الصورة: أول أسر الإخوان المسلمين في العراق
بات يقينًا لدي أنه لا حياة للأمة بدون الحركة الإسلامية الفاعلة الناضجة، ولا حياة للحركة الإسلامية بثوبها الفكري والحركي والتراثي الحالي، والذي لابد من تنقيته وتنظيفه وتجديده من عوائق وعوالق الممارسة الحركية والموروث التاريخي والتصور الفكري، لتخلية الأمة وتحليتها، لتنال ما كتبه الله لها وحفظه التاريخ بين أطلاله، من قوة في ميدان ووسطية في حركة وريادة في الركب الحضاري وقطار التاريخ، وتعد هذه السطور محاولة في هذا الاتجاه، وهي في الأخير ليست بحثًا ولا كتابًا وإنما مقالاً يبحث بالرأي الذي يعد صوابًا يحتمل الخطأ في نقد الحركة الإسلامية من الخارج والعراق نموذج فيها.
وواجب الوقت وفريضة الحال في الحركة الإسلامية هو نقدها الذاتي لنفسها قبل أن ينال منها حقد الأيدولوجيين أو غدر العملاء الخائنين، والنقد لغة هو التمييز بين الدراهم الصحيحة والزائفة، والنقد المنهجي هو تجاوز حالتي الرفض المطلق والقبول المطلق إلى بيان الصواب والخطأ وقبول الصواب ورد الخطأ، والنقد الذاتي هو نقد فرد أوجماعة لنفسه/ ها، والنقد يختلف عن النقض حيث النقد يتبعه البناء والنقض هدفه الهدم، وتقويم المسار ومراجعة النفس وبيان مواطن العطب والخطأ من صفات النفس اللوامة والكيس من دان نفسه وغيره من اتبع هواها، ولوم النفس ومحاسبتها من أهم صفات المسلم المؤمن العامل لدينه ووطنه، والنقد الذاتي هو الفريضة الغائبة والغاية المنشودة من الحركة الإسلامية والإسلاميين حيث إن تراثهم الفكري والفقهي والسياسي والحركي يحتاج غربلة شديدة وتنقيح كبير وتنقية عظيمة، الغث منها والسمين والعطب فيها والجميل، والنقد للبناء وليس للهدم والردم، والنقد لتكتشف نقاط الضعف وعورات النفس وعيوبها وأخطائها والاعتراف بها، ثم تتجاوزها الأجيال التي تكمل المسير لتتعلم من درس التاريخ.
والحركة الإسلامية رغم أن موروثها التراثي عالمي الرسالة، إلا أنها انكمشت في قطرية الحركة والإطار وليست عالمية التنظيم والوسائل، بل انغمست في القطرية الترابية الضيقة، طبقًا لحدود سايكس بيكو التي رسمها الأعداء – حتى إن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين ترك لكل قطر حرية التصرف في شئونه الداخلية متعللاً بـ “أهل مكة أدرى بشعابها” فكانت الطوام كثيرة والمصائب عظيمة – مما أدى إلى وجود كثير من المدارس والتصنيفات داخل إطار الحركة الإسلامية للأمة الواحدة، كل حسب موطنه الذي نشأت فيه الحركة الإسلامية القطرية وقوميتها بل وأيدولوجيتها وحزبيتها أيضًا.
والحركة الإسلامية في العراق أكثر الأمثلة وضوحًا على قطرية الحركة الإسلامية وتشرذمها وتأطيرها داخل الدولة القطرية، ويظهر ذلك جليًا وواضحًا في تموقعاتها المكانية وأسمائها وحتى أسماء زعمائها وقادتها، فهناك الحركة الإسلامية الكردية “الإخوان الأكراد والحزب الإسلامى الكرستانى”، والحركة الإسلامية التركمانية، فضلاً عن الحركة الإسلامية السنية منها والشيعية في الوسط والجنوب، وهناك من أسماء القادة أيضًا التكريتي والسامرائي والبغدادي والكردي، كل يدعي وصلاً بليلاه وقوميته وحزبيته وقبيلته!
بدأت الحركة الإسلامية مبكرًا في العراق على شكل تنظيمات إسلامية، والتي كانت لا تنتهج الحاكمية كمنهج فكري وأيديولوجي وهدف من أهدافها مثل “حزب العهد” الذي تأسس في بغداد عام 1914 وتزعمه الشيخ”محمد سعيد النقشبندي” وكان الحزب فكرة” نوري باشا سعيد” رئيس الوزراء، وقبل حزب “العهد” كان “النقشبندي” رئيسًا لحزب “المشورة” الذب تأسس بعد إعلان الدستور العثماني 1908.
وعرف العالم الإسلامي تسمية “الإخوان” في أكثر من جماعة أشهرها في القرن العاشر الميلادي “إخوان الصفا وخلان الوفا” بالبصرة، وهم جماعة من فلاسفة المسلمين والذين أرادوا التوفيق بين الحقائق الفلسفية والعقائد الإسلامية، واهتموا بالعلم والفلسفة والسياسة، ثم أُطلق الاسم على “إخوان من أطاع الله” بنجد والذين أصبحوا القوة الضاربة بجيش الدولة السعودية الأولى، وأخيرًا أطلقها الشيخ “حسن البنا” على جماعة “الإخوان المسلمين”.
والسنة في العراق عمومًا يتمذهبون بالمذهبين الشافعي والحنفي، فيما عدا مدينة الزبير جنوب البصرة، التي ينحدر أهلها من نجد ويتمذهبون بالمذهب الحنبلي، ومن المعروف أن الحركة الوهابية وُلِدت في بيئة حنبلية نجدية، والعراق عرف حالة عداء للوهابية بسبب الغارات الكثيرة التي شنها الإخوان الوهابيون على العراق، سواء في المناطق الحضرية أو في مواطن العشائر المنتشرة على أطراف الصحراء الفاصلة بين العراق والمملكة العربية السعودية.
من المهم كذلك ملاحظة أن النموذج الأكثر راديكالية للإسلام السياسي السني، الذي مثّله حزب التحرير الإسلامي (تأسس عام 1953)، وكان في مرحلة سابقة على ظهور السلفية الجهادية بصيغتها القائمة اليوم، لم يُصبْ، تنظيميًا، نجاحًا كبيرًا في العراق، وللسلفية العراقية طابعها المميز، فهي يغلب عليها الطابع التقليدي العلمي الذي يتعامل مع الشيعة ولا يكفرهم كالسلفية الوهابية، ويرجع البعض أن العراق لم يعرف السلفية الجهادية إلا بعد أن أشعل النظام الحاكم الصراع الطائفب، وقام بما يسمى “الحملة الإيمانية” التي أصابت الدولة بجميع مؤسساتها حتى حزب البعث نفسه.
بدأت جماعة “الإخوان المسلمين” العمل في العراق 1944 على يد الشيخين “محمد محمود الصواف” و”أمجد الزهاوى” – الظل العلمائي للحركة – باسم جمعية “الإخوة الإسلامية” بالتزامن مع مجهود دعوي كبير لرجلين من أهل العلم هما “حسين كمال الدين” و”محمد عبد الحميد أحمد” من إخوان مصر المغتربين في العراق، ثم أنشأوا جمعية “إنقاذ فلسطين” عام 1947 والتي كانت قضية فلسطين قضيتهم المركزية مما أثر على اهتمامهم بالشأن الداخلي للعراقيين، ثم أعلنوا عام 1960 عن واجهتهم السياسية “الحزب الإسلامي العراقي” حيث تم حله على يد حكومة قاسم عبد الكريم 1961، وبعد مجيء حزب البعث إلى السلطة تعرض الإخوان للملاحقة واُعتقل عدد كبير من نشطائهم، وأُعدم عدد آخر مثل عبد العزيز البدري ومحمد فرج وعبد العزيز شندالة، وبعد مغادرة الشيخ الصواف للعراق نهائيًا خلفه د/ عبد الكريم زيدان في منصبه بقيادة الجماعة، ورأى البعض عدم صلاحيته كقيادة للجماعة لأن الأصلح له البحث الأكاديمي والتأليف والدعوة وليس الإدارة والقيادة، حيث تعرض لمضايقات عدة وبقي في منزله تحت الإقامة شبه الجبرية مدة تزيد على عشر سنوات، رحل بعدها إلى اليمن ليستقر هناك.
الصورة: أول أسر الإخوان المسلمين في العراق
ونشط الإخوان في عمل سري ودعوي، وفي عام 1991 أعلن الحزب الإسلامي إعادة إحياء نفسه من جديد في بريطانيا وأصدر صحيفة “دار السلام” واُنتخب “إياد السامرائي” أمينًا عامًا للحزب، وظهرت في التسعينيات موجة إسلامية كبرى تمثلت في التدين والإقبال على المساجد وبناء المساجد بأعداد كبيرة، ونشر الكتاب الإسلامي والأنشطة الإسلامية في المساجد والجامعات والعمل الخيري والإغاثي والاجتماعي، وكان لضعف النظام السياسي في العراق بعد حرب الخليج الثانية أثر كبير في نشاط الحركة الإسلامية في العراق، فقد تراجعت الملاحقة الأمنية وسُمح لهم بالعمل العام والدعوي والاجتماعي، وقد شاركوا في مؤتمر لندن والذي يقضي بالموافقة على إسقاط الأمريكيين لحكم صدام وكذلك مؤتمر صلاح الدين، وسقطت العراق في أيدي الاحتلال الأمريكب عام 2003 فأعاد الحزب تنظيم نفسه من جديد.
………………………..
المصادر:
– الموسوعة التاريخية الرسمية للإخوان المسلمين “الإخوان المسلمين في العراق” “الحزب الإسلامي في العراق”.
– رسالة محمد أحمد الراشد “نقض المنطق السلمي”.
– مائة عام على الإسلام السياسي في العراق “راشدالخيون”.
– الإخوان المسلمون في العراق وثنائية الخيارات “الجزيرة نت 3/10/2004”.
– السلفية في العراق .. تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج “يحيى الكبيسى”.