ترجمة وتحرير: نون بوست
تحاول الحكومة الإسرائيلي البقاء – قدر المستطاع – بعيدة عن الأنظار فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، ولكن يبدو أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مصمم على جرها إلى بؤرة الضوء.
وجّه زيلينسكي نداءً مباشرًا للبرلمان الإسرائيلي الشهر الماضي طالب فيه ظاهريًا بالحصول على أسلحة، وخاصة نظام اعتراض القبة الحديدية الذي يستخدمه الاحتلال لوقف الصواريخ قصيرة المدى التي يطلقها الفلسطينيون من غزة في محاولة للفت الانتباه إلى الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ 15 سنة.
لكن بدلًا من الشعور بالإطراء من هذا الاهتمام، اعترض العديد من السياسيين الإسرائيليين على خطاب زيلينسكي الذي شبه فيه معاملة روسيا لأوكرانيا بـ “الحل النهائي” للنازيين تجاه اليهود الأوروبيين.
كان زيلينسكي – وهو يهودي – يأمل أن يضرب على الوتر الحساس. لكن بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، بدا الأمر مهينًا. حتى الآن، رفضت “إسرائيل” تزويد أوكرانيا بالأسلحة أو الانضمام للغرب في شن حرب اقتصادية على روسيا.
يعزى ذلك إلى حقيقة أن الأحزاب السياسية والجماعات الدينية الإسرائيلية الكبرى لديها علاقات جغرافية وعاطفية بروسيا، وأن موسكو طرف رئيسي في الشرق الأوسط، لا سيما في الجارة السورية حيث تنسق “إسرائيل” بشكل وثيق مع روسيا بشأن الضربات الجوية المنتظمة في سوريا – التي تنتهك القانون الدولي.
تتبع “إسرائيل” أسلوبا دبلوماسيًا لا يخلو من صعوبات في تعاملها مع قضية أوكرانيا. فمن ناحية، تعد “إسرائيل” عميلا إقليميا للولايات المتحدة تحت حماية واشنطن وهي تتمنى الحفاظ على سعادة راعيها. ومن ناحية أخرى، تعتمد مصالح “إسرائيل” العسكرية على الحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو.
يشعر القادة الإسرائيليون بالقلق من تزايد الإجماع على أن ما يفعله الجيش الروسي في أوكرانيا يرقى إلى جرائم الحرب، مما خلق سابقة علنية يمكن أن تنقلب على “إسرائيل” بسبب انتهاكاتها في الأراضي المحتلة. وبتبني دور مبكر كوسيط، حثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت زيلينسكي على قبول الاقتراح الروسي لوقف إطلاق النار.
الجثث الجماعية
يعتزم زيلينسكي قلب الموازين لصالح أوكرانيا مع “إسرائيل”. فهو يدرك أن محنة بلاده حظيت بتعاطف الجمهور والإعلام الغربي ولديه كل الدوافع لتسليح هذا الشعور للضغط على “إسرائيل” لتدعم أوكرانيا بشكل أكثر انفتاحًا.
في خطابه للبرلمان، خصص اقتباسًا من رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير يقول “أعداءنا يريدون أن نزول من الوجود”. وحذر زيلينسكي من أن روسيا تخطط لفعل الشيء نفسه بأوكرانيا.
في الأسبوع الماضي، بعد انبثاق الصور الأولى للجثث الجماعية في بوتشا بالقرب من كييف، غير وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد نبرته حيث علق على تويتر قائلا: “تعمد إيذاء السكان المدنيين جريمة حرب وأنا أدينها بشدة”.
من المفترض أن “إسرائيل” تتجنب مثل هذا النقد من خلال الادعاء بأنه ليس لديها “نية” إيذاء المدنيين الفلسطينيين، على الرغم من إيذائها لهم في الكثير من الأحيان. بعد ذلك، أقرت “إسرائيل” على مضض الانضمام إلى الولايات المتحدة وأوروبا في التصويت على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وكانت موسكو قد حذرت أنها ستتعامل مع تلك الحركة على أنها “لفتة غير ودية”، سيكون له تداعيات على العلاقات الدبلوماسية.
“إسرائيل كبيرة”
جاء تصويت “إسرائيل” في الأمم المتحدة في أعقاب إصدار زيلينسكي بيانًا يروج لـ”إسرائيل” كنموذج لأوكرانيا ما بعد الحرب، حيث قال إن بلاده ستصبح “إسرائيل كبيرة”، مع وجود قوي للقوات المسلحة في كل جانب من جوانب المجتمع الأوكراني. وأورد في “جميع المؤسسات ومحلات السوبر ماركت ودور السينما، سيكون هناك أشخاص يحملون أسلحة”. وفي المستقبل المتوقع، ستتطور أوكرانيا كمجتمع عسكري للغاية مثل “إسرائيل” بدلًا من أن تكون “ليبرالية أوروبية مطلقة”. وأضاف أن أوكرانيا ستتجنب أن تصبح “استبدادية”.
بدأ التودد لـ”إسرائيل” منذ بعض الوقت من قبل زيلينسكي. في سنة 2020، أغبط “إسرائيل” بسحب أوكرانيا من لجنة الأمم المتحدة التي تأسست في 1975 “لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة … الحق في تقرير المصير … الحق في الاستقلال الوطني والسيادة، والحق في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها”.
لكن المغزى من نمذجة أوكرانيا على شاكلة “إسرائيل” يتم تجاهله بصورة كبيرة. باعتبارها كيانا استيطانيًا استعماريًا يحاول نزع ملكية السكان الأصليين واستبدالهم، فإن “إسرائيل” كدولة عسكرية للغاية تعامل الفلسطينيين كعدو يحتاج إما للإخضاع أو الطرد.
عمل الجيش الإسرائيلي ومليشيات المستوطنين لعقود على طرد الفلسطينيين من أراضيهم (التطهير العرقي) وإبقائهم مشتتين ومنعزلين عن المجتمعات اليهودية الحصرية التي استوطنت مكانهم (الفصل العنصري). هل هذا ما ينويه زيلينسكي لأوكرانيا: مجتمع معزول بشدة حيث يطرد الجيش والمليشيات الأوكرانية أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم ليسوا أوكرانيين؟
إقليم دونباس
من المفارقات أن هذا يحاكي الاتهام الذي وجهه فلاديمير بوتين إلى الحكومة الأوكرانية لتبرير الغزو الروسي في أواخر شباط/ فبراير حيث زعم أن أوكرانيا بحاجة إلى “التخلص من النازية” – وهي ذريعة قوبلت بالاشمئزاز في العواصم الغربية. لكن تعهد زيلينسكي بإنشاء أوكرانيا على نموذج “إسرائيل” يؤكّد صحة حجة الزعيم الروسي.
لن تحتاج كييف إلى نشر جنود ومليشيات في دور السينما والسوبر ماركت إذا نفذ زيلينسكي تعهده بطرد الجيش الروسي من أوكرانيا. ستحتاج إلى جيش كبير مجهز جيدًا للدفاع عن حدودها الشمالية والشرقية. لكن الرئيس الأوكراني – كما يبدو – لا يرى روسيا على أنها عدو أوكرانيا الوحيد. إذًا من الذي يقلق بشأنه أيضًا؟ لفهم ذلك، علينا تحليل خطابات بوتين الإطنابية.
استند ادّعاء بوتين بشأن “التخلص من النازية” في تبريره لغزو أوكرانيا، إلى فكرة أن العناصر الفاشية في الجيش الأوكراني تنفّذ مذابح وحملات تطهير عرقي ضد عدد كبير من السكان من أصل روسي داخل أوكرانيا في منطقة دونباس المتاخمة لروسيا. وزعمت روسيا أن قواتها كانت هناك ـ جزئيًا ـ لمنع أوكرانيا من تنفيذ مثل هذه المذابح ـ التي غالبًا ما تُوصف بأنها “اجتثاث للوجود الروسي” – في شرق البلاد حتى أن بوتين استخدم مصطلح “الإبادة الجماعية”.
حظر الأحزاب
إن ادّعاء بوتين لم يأتِ من فراغ، حيث غرقت أوكرانيا في ما يرقى إلى أن يكون حربا أهلية في شرقها منذ أن أطاحت احتجاجات واسعة النطاق في كييف في سنة 2014 بحكومة موالية لروسيا واستبدلتها بحكومة حريصة على الانضمام إلى الناتو.
بالنسبة لبعض المراقبين، بدا ما حدث قبل ثماني سنوات مُريبًا وكأنه “انقلاب ناعم” تدعمه الولايات المتحدة. تم التوصل إلى شريط مسجل لفيكتوريا نولاند، التي تعد من كبار المسؤولين في البيت الأبيض حيث تم إرسالها إلى كييف في ذلك الوقت، وهي تناقش من يجب أن يتم تنصيبه كرئيس جديد.
لم تقتصر التحرّكات اللاحقة للحكومة القومية الجديدة على معاداة روسيا من خلال الضغط من أجل اندماج أكبر في الناتو والاتحاد الأوروبي فحسب، بل أصدرت كييف أيضًا تشريعات خفّضت بشدة مكانة اللغة الروسية، التي يتحدث بها شريحة كبيرة من السكان، ودمجت الميليشيات النازية الجديدة المعادية لروسيا مثل كتيبة آزوف في الجيش الأوكراني. ومنذ بدء الغزو، حظر زيلينسكي أيضًا 11 حزبًا معارضًا باعتبارها داعمة لروسيا أو المجتمعات الروسية في أوكرانيا.
استغلت وسائل الإعلام الغربية ادّعاء بوتين “القضاء على النازية” لوصف “التضليل الروسي” لمعضلة النازيين الجدد طويلة الأمد في أوكرانيا – على الرغم من أن جميع هذه المنافذ الإعلامية تناولت هذه المعضلة على نطاق واسع قبل بضع سنوات. لكن النقطة المهمة – على الأقل من وجهة نظر موسكو – حول كتيبة آزوف والمجموعات الشبيهة بها هي أنهم يمثلون سلالة قوية من القومية الأوكرانية المتطرفة التي لا تحتفل فقط بالتعاون التاريخي الأوكراني مع ألمانيا النازية ولكنها ترى أن العرقية الروسية في أوكرانيا تشكل تهديدًا.
في سؤال نادر وجهته وسائل إعلام غربية مؤخرًا لزيلينسكي بشأن هذا الأمر، اعترف بوجود ميليشيات نازية جديدة قائلًا إنها “كانت تدافع عن بلدنا”. بدا وكأنه يتخيل أن الغرب سيطمئن بحقيقة أن هذه الجماعات اليمينية المتطرفة قد اندمجت في الجيش الأوكراني وعملت تحت راية العلم الوطني.
الطابور الخامس
منذ تغيير الحكومة في سنة 2014، كانت مجموعات مثل آزوف في طليعة الحرب الأهلية في منطقة دونباس، التي يتركز فيها العرق الروسي. أودت هذه الحرب بحياة 14 ألف شخص على الأقل وشُرّد مئات الآلاف من الأوكرانيين من ديارهم.
قد يفسر ذلك لماذا اضطر مراسل شؤون الدفاع في “بي بي سي” في زيارة إلى إحدى تلك البلدات الشرقية إلى الاعتراف – وإن كان على مضض – بأن بعض الأوكرانيين الذين أجرى معهم مقابلات بدا أنهم ينظرون إلى حكومتهم في عهد زيلينسكي على أنها تمثّل مشكلة أكثر من بوتين أو الكرملين.
يعيدنا هذا السؤال إلى سبب حرص زيلينسكي على تقديم “إسرائيل” كنموذج لأوكرانيا، ولماذا من شأن هذا التطور أن يجعل موسكو متوترة. تعتبر “إسرائيل” جميع الفلسطينيين الخاضعين لحكمها – سواء كانوا مواطنين داخلها أو رعايا تحت الاحتلال العسكري – بمثابة طابور خامس محتمل يسعى إلى تدمير “إسرائيل الكبرى” من الداخل نيابة عن ملايين الفلسطينيين في الشتات والعالم العربي.
دعمت هذه الرواية القومية المتطرفة تطوّر “إسرائيل” كحصن عرقي شديد التسلُّح ملتزم بقمع أي فلسطيني متبقٍ داخل جدرانها، بهدف نهائي وهو طردهم. وبالنسبة لأي شخص ليس عبدًا لصدام الحضارات الصهيونية، فإن رواية الحرب لا نهاية لها، وإن ما فعلته “إسرائيل” بالفلسطينيين يشبه إلى حد كبير الفصل العنصري – السبب الذي دفع العديد من جماعات حقوق الإنسان والجماعات القانونية إلى البدء مؤخرًا في الحديث عن ذلك علنًا.
ولكن بينما يأسف المجتمع الدولي على نحو متزايد على معاملة “إسرائيل” للفلسطينيين، فإن القيادة الأوكرانية تسعى إلى ترسيخ انطباع بأن نموذج الفصل العنصري المتطرف والعرقي القومي هو نموذج مثالي لأوكرانيا، الذي ـ إن كان صحيحًا ـ سيُضفي بعض المصداقية وليس التبرير ـ على دوافع بوتين لشن الغزو الذي يرى أنه استباق لردع أوكرانيا من طرد المجتمعات العرقية الروسية التاريخية واستبدالها على عتبة روسيا بأولئك الموالين لأيديولوجية النازيين الجدد في كتيبة آزوف.
ارتفاع وتيرة القتل
كثيرًا ما يلجأ الخبراء الغربيون في تبرير مزاعم وجود النازيين الجدد في أوكرانيا إلى أن زيلينسكي يدين باليهودية. لكن ليس من الواضح مدى السيطرة التي يمارسها الرئيس الأوكراني على هذه الميليشيات، أو الدرجة التي تنتشر بها القومية المتطرفة بشكل رئيسي من حيث الكراهية الشديدة لكل الأشياء الروسية بين الأوكرانيين أثناء الحرب التي تتسبب في خسائر فادحة. فالجثث المتناثرة في الشوارع في أماكن مثل بوتشا ومقاطع الفيديو التي تظهر على ما يبدو الأوكرانيون وهم يعدمون أسرى الحرب الروس هي علامات على مدى السرعة التي تصبح فيها هذه الانقسامات أكثر سُميّة، مما يُعمّق الوضع المضطرب لثماني سنوات من الحرب الأهلية.
يجب على الغرب أن يبذل قصارى جهده لفرض وقف إطلاق النار على الجانبين في أسرع وقت ممكن. لكن الدول الغربية ـ بدلًا من ذلك ـ تعمل على تأجيج النيران بإغراق أوكرانيا بالأسلحة لتكثيف القتال ورفع عدد القتلى.
حتى لو تمكنت أوكرانيا في النهاية من طرد الجيش الروسي، فإن الأسلحة الغربية ستبقى في أيدي الأوكرانيين، بما في ذلك ميليشيات مثل كتيبة آزوف. وإذا تحقق حلم زيلينسكي في أن تصبح أوكرانيا “إسرائيل كبرى” مع دحر الجنود الروس، فإن ذلك على الأرجح لن يضع حدًا لإراقة الدماء، بل سيمثّل فصلًا جديدًا في تجربة مريرة ومؤلمة لأوكرانيا.
المصدر: ميدل إيست آي