن تجد طريقها إلى الاندماج، إذا أرادت فعلًا أن تجد إجابة للسؤال اللينيني: “ما العمل؟”.