نشرت جريدة “ملليت” التركية في 7 أبريل/نيسان الحاليّ خطاب توصية مقدم من وزارة الخارجية الأمريكية إلى الكونغرس، بشأن بيع مقاتلات “إف-16” إلى تركيا، وأن هذه الصفقة ستخدم مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وكذلك مصالح حلف شمال الأطلسي “الناتو” ووحدة كيانه على المدى البعيد.
الخطاب تناول اعتقاد إدارة الرئيس جو بايدن بأن تقوية العلاقات مع تركيا في الوقت الراهن أمر مهم وضروري، سواء لمصالح الأمن القومي أم للعلاقات التجارية والاقتصادية التي تلعب فيها أنقرة دورًا مؤثرًا لما تمثله من ثقل في منطقة الشرق الأوسط.
وكانت تركيا قد تقدمت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بطلب إلى الولايات المتحدة لشراء 40 مقاتلة من طراز F-16 و80 مجموعة تحديث للطائرات من نفس النوع، إلا أن عددًا من أعضاء الكونغرس أرسلوا خطابًا إلى بايدن حرضوا فيه على عدم إتمام تلك الصفقة وتجنب تزويد أنقرة بأي معدات تسليحية بسبب إتمام صفقة منظومة الدفاع الروسية إس 400.
وبعد مرور قرابة 6 أشهر على الطلب التركي الذي لم يُرد عليه، كشفت بعض الصحف التركية مؤخرًا أن هناك العديد من المؤشرات التي تذهب باتجاه تمرير الصفقة وموافقة إدارة بايدن على إتمامها، رغم عدم حسم الكونغرس موقفه حتى الآن.. فما الذي تغير إذًا؟ وما العوامل التي من الممكن أن تدفع واشنطن لتغيير موقفها السابق؟
القصة من البداية
الطلب الذي تقدمت به أنقرة لشراء تلك الصفقة التي من المتوقع أن تصل كلفتها إلى 6 مليارات دولار، يعد الأكبر منذ قرار الولايات المتحدة إبعاد تركيا من برنامج طائرات “إف-35” في يوليو/تموز 2019، حين فرض الأمريكان عقوبات على بعض الكيانات التركية بموجب “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” وذلك على خلفية صفقة الصواريخ الروسية التي وقعتها أنقرة مع موسكو في ديسمبر/كانون الأول 2017 وأثارت حفيظة الإدارة الأمريكية وكياناتها السياسية.
عقب توقيع الصفقة مباشرة أعلنت الولايات المتحدة أنها ستزيل أنقرة، العضو في حلف الناتو، من برنامج F-35، وبالفعل نفذت أمريكا تهديدها في أبريل/نيسان 2021، ورغم ذلك حافظ البلدان على شعرة معاوية في ظل المصالح المشتركة بينهما، وحاول الجانب التركي إعادة المياه إلى ما كانت عليه مرة أخرى عبر طرق الأبواب لإتمام صفقة جديدة، حتى إن كانت ذات إمكانات أقل مما كانت تبحث عنه لتحديث أسطولها الجوي.
وفي ظل التلكؤ الأمريكي وإلقاء الكرة في ملعب الكونغرس بصفته صاحب الكلمة في مثل تلك الصفقات، إذ بالأجواء تشتعل في أوكرنيا عقب الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط الماضي، لتدفع تلك التطورات العلاقات التركية الأمريكية إلى آفاق أخرى من التعاون.
وبعد أربعة أيام فقط من انطلاق الحرب، كان القرار التركي الصعب والحساس بغلق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية تفعيلًا لاتفاقية “مونترو” التي تسمح للجانب التركي بالتحكم في عبور السفن الحربية التابعة لدول في حالة حرب من المضيقين، وهو الموقف الذي لاقى ترحيبًا أمريكيًا كبيرًا، سواء من الرئيس جو بايدن الذي هاتف نظيره التركي رجب طيب أردوغان أم عبر النخب السياسية في الولايات المتحدة.
التطورات التي فرضت نفسها والدور الذي قامت به – ولا تزال – أنقرة لتقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف، ونجاحها حتى الآن في أن تكون حلقة الوصل الأنجح بين المعسكرين الشرقي والغربي، كل هذا عزز من مكانة تركيا الجيوسياسية وفرض قوتها ودورها الإستراتيجي لدى الغرب، الأمر الذي اعتبره البعض فرصةً جيدةً لإعادة ضبط بوصلة العلاقات التركية الأمريكية مرة أخرى بعد السنوات الأخيرة من التوتر.
هل تركيا بحاجة فعلًا إلى هذه الصفقة؟
تمتلك تركيا حاليًّا أحد أكبر أساطيل “إف-16” في العالم، يصل حجمه تقريبًا إلى 270 طائرةً، تشكل عصب القوات الجوية التركية، إذ يعود تاريخ تسليحها بهذا السلاح القوي إلى ثمانينيات القرن الماضي، واستطاعت من خلاله تحقيق العديد من النجاحات في المهام العسكرية التي نفذتها.
وتنحصر المهمة الأبرز لتلك الطائرات في تأمين الشريط الحدودي التركي الممتد على حدود سوريا، حيث اُستخدم ضد أهداف “حزب العمال الكردستاني” في شمال العراق 2015، كذلك العمليات التي قام بها الجيش التركي في محافظة إدلب السورية عام 2020.
مديرة برنامج الدراسات التركية بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن، تول جونول، في تصريحاتها لـ”الجزيرة” أشارت إلى أن الهدف الرئيسي من وراء تلك الصفقة تجديد الأسطول التركي الذي وصفته بـ”القديم”، لافتة إلى أن أنقرة أرادت استبداله عبر شراء طائرات “إف-35″، الأحدث والأعلى في إمكاناتها، غير أنه وبعد فشل الصفقة تحتاج تركيا الآن إلى تطوير قواتها الجوية عبر تحديث أسطولها من “إف-16” الجديدة.
يذكر أن الجانب التركي كان قد خصص 1.4 مليار دولار لشراء تلك الطائرات، وهي الميزانية المخصصة سابقًا لبرنامج “إف-35” حسب مستشار أردوغان للسياسة الخارجية إبراهيم كالين، في 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأنه على أنقرة نقل تلك الأموال لتمويل طلب الشراء الجديد حال موافقة الكونغرس عليه.
الكونغرس العقبة الأبرز
في تحليل لهما نُشر على موقع معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أشار الباحث المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط غرانت روملي، وزميله سونر چاغاپتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، أن الكونغرس سيشكل العائق الأكبر أمام الاتفاق.
الباحثان كشفا أنه خلال جلسة الاستماع التي جرت في مجلس الشيوخ الأمريكي في سبتمبر/أيلول العام الماضي للموافقة على تعيين جيف فليك سفيرًا جديدًا إلى تركيا، قال السيناتور الديمقراطي روبرت مننديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس: “لا أرى أي مبيعات للأسلحة إلى تركيا ما لم يكن هناك تغيير جذري في مسألة شرائها لمنظومة إس-400″، وهو الموقف ذاته الذي اتخذه رئيس اللجنة السابق السيناتور جيم ريش.
وبحسب التحليل فإن هناك توجهًا عامًا داخل الكونغرس بأن الصفقة مشروطة بالتراجع التركي عن منظومة “إس-400” الروسية، ويتهم الباحثان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسيع الفجوة بين أنقرة وواشنطن منذ استغلاله محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا منتصف 2016 ليقدم نفسه على أنه “حامي أردوغان”، الأمر الذي عزز التقارب بين البلدين رغم العداء التاريخي بينهما، وفق روملي وجاغاياتي.
في حالة موافقة أمريكا على تمرير الصفقة حفاظًا على علاقتها مع تركيا التي عززت حضورها وثقلها الإقليمي من خلال تلك الحرب وأثبتت أنها شريك لا يمكن الاستغناء عنه، فإن ذلك ربما يثير الانقسامات داخل النخب والكونغرس
هناك مخاوف أخرى تخيم على النخبة السياسية الأمريكية من التداعيات الإستراتيجية الخطرة الناجمة عن حصول تركيا على هذا الطراز من الطائرات بتحديثاتها المطلوبة، فذلك ربما يمثل تهديدًا لنظام تشغيل مقاتلات “إف-35″، فـ”الرادار الذي يرصد مقاتلات “إف-16” الجديدة، وفقًا لمصنّعه، مصمم لاستخدام تكنولوجيا شبيهة بتلك الخاصة بمقاتلات “إف-35″، وعليه فإن حصول تركيا على تلك الصفقة بجانب امتلاكها منظومة “إس-400″ الروسية، ربما يحمل تهديدًا للمقاتلة الأمريكية المتطورة ويسهل على الروس والأتراك معًا إجهاض تأثيرها بما يفقدها قوتها، ومن هنا كان التباطؤ والرفض من البعض لإتمام الصفقة مهما كانت عوائدها المادية”.
واختتم الباحثان الأمريكيان تحليلهما بأن الرئيس التركي الذي تقدم بطلب شراء تلك المقاتلات وهو على علم مسبق برفض الكونغرس، يسعى لاختبار واشنطن ومحاولة تشويه صورتها لدى الشارع التركي بأنها “شريك دفاعي منافق” لا سيما بعد الموافقة الأمريكية على إتمام بعض الصفقات لدول الجوار التركي، من بينها دول ذات خصومة ممتدة وعلى رأسها اليونان.
هل يمكن أن يكون لـ”إسرائيل” دور؟
أشارت صحيفة “يني شفق” في تقرير لها تعليقًا على رسالة الخارجية الأمريكية للكونغرس، إلى احتمالية أن يكون لـ”إسرائيل” دور محوري في إتمام الصفقة، وذلك عبر اللوبي اليهودي داخل البرلمان الأمريكي وتأثيره القوي في القرار السياسي الرسمي للولايات المتحدة.
التقرير أشار إلى أنه رغم ما أحدثته صفقة “إس 400 ” الروسية من إزعاج للإدارة الأمريكية، وتحركات أنقرة على صعيد السياسية الخارجية والاستقلال نسبيًا عن المسار الأمريكي، فإن الشيء الأبرز وراء موقف واشنطن المتعنت سابقًا كان توتر العلاقات التركية الإسرائيلة، ومن ثم وبعد تعزيز خطوات التطبيع في الآونة الأخيرة وزيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا فإن الأمر لا بد أنه سيعاد النظر فيه وسيكون له تأثيره الواضح على أعضاء الكونغرس.
تتطابق تلك الرؤية مع النتائج التي خرجت بها تلك الدراسة التي أعدها مركز الجزيرة للدراسات، عن دوافع تركيا الحقيقية وراء تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، التي كان على رأسها مساعدتها في كسر عزلتها الشرق أوسطية التي تعززت في الآونة الأخيرة بسبب سياستها الخارجية إزاء بعض الملفات الحساسة التي كان لها صداها على خريطة تحالفاتها وعلاقاتها مع القوى الإقليمية.
وبجانب الدعم الإسرائيلي لتمرير صفقة المقاتلات الأمريكية، كشفت الدراسة أن هناك هدفًا آخر تسعى إليه أنقره من خلال تقاربها مع تل أبييب يتعلق باتخاذ خطوات جادة لتفعيل خط أنابيب “إسرائيل/تركيا”، الذي تعتبره تركيا غرفة الإنعاش المجهزة لإسعاف اقتصادها واحتياجاتها المتنامية للطاقة.
الكاتب التركي محمد أسيت، يرى أن التحسن الأخير الذي شهدته العلاقات بين تركيا و”إسرائيل”، قد يكون له تأثير إيجابي على أعضاء الكونغرس، مضيفًا في مقال له “أولئك الذين يعرفون تاريخ العلاقات التركية الأمريكية يعرفون أن ردود الفعل بشأن تركيا في الكونغرس تتشكل في الغالب من اللوبي اليهودي الذي يهمين في الغالب على القرار السياسي في البلاد بأكملها وليس داخل غرف البرلمان فقط”.
اختبار حقيقي للعلاقات التركية الأمريكية
يتساءل أسيت عن نوع القرار الذي من الممكن أن يصدره الكونغرس بشأن تلك الصفقة بعدما بلغت المشاعر المعادية لتركيا ذروتها، لافتًا إلى أن الأيام الماضية شهدت تقاربًا كبيرًا بين أنقرة وواشنطن جراء الحرب الروسية الأوكرانية التي خففت نسبيًا من حدة التوتر بينهما.
الحديث عن الصفقة ظهر على جدول أعمال اجتماع أردوغان/بايدن الذي عقد في روما نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ أبلغ الرئيس الأمريكي نظيره التركي أن لديه وجهة نظر إيجابية بشأن الطلب التركي، لكنه طلب وقتًا لحسم الكونغرس قراره النهائي، خاصة أن هناك توازن بين الجمهوريين والديمقراطيين بنسب متقاربة، وكأن بايدن يريد أن يلقي بالكرة في ملعب البرلمان.
رسالة الحث والتحفيز التي بعثت بها الخارجية الأمريكية في السابع من الشهر الحاليّ تعكس حجم التغيير في موقف الإدارة الأمريكية الذي تأثر بالطبع بتداعيات الحرب الروسية، وعليه وجدت واشنطن نفسها مدفوعة إلى “التحرك بسرعة” لتلبية مطالب أنقرة، ومع ذلك، لا يزال نوع القرار الذي سيتخذه الكونغرس لغزًا كبيرًا، بحسب الكاتب التركي.
يتفق أسيت مع غرانت روملي وزميله سونر چاغاپتاي، بأن الجانب التركي ربما يهدف من وراء تلك الصفقة إلى إسقاط القناع المزيف عن الولايات المتحدة كشريك موثوق فيه، بما يمنح الحكومة التركية الضوء الأخضر شعبيًا لإعادة النظر في سياستها الخارجية إزاء أمريكا بما يتلاءم مع المستجدات الجديدة، لا سيما أن قطاعًا كبيرًا في الداخل يتحفظ على سياسة الند بالند التي يتبعها أردوغان مع إدارة بايدن وتعزيز علاقته مع المعسكر الشرقي.
يستند الكاتب التركي في تلك الرؤية إلى أن صفقة الطائرات “إف-16” ليست بالأمر الحيوي الذي لا يمكن تعويضه أو الاستغناء عنه بالنسبة لتركيا التي تمتلك الهيكل التكنولوجي اللازم لتحديث طائراتها من هذا الطراز، ويمكنها بالفعل القيام بذلك بوسائلها الخاصة، ومن ثم فإن الأمر ربما يكون اختبارًا فعليًا كما ذهب المحللان الأمريكييان، مختتمًا مقاله قائلًا: “على الرغم من أن هذه التطورات الأخيرة تشير إلى أن العلاقات مع الولايات المتحدة قد ابتعدت عن منطقة التوتر، لا يمكن القول إنها على أرضية صحية حتى الآن”.
في ضوء ما سبق.. يبدو أن واشنطن في موقف صعب سياسيًا، ففي حالة الموافقة على تمرير الصفقة حفاظًا على علاقتها مع تركيا التي عززت حضورها وثقلها الإقليمي من خلال تلك الحرب وأثبتت أنها شريك لا يمكن الاستغناء عنه، فإن ذلك ربما يثير الانقسامات داخل النخب والكونغرس، وفي حال الرفض فإنها قد تخسر حليفها الذي يشهد حاليًّا سياسة توازنات جديدة في توجهاته الخارجية قد تدفعه إلى التقارب أكثر مع المعسكر الشرقي في ضوء سياسة الاستقطاب التي تتبناها موسكو مؤخرًا وهو ما يهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، علمًا بأن التسويف لن يكون في صالح الأمريكان إذا ما قوبل بمغريات أخرى من بوتين وحلفائه.