ترجمة وتحرير: نون بوست
في قصيدة “حكايات إنساين ستال” للشاعر يوهان لودفيغ رونيبرغ، حول ملحمة فنلندا الوطنية عن حرب 1808-1809 بين السويد (التي كانت فنلندا جزءًا منها آنذاك) وروسيا، أبلغ شاب بائس يدعى سفين دوففا والده بأنه سينضم إلى الجيش. ولشدة دهشة والده والجميع، شرع دوففا في التحضير لأن يصبح جنديًا شجاعًا يمكن لكتيبته العسكرية الاعتماد عليه في المعركة.
في هذه الأيام، أثبتت فنلندا – التي تشترك في حدود 800 ميل مع روسيا – أنها جندي شجاع لدرجة أنه من المتوقع أن يرحب الناتو بطلب عضويتها. وكما أعلنت رئيسة الوزراء سانا مارين هذا الأسبوع، ستقرر فنلندا ما إذا كانت ستتقدم بطلب عضوية في غضون أسابيع.
يمثّل هذا الإعلان تطورًا مثيرًا للسخرية. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد أن أحبطت تقدم الجيش الأحمر العظيم في حرب الشتاء 1939-1940 ثم سعت لاستعادة الأراضي التي استولى عليها السوفييت في نهاية المطاف، كان على فنلندا أن تقبل الحياد الذي فرضته موسكو. ولكن ما أثار دهشة الجميع تقريبا، نجاحها في هذه المهمة المهينة أيضا، حيث قامت ببناء قوات مسلحة ذات قدرة عالية دعمها المجتمع المدني بقوة – بينما تمكنت في نفس الوقت من الحفاظ على العلاقات مع موسكو.
هذه التسوية، التي كثيرًا ما يسميها غير الفنلنديين “الفنلدة” (لإزعاج الفنلنديين)، كان يُنظر إليها في موسكو باعتبارها حلا وسطا مقبولا. في هذه الأيام، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – المصاب بجنون العظمة منذ فترة طويلة ويخشى زحف الناتو الوهمي على حدوده الجنوبية الشرقية – يريد مثل هذا التسوية لأوكرانيا، لكن عدوانه هناك أدى إلى تحول جذري في هلسنكي. تبدو فنلندا حاليا مستعدة للتخلي عن حيادها الشهير مرة واحدة وإلى الأبد، وهي خطوة من شأنها أن تضع قوات الناتو الحقيقية على الحدود الشمالية الغربية لروسيا.
في 13 نيسان/ أبريل، تلقى أعضاء البرلمان الفنلندي تقريرًا عن الأمن القومي أطلق مناقشات حول ما إذا كان ينبغي على فنلندا التقدم بطلب للحصول على عضوية في الناتو. مع ذلك، كان الكثير منهم قد قد اتخذ قراره بالفعل.
استجاب 112 من أصل 200 عضو في البرلمان لاستطلاع جديد أجرته هيئة الإذاعة الوطنية الفنلندية “أوليسراديو”، المعروفة باسم “أولي”. وقال 71 منهم إنهم سيدعمون محاولة فنلندا نيل عضوية في الناتو، بينما أعرب ستة منهم عن معارضتهم ذلك. وفي اليوم نفسه، أعلنت مارين – في مؤتمر صحفي في ستوكهولم مع رئيسة الوزراء السويدية ماغدالينا أندرسون – أن فنلندا ستقرر “في غضون أسابيع” ما إذا كانت ستتقدم بطلب العضوية.
في غضون ذلك، أشارت الحكومات في مختلف عواصم الناتو بالفعل إلى أنها ترحب بفنلندا في التحالف. ولكن لماذا قد يكون طلب العضوية المحتمل فكرة غير سديدة؟ تتمتع فنلندا بديمقراطية راسخة وحكم رشيد، كما يتمتع الفنلنديون بقدرات عسكرية بالغة الأهمية – خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستخبارات.
في الواقع، أصبحت التصريحات المتعلقة بقيمة فنلندا بالنسبة لحلف الناتو شائعة جدًا لدرجة اعتبار هلسنكي قوة عسكرية للحلف على الرغم من اضطرار الناتو للدفاع عن حدود بطول 800 ميل التي تجمعها مع روسيا. وعلى الرغم من أن كل دولة عضو في حلف الناتو تقريبًا تبدو متحمسة لاحتمال انضمام فنلندا إلى الحلف، إلا أن ما ستطرحه فنلندا على طاولة المفاوضات مهم.
تضم قوات الدفاع الفنلندية 12 ألف جندي متواضع نسبيا، وتنفق فنلندا حوالي اثنين بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
قال الأدميرال المتقاعد جوهاني كاسكيلا، الذي شغل منصب وزير الدفاع الفنلندي حتى سنة 2009، “منذ تفكيرنا في عضوية الناتو قبل عقود، علمنا أننا سنشارك في الحفاظ على هذا الجزء من أوروبا آمنا بفضل أعظم ثرواتنا. كنا نعلم أننا سنكون مساهمين وليس مستهلكين للأمن في أوروبا”.
حتى الآن، كانت فنلندا مساهما في الأمن الأوروبي من خلال حراسة حدودها مع روسيا – وباعتبارها عضوا في الناتو فإنها ستضع هذه القدرة الهائلة تحت تصرّف الحلف. وأضاف كاسكيلا أن “أكبر فائدة نحققها لحلف الناتو هي أننا سنحرُس الحدود مع روسيا. لا أريد التباهي، ولكن بالتأكيد يجب أن تؤخذ قدراتنا العسكرية على محمل الجد”.
ظاهريًا، قد يبدو الأمر كما لو أن كاسكيلا يتفاخر. بعبارة أخرى، تضم قوات الدفاع الفنلندية 12 ألف جندي متواضع نسبيا، وتنفق فنلندا حوالي اثنين بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. ولكن حرس الحدود القوي للدولة لا يعتبر جزءًا من هذه الأرقام (وعلى عكس العديد من البلدان الأخرى، لا تدفع فنلندا المعاشات العسكرية من الإنفاق الدفاعي).
والأهم من ذلك، أن القوات الرسمية البالغ عددها 12 ألف مدعومة بالمجندين؛ حيث يستكمل حوالي ثلاثة أرباع الرجال الفنلنديين خدمتهم العسكرية (يُعفى أولئك الذين يعانون من أمراض جسدية أو عقلية من أداء الخدمة العسكرية، وكذلك العدد القليل من الفنلنديين المستنكفين). وعند إكمال خدمتهم العسكرية، يصبح جميع المجندين، باستثناء أولئك الذين ينضمون إلى الخدمة العسكرية الفعلية، جنود احتياط.
لعل أبرز ما يُميّز فنلندا الطائرات المقاتلة الممتازة ودورة الدفاع الوطني التي تعد دورة مجتمعية مرموقة للغاية
أشار المحلل الدفاعي الفنلندي ستيفان فورس إلى أن “الجيش الفنلندي يظل استثنائيًا جدًا في أوروبا، حيث يقوم بتدريب مجموعات كبيرة من المجندين كل سنة على إتقان تكتيكات الدفاع ضد هجوم روسي كبير. كان هذا هو محور تدريبهم حتى خلال العقود القليلة الماضية، في الوقت الذي حوّلت فيه الدول الأخرى سياساتها العملية إلى إدارة الأزمات باستخدام وحدات صغيرة. لكن في كليتنا الدفاعية، لا يزال ضباط الأركان العامة مدرَّبين على قيادة الألوية والقوات”.
شهد التدريب الذي خضع له المجنّدون في السنوات الأخيرة تحولًا كبيرًا نحو تعزيز دافعية الجنود، الأمر الذي دفع معظم المجندين السابقين للقيام بدورهم عن طيب خاطر في حفظ أمن البلاد كجنود احتياط. وفي استطلاع أُجري في كانون الأول/ ديسمبر الماضي ـ قبل أن تتضح نية روسيا لغزو أوكرانيا ـ أيّد 73 في المئة من الفنلنديين الذين شملهم الاستطلاع إبقاء الخدمة العسكرية، بينما أيّد 7 في المئة فقط توظيف القوات المسلحة المحترفة تمامًا. ومشاركة المواطنين في الأمن القومي – والدعم الشعبي لها – ستكون مصدر قوة لحلف الناتو.
من المهارات المهمة الأخرى التي ستجلبها فنلندا إلى التحالف هي استخباراتها العسكرية، ونتاج 105 سنوات من مراقبة وفهم الدولة العظمى المجاورة. طلبْتُ من اللواء المتقاعد بيكا توفري، المسؤول عن المخابرات العسكرية الفنلندية حتى سنة 2020، إطلاعي على نقاط القوة الفنلندية الأخرى فقال: “جيشنا كبير بالنسبة لحجم بلدنا، مُزوّد بمدفعية ضخمة ودروع قوية، لكن بطبيعة الحال هذه ليست قوة قابلة للانتشار على نطاق واسع”. وأضاف: “يمكن نشر أجزاء من الجيش في مناطقنا بالقرب من فنلندا، كما أظهرنا في تدريبات مختلفة لحلف الناتو”.
تتدرّب كل من فنلندا والسويد بانتظام مع النرويج ـ جارتهما في الناتو ـ التي زادت من اندماج الدولتين غير العضوتين. قال كاسكيالا: “لدينا مراقبة جوية ممتازة نُعزيها إلى حلف الناتو عندما نُسأل، على سبيل المثال خلال مناورة الاستجابة الباردة 2022″، في إشارة إلى تدريب مشترك تمّ مؤخرًا”. وأضاف: “هناك تمارين في أقصى الشمال على أساس أسبوعي تقريبًا، تشمل فنلندا والسويد والنرويج، وفي كل مرة تزداد وحدتنا. وسيكون من السهل القيام بذلك بشكل دائم”.
في المستقبل القريب والبعيد، من المرجح أن تنشأ الأزمات على حدودها وعلى طرقها وجسورها. لذلك، تحتاج فنلندا إلى الناتو بقدر احتياجه لها.
لعل أبرز ما يُميّز فنلندا أيضًا الطائرات المقاتلة الممتازة ودورة الدفاع الوطني التي تعد دورة مجتمعية مرموقة للغاية مدتها ثلاثة أسابيع يتم فيها تعليم محترفي الأداء المتميزين من جميع قطاعات المجتمع مبادئ الأمن القومي للبلاد، التي أثمرت عن وجود قادة عبر المجتمع لديهم معرفة بالأمن القومي والأهم يعرفون بعضهم البعض.
بينما تحاول البلدان درء الأنشطة العدائية، لا غنى عن وجود كبار مديري الشركات الذين يفهمون الأمن القومي ودور مؤسساتهم فيه. فعلى سبيل المثال، تخيل كيف قد يغير مارك زوكربيرغ وجهة نظره حول دور “فيسبوك” في المجتمع إذا أُتيحت له الفرصة لحضور مثل هذه الدورة، وتخيل كيف يمكن للدول الأعضاء في الناتو إشراك القطاع الخاص في المساعدة على الحفاظ على أمن بلدانهم ببساطة من خلال تعليم القادة الصاعدين عن الأمن القومي.
إذا قررت السويد أيضًا الانضمام إلى حلف الناتو، فستجلب معها المزيد من نقاط قوة بما في ذلك حريتها التي تلعب دورًا حاسمًا في بحر البلطيق. وإلى جانب كونها كبيرة نسبيًا، تتمتع أيضًا بخبرة في رصد الغواصات التي من شأنها أن تخدم الناتو بشكل جيد. ولكن بينما تستعد فنلندا للتخلي عن حيادها، أعلن الديمقراطيون الاشتراكيون السويديون أنهم سيجرون “مراجعة أمنية”، على الرغم من أنه من الواضح حتى للديمقراطيين الاشتراكيين المتشككين في الناتو أنه من الحماقة أن تظل السويد خارج التحالف بمفردها.
وفي حين تقترب فنلندا من دخول الناتو، فإن السؤال الواضح هو: هل من المتوقع أن يدعم مواطنوها شجاعة قواتها المسلحة ليس فقط في الداخل وإنما أيضًا في الدول الأعضاء البعيدة في الناتو؟ هذا هو السؤال الذي سيتعين على البرلمانيين في البلاد الإجابة عليه. لكن في المستقبل القريب والبعيد، من المرجح أن تنشأ الأزمات على حدودها وعلى طرقها وجسورها. لذلك، تحتاج فنلندا إلى الناتو بقدر احتياجه لها.
المصدر: فورين بوليسي