خلال سنوات الثورة السورية، شهدت العلاقات بين النظام السوري وتركيا قطيعةً وعداوةً كبيرةً، بسبب الدعم التركي المعلن للثورة ضد نظام بشار الأسد الذي أعلن حربًا بلا هوادة على شعبه منذ عام 2011، لكن هذه القطيعة السياسية لم توقف الاتصالات الأمنية والاستخبارية بين أنقرة ونظام الأسد، وهو ما تدلل عليه تصريحات المسؤولين الأتراك.
فقد أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذات مرة، إلى أن “السياسة الخارجية بين تركيا وسوريا مستمرة على مستوى الأجهزة الأمنية”، وقال: “لا يمكن للأنظمة الاستخباراتية أن تقوم بما يقوم به الزعماء، عليكم ألا تقطعوا هذا الخيط تمامًا، لأن هذا الخيط يلزمكم في يوم من الأيام”، وبعده تحدث وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو عن أن “حدوث لقاء سياسي مع النظام السوري في دمشق غير ممكن. أنقرة تتواصل في القضايا الأمنية فقط”.
لقاءات
التطور الجديد في ملف اللقاءات الاستخبارية بين الجانبين، ما ذكرته صحيفة “المدن” نقلًا عن مصادرها بأن لقاءً انعقد في موسكو بين حقان فيدان رئيس الاستخبارات التركية مع علي مملوك رئيس جهاز الأمن في النظام السوري، وبحسب المصادر فإن موسكو تحاول من خلال عقد هذا اللقاء إعادة ترتيب الوضع في سوريا “لضمان عدم حدوث تأثيرات سلبية على الملف السوري، ناجمة عن أوكرانيا”.
من جهته نفى النظام السوري عقد هذا اللقاء وفقًا لما نشرته صحيفة “البعث” التابعة للنظام السوري، على أن نفي هذه اللقاءات هو أمر شائع. الجدير بالذكر أن الصحف التركية ذكرت في سبتمبر/أيلول من العام الماضي أن لقاءً سيجمع بين فيدان ومملوك في العاصمة العراقية بغداد لكنه لم يتم.
بعد ذلك وفي ديسمبر/كانون الأول، جرى الإعلان عن لقاء استخباراتي جمع بين وفد من النظام السوري ووفد تركي في مدينة العقبة الأردنية، تناول عمليات مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني وإعادة إعمار حلب وعودة اللاجئين وفتح المعابر الحدودية مع الحسكة عبر القامشلي ومع اللاذقية عبر معبر كسب، وهذا اللقاء لم يعلق عليه المسؤولون الأتراك أو مسؤولو النظام.
وكان لقاءً قد جمع بين فيدان ومملوك على طاولة واحدة في موسكو في 13 يناير/كانون الثاني 2020، هذا الاجتماع جرى حينها إثر التصعيد العسكري والمعركة التي فتحها النظام السوري على إدلب، كان اللقاء حينها قصيرًا بسبب كلمة علي مملوك الذي تحدث عن ضرورة انسحاب القوات التركية من سوريا، واستخدم مصطلحات مستفزة للطرف التركي تضمنت تهديدًا بالحرب، هذه التهديدات قابلها فيدان بامتعاض ورد عليه، لكن الروس أوقفوا اللقاء خشية أن تتطور الأمور إلى الأسوأ.
بمجرد انتهاء اللقاء خرق النظام اتفاق التهدئة وعاود التصعيد العسكري بوتيرة أكبر عما كان عليه، وصولًا إلى إقدام النظام وروسيا على قتل جنود أتراك في شهر فبراير/شباط 2020 وتطور المواجهة إلى معركة “درع الربيع”، التي أرسلت تركيا من خلالها رسالة واضحة بأن التواجدات التركية في سوريا وحدود أستانة وسوتشي معتبرة بشكل كبير لدى تركيا، وأنها لا تمانع الدخول في مواجهة عسكرية إذا استلزم الأمر للإبقاء عليها.
ثلاث نقاط
اللقاء الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام هذه الأيام بين فيدان ومملوك في موسكو، في حال كان قد تم عقده، يأتي بعد أيام مما ذكرته صحيفة “حرييت” التركية عن مناقشات تركية حكومية تجري في الفترة الحاليّة للشروع في حوار مع حكومة النظام السوري بشأن ثلاثة مواضيع مهمة لا غنى عنها في جميع الاتصالات، وهي: “الحفاظ على البنية الأحادية والحفاظ على وحدة الوطن، بالإضافة إلى ضمان أمن اللاجئين العائدين”.
وقالت الصحيفة: “هناك تعليقات مفادها أن دور تركيا في الأشهر الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بحسم حرب أوكرانيا، وتركيز روسيا في هذه المنطقة، قد يكون وقتًا مناسبًا لحل المشكلة السورية”.
وأوضحت الصحيفة أن “سياسة التوازن الحاليّة لتركيا مهمة للعديد من البلدان، وخاصة الدول الأوروبية. وستساهم في حل المشكلة أيضًا كثيرًا في موضوعات السياسة الخارجية الأخرى”، وترى أنه “يمكن لسياسة المصالحة هذه تسهيل خطوات جديدة في مناطق المشاكل كما يمكن فتح فصول جديدة مع سوريا، خاصة مع أرمينيا وإسرائيل”.
كما رأت الصحيفة أن العلاقات مع النظام السوري قد تفتح فرصة جديدة لتركيا، خاصة بموضوع حزب العمال الكردستاني، إذ يمكن تحسين العلاقة القائمة بالفعل من دولة إلى دولة، وكلما كانت هناك إمكانية للتقدم مع سوريا، كان هناك دور لإيران وروسيا، وفي هذه العملية، بينما روسيا مشغولة بكل من ردود فعل أوكرانيا والعالم، فضلًا عن مشكلاتها الداخلية، يمكن بدء بداية جديدة مع النظام.
شروط متبادلة
إلا أن لهجة العداء بين النظام السوري والحكومة التركية لم تهدأ وتيرتها، ما يبين أن تطبيعًا قريبًا لن يتم، خاصة أن النظام يطالب بالانسحاب التركي من الأراضي السورية قبل الشروع بأي نقاش، وكان وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد قد أبدى استعدادًا لتطبيع العلاقات مع الحكومة التركية، “لكن وفق شروط”، وقال المقداد: “سوريا وتركيا جيران، ويربطنا تاريخ طويل و500 سنة احتلال، تكفي حتى نفهم بعضنا”.
وأضاف “هناك عدة أشياء يجب أن تتحقق لتعود العلاقات السورية – التركية، هي سحب تركيا قواتها من الأراضي السورية، والكفّ عن دعم الإرهابيين وحرمان السكان السوريين من الموارد المائية، وبناء علاقات مع سوريا على أساس الاحترام المتبادل”.
الجدير بالذكر أن صحيفة حرييت، عرضت منذ أسابيع شروطًا تركيةً مقابل انسحابها من الأراضي السورية، وهي “توافق جميع الأطراف على الدستور الجديد، بما يحمي حقوق شرائح الشعب السوري كافة، وإقامة نظام انتخابي يمكن لجميع الفئات المشاركة فيه بحرية”، إضافة إلى “تشكيل حكومة شرعية بعد الانتخابات، وقضاء هذه الحكومة على التنظيمات الإرهابية التي تستهدف وحدة أراضي تركيا على خط الحدود بين البلدين”.
هل يحصل التطبيع؟
ما يشير إلى أن تركيا يمكن أن تقبل على خطوات تطبيعية مع النظام هو سياستها الحاليّة بتصفير مشاكلها مع دول المنطقة مثل الإمارات و”إسرائيل” بالتوازي مع فتح حوار مع السعودية ومصر، لكن المؤشرات على إمكانية البدء بحوار بين البلدين على المستوى السياسي ما زالت بعيدة، خصوصًا مع ندرة نقاط الالتقاء والاتفاق واتساع الهوة مع كثرة القضايا التي يتشبث بها كل طرف مع الآخر.
في هذا الإطار يذكر الباحث السوري فراس فحام أن “تركيا تدرك عدم إمكانية التعويل على النظام السوري بمكافحة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، فالملف أكبر من نظام الأسد، وتعتبر إيران فاعلًا أساسيًا فيه، بل إن الدعم الإيراني لحزب العمال الكردستاني في العراق لم يعد خافيًا”، مشيرًا إلى أن الأردن “عول سابقًا على العلاقة مع النظام السوري لضبط الحدود ووقف عمليات التهريب، لكن الاختراقات الإيرانية واللبنانية للمؤسسة العسكرية للنظام السوري حالت دون قدرته على تنفيذ أي من تعهداته”.
يضيف فحام “أي اعتراف تركي بشرعية النظام السوري يعني بالضرورة الاستجابة لمطالبه المتعلقة بالانسحاب من الأراضي السورية، وهذا من الصعب تصور الموافقة عليه من الجانب التركي، لأنه يضعف الدور التركي في الملف السوري على المدى البعيد والمتوسط”، موضحًا أن “القول إن تركيا مقبلة على ترتيب الأوضاع مع النظام السوري كجزء من عملية استعادة العلاقات مع الإقليم فهذا أمر فيه نظر كبير”.
٦-أما القول فإن تركيا مقبلة على ترتيب الأوضاع مع النظام السوري كجزء من عملية استعادة العلاقات مع الإقليم فهذا أمر فيه نظر كبير..
تطبيع العلاقات يقوم على المصالح.
فمصر لديها نفوذ في ليبيا وشرق المتوسط، والإمارات والسعودية تمثل لتركيا وجهة اقتصادية مهمة..مالذي لدى النطام السوري؟
— Firas Faham فراس فحام (@Fr_faham) April 15, 2022
ويرى الباحث السوري أن “تطبيع العلاقات يقوم على المصالح، فمصر لديها نفوذ في ليبيا وشرق المتوسط، والإمارات والسعودية تمثلان لتركيا وجهة اقتصادية مهمة.. فما الذي لدى النظام السوري؟” مشيرًا إلى أن “الجميع يترقب تطورات الملف الأوكراني، وارتداداته على الدور الروسي في المنطقة والعالم، ولا يبدو أن هذا الوقت المناسب لاتخاذ أي خطوات أو تغيير في الإستراتيجيات”.
بالمحصلة فإن تركيا ما زالت في موقف عدائي مع النظام السوري وهو ما يؤكده قول مولود جاويش أوغلو “النظام السوري غير معترف به من العالم، فما من شك أن تركيا لن تجري مفاوضات سياسية معه”، ويبدو أن أي عملية تطبيع تركية مع النظام لن تكون سهلة مثلما حصل مع دول أخرى كالإمارات، خاصة أن الجانبين خاضوا معارك شرسة فيما سبق ويوجد تشابك في الملفات على صعيد أكبر من قضايا الحدود والجغرافيا والاقتصاد.