أسفرت الاعتداءات الإسرائيلية على المصلين داخل باحات المسجد الأقصى خلال الساعات الماضية عن إصابة أكثر من 150 فلسطينيًا بالرصاص المطاطي والاختناق، فيما اعتقلت قوات الاحتلال قرابة 400 مصلّ، وسط موجة غضب بين صفوف الفلسطينين المرابطين عن المسجد وقدسيته.
وكعادة دولة الاحتلال، تذرعت بما أسمته “أعمال الشغب” ليقتحم عدد كبير من قواتها الشرطية باحات المسجد والمصلى القبلي فجر الجمعة 15 أبريل/نيسان 2022، ما أدى إلى اندلاع صدامات عنيفة مع المصلين، الأمر الذي فسره البعض بأنه محاولة مستفزة لتفريغ المسجد من الفلسطينيين تمهيدًا لممارسة المستوطنين اليهود طقوسهم الاحتفالية احتفاءً بعيد الفصح (البيسح) الذي بدأ بالأمس ومقرر له أن يستمر 7 أيام.
وخلال الساعات الـ24 الماضية اقتحمت الشرطة الإسرائيلية المسجد مرتين متتاليتين، وأفرغته من المصلين بعد أن فرقتهم بالقوة لتغلق كل الأبواب عدا باب واحد فقط (باب العامود) غير أنها وضعت عليه المتاريس الحديدية لمنع المصلين من الدخول، وذلك قبل أن تضطر لاحقًا لإعادة فتح أبواب المسجد بعد الهبة التي وجدتها من الفلسطينيين المرابطين الرافضين للانبطاح لرغبات المستوطنين.
تأتي هذه المواجهات في ضوء التصعيد الذي شهدته الساحة الفلسطينية خلال الأيام الأخيرة في الضفة الغربية، إثر أعمال المقاومة التي نفذها عدد من الشباب الفلسطيني في الداخل المحتل وأسفرت عن مقتل العديد من المستوطنين وبعض رجال الشرطة الإسرائيلية، وهي المواجهات التي أسفرت بحسب الهلال الأحمر الفلسطيني عن إصابة 344 شخصًا في الضفة، 13 منهم أصيبوا بالرصاص الحي و145 بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط، وأكثر من 150 بكسور ورضوض جراء اعتداءات جنود الاحتلال.
وقد فجّرت تلك العربدة الإسرائيلية المتواصلة داخل الأقصى وفي القدس والضفة بصفة عامة خلال الأيام الماضية غضبًا عارمًا في صفوف الفلسطينيين، وأعادت نسائم المقاومة للأجواء مرة أخرى، فيما اعتبرتها السلطة الفلسطينية إعلان حرب، بينما حذرت حركات المقاومة المسلحة من تداعياتها.
التصدي لمخطط الذبح
جاء الاحتشاد الفلسطيني داخل المسجد على خلفية دعوات جماعات الهيكل المزعوم باقتحام جدرانه المقدسة وذبح قرابين عيد الفصح أو محاولة نثر دماء تلك القرابين بداخله، خاصة عند قبة السلسلة شرق قبة الصخرة المشرفة، وهي التي يعتقد المستوطنون أنها المكان الخاص بهيكلهم الوهمي.
العديد من المؤشرات التي ساقها باحثون فلسطينيون تؤكد وجود نية حقيقية لتمرير مخطط الذبح رغم نفي “إسرائيل” رسميًا لهذه الدعوات، على لسان المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، منها كما أشار الباحث في شؤون القدس، زياد أبحيص، تجييش قوات الاحتلال بكامل عتادها لتفريق 30 ألف مصلٍ جاؤوا لأداء صلاة الفجر، لافتًا إلى أن تجهيز قوة لتفريق أعداد بهذا الحجم ليس عملًا اعتباطيًا ولا عشوائيًا ولا من قبيل المصادفة، بل مخطط له من قبل، فضلًا عن انتشار القناصة على جنبات المداخل الخاصة بالمسجد وهو ما يؤكد وجود إعداد مسبق تحسبًا لأي ردة فعل محتملة جراء تنفيذ عملية الذبح.
وحذر أبحيص خلال حديثه لـ”الجزيرة” أن الخطر من تمرير مؤامرة ذبح القرابين داخل المسجد لا تزال قائمة، وتمتد على مدار 7 أيام كاملة، بدأت من يوم الخميس 13 رمضان وتستمر حتى الجمعة 21 رمضان، وهو ما يتطلب توخي الحذر لا سيما أن اقتحامات عيد الفصح تعد خطرًا في حد ذاتها بعيدًا عن فكرة القربان المستحدثة.
الرأي ذاته ذهب إليه أستاذ دراسات بيت المقدس عبد الله معروف، الذي أوضح أن المشاهد التي تعكسها طبيعة المواجهات الدائرة في باحات المسجد منذ الأمس ليس لها إلا تفسير واحد فقط يتعلق بتمرير الاحتلال مخطط ذبح القرابين وتمهيد الطريق أمام جماعات الهيكل لتنفيذ تلك الجريمة التي ستحاول تصويرها على أنها عمل فردي وليس حكوميًا، تجنبًا لأي حرج من الممكن أن تقع فيه حال القيام بذلك رسميًا.
علقت الرئاسة الفلسطينية على اقتحام الشرطة الإسرائيلية لساحات الأقصى واستهدافها المصلين بالرصاص المطاطي بأنه “تطور خطير وتدنيس للمقدسات وإعلان حرب”
ويستعيد الباحث الفلسطيني ذكريات 2019 حين أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو عدم السماح باقتحامات المستوطنين صبيحة عيد الفطر، ليفاجأ المصلون خلال أداء الصلاة بأعداد كبيرة من الشرطة تقتحم المسجد وتفرغه من الفلسطينيين لتأمين وإفساح المجال أمام اقتحام المستوطنين.
العديد من الآراء تشير إلى أن هناك رغبةً حكوميةً إسرائيليةً ملحةً لتنفيذ عملية الذبح داخل المسجد أو في باحاته، في ظل النفوذ الكبير لجماعات الهيكل داخل الحكومة والكنيست، يقابلها حملة اعتقالات ممنهجة بحق المرابطين والناشطين الميدانيين، وهو ما يؤكد شكوك البعض إزاء وجود إرادة حقيقية لتنفيذ جريمة القرابين.
وأمام هذا المخطط حرص المرابطون على البقاء داخل المسجد رغم القيود والعراقيل، ففي ظل الإغلاقات واقتحامات قوات الاحتلال ساحات الأقصى أدى صلاة الجمعة بالأمس أكثر من 60 ألف مصل، بحسب إدارة الأوقاف الإسلامية بالقدس، وسط تصاعد الدعوات بالبقاء دون المغادرة تصديًا لأي محاولة من المستوطنين لتمرير خطتهم.
إعلان حرب وتصعيد خطير
علقت الرئاسة الفلسطينية على اقتحام الشرطة الإسرائيلية لساحات الأقصى واستهدافها المصلين بالرصاص المطاطي بأنه “تطور خطير وتدنيس للمقدسات وإعلان حرب”، فيما قالت الخارجية الفلسطينية إن ما حدث يكشف بشكل واضح نوايا الاحتلال لفرض سيادته على الأقصى وتقسيمه، مؤكدة أن الشعب لن يسمح للمحتل والمستوطنين بالاستفراد بالمسجد الأقصى.
فيما حذرت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية من أن ما جرى من استباحة للمسجد والتعامل مع المصلين بتلك الوحشية سيدفع باتجاه حرب دينية، لافتة أن ما قامت به حكومة بينيت يأتي في إطار تنفيذ رؤيتها الاستيطانية التوسعية للهيمنة على المقدسات الإسلامية وفي المقدمة منها الأقصى المبارك.
من جانبه أكد رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية، إن الشعب الفلسطيني لا يمكنه تمرير مخططات الاحتلال، محذرًا من التداعيات المترتبة على هذا التصعيد الإسرائيلي، وأوضح أن الدفاع عن الأقصى وحمايته هو قرار الشعب الفلسطيني مهما كان الثمن، مضيفًا “لا مكان للغزاة في قدسنا وأقصانا وسوف ننتصر في صراع الإرادة والهوية مهما طال الزمن، وأكد أن هناك خيارين فقط: إما الاحتلال والبطش والقرابين في الأقصى وإما الرباط وترسيخ إسلامية القدس والمسجد الأقصى”.
وفي اتصال هاتفي تلقاه من المبعوث الأممي لعملية السلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند، لبحث تطورات المشهد وسبل التهدئة، حدد هنية 4 نقاط أساسية لإلزام الاحتلال بشأن ما يجري في المسجد الأقصى، أولها السماح للمصلين بالوصول إلى المسجد بحرية وعدم التعرض لهم، ثانيًا: الإفراج عن معتقلي الأمس البالغ عددهم أكثر من 400 فلسطيني، كذلك ضرورة وضع حد نهائي لمسألة ذبح القرابين داخل المسجد أو عند أسواره، وأخيرًا ضرورة وقف القتل والاغتيال في جنين ومخيمها ومختلف أنحاء الضفة.
كما أجرى رئيس المكتب السياسي لحماس اتصالًا هاتفيًا مع مسؤولين في جهاز المخابرات العامة المصرية، ناقش خلاله الأوضاع الخطيرة في مدينة القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية، وحذر من مغبة الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة، مطالبًا الجانب المصري أداء دوره كوسيط بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لنزع فتيل الأزمة قبل تفاقمها.
عامًا تلو الآخر تمهد الشرطة الإسرائيلية الطريق أمام أبناء تلك الجماعات والمستوطنين المتطرفين لاختراق المسجد، وصل الأمر إلى السماح لهم بذبح قرابينهم في قرية لفتة المهجرة، ثم في جبل الزيتون، ثم في القصور الأموية، وكلها في محاذاة الأقصى
من جانبها اعتبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن ما حدث “تصعيد خطير يتطلب أعلى إسناد للمعتصمين في المسجد ولأهل القدس، وإشعال النار في وجه الاحتلال على امتداد فلسطين التاريخية”، مدينة تجاهل المجتمع الدولي لما يجرى وصمته ومنظماته عما يمارس من انتهاكات ليل نهار بحق الشعب الفلسطيني، داعية شعوب العالم الحر لنصرة مدينة القدس ودعم نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال.
دوليًا.. طالب الأمين العام أنطونيو غوتيريش، على لسان المتحدث باسمه، ستيفان دوجاريك، الجانب الإسرائيلي بأقصى درجات ضبط النفس، وضرورة التحقيق بسرعة وبشكل شامل في كل حالة استخدام للقوة، مضيفًا أنه يجب على القوات الإسرائيلية “ألا تستخدم القوة المميتة إلا كملاذ أخير عندما يكون ذلك أمرًا لا مفر منه من أجل حماية الأرواح”، داعيًا الفلسطينيين والإسرائيليين إلى العمل على الحفاظ على الهدوء وتجنب التصعيد خلال الأيام المقدسة الراهنة.
اقتحام الأقصى.. نهج متواصل وتشريع ممنهج
استهداف الأقصى والمسجد تحديدًا ليس عملًا عشوائيًا أو فرديًا يقوم به المستوطنون بين الحين والآخر أو في المناسبات الدينية فقط، بل بات من الواضح أنه مخطط ممنهج ومعد له مسبقًا منذ 2003، حين شرعت سلطات الاحتلال حماية عمليات اقتحام المستوطنين للمسجد حتى باتت تلك الجرائم تتم في كنف رجال الشرطة.
منذ ذلك العام وبدأ نفوذ جماعات الهيكل المزعوم يتوغل داخل السلطات التنفيذية الإسرائيلية، وعليه تم تبني رؤية تلك الجماعة كعقيدة متأصلة في العقلية الحاكمة لدى دولة الاحتلال، وهو ما أدى في النهاية إلى تعظيم شعائر اليهود داخل باحات المسجد والمناطق القريبة منه.
وعامًا تلو الآخر تمهد الشرطة الإسرائيلية الطريق أمام أبناء تلك الجماعات والمستوطنين المتطرفين لاختراق المسجد، وصل الأمر إلى السماح لهم بذبح قرابينهم في قرية لفتة المهجرة، ثم في جبل الزيتون، ثم في القصور الأموية، وكلها في محاذاة الأقصى، فيما ظل الذبح داخل المسجد أو بجوار أسواره حلمًا وهدفًا يداعبهم ويحاربون من أجله لولا تصدي المرابطين.
وفي إطار تعبيد الطريق لتنفيذ هذا المخطط حظرت سلطات الاحتلال الحركة الإسلامية التي يقودها الشيخ رائد صلاح، ومنعتها من ممارسة أنشطتها داخل القدس، كان ذلك في 2015، ثم منعت قوافل نقل المصلين للأقصى، وأطاحت بالعديد من المؤسسات التي كانت تقوم في الأساس على خدمة هذا المكان المقدس.
ونظير ذلك تزايدت معدلات اقتحام المستوطنين للمسجد في بروفات يومية، وأحيانًا تكون مرتين في اليوم، صباحًا ومساءً، وتشير التقديرات إلى أنه خلال 2021 اقتحم المسجد الأقصى أكثر من 34 ألف مستوطن إسرائيلي، مقارنة بـ30 ألف خلال 2018، ما يعني أن هناك خطةً ممنهجةً لزيادة الاقتحامات تحت حماية ورعاية قوات الاحتلال.
أبراهام وتساؤلات الموقف العربي
لا يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي الأخير وعربدة المستوطنين وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني في الضفة وغيرها بمعزل عن اتفاقات “أبراهام” التي وقعتها دولة الاحتلال مع بعض الدول العربية خلال العامين الماضيين، منذ الاتفاق المبرم منتصف سبتمبر/أيلول 2020 بين الإمارات والبحرين و”إسرائيل”، ثم انضم إليه المغرب والسودان لاحقًا.
وقبل التصعيد الأخير بأيام قليلة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي في ضيافة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مدينة شرم الشيخ بمشاركة ولي عهد أبو ظبي، سبقه اتصالات مكثفة بين تل أبيب وبعض العواصم العربية وحديث عن تقارب محتمل مع الرياض بشكل رسمي.
نجحت دولة الاحتلال من خلال الموجة التطبيعية الأخيرة في إبعاد القرار العربي عن معادلة الصراع مع الفلسطينيين، ليتحول البعد العربي إلى نقطة ضعف للقضية الفلسطينية أكثر منه عامل قوة، وهو ما يمكن قراءته في ردود الفعل الأولية الصادرة عن الأنظمة العربية إزاء التصعيد الإسرائيلي الأخير، التي لا تتجاوز عبارات الإدانة الدبلوماسية.
شيئًا فشيئًا تفقد القضية الفلسطينية أحد عوامل قوتها، حتى إن كانت قوة رمزية، وسط هرولة غير منطقية لا تضع حسابات أخرى غير البرغماتية المقيتة، من خلال التذلل على أعتاب تل أبيب، ليجد الشعب الفلسطيني نفسه وحيدًا في مواجهة الاحتلال الذي نجح في تحييد بقية العناصر، مدافعًا وحده عن قدسية وشرف وكرامة الأمة العربية.
وفي الأخير.. فإن تلك الانتهاكات وما قبلها وما يتوقع أن يكون بعدها حتمًا ستواصل إسقاط الأقنعة المزيفة عن الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية التي تتعامل مع القضية الفلسطينية عبر إستراتيجية الشعارات الجوفاء، وتوظفها كـ”أداة” للاستهلاك المحلي وتخدير الرأي العام لخدمة أجندات سياسية بعيدة تمامًا عن الدعم الذي ينتظره الشعب الفلسطيني.