ترجمة وتحرير: نون بوست
أعلنت روسيا خلال الأسبوع الماضي أنه على الدول الأوروبية أن تسدد مدفوعاتها بالروبل الروسي وليس بالدولار أو اليورو مقابل شراء غازها الطبيعي. قبل شهر، كان هذا الأمر ليكون صفقة مربحة مع خسارة الروبل 40 بالمئة من قيمته ليصبح سعره 139 روبل مقابل الدولار، وذلك في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكن منذ آخر انخفاض في القيمة مُسجّل في السابع من آذار/ مارس، شهد الروبل الروسي انتعاشًا كبيرًا. وإلى حد الآن، يتم تداوله بسعر 84 روبل مقابل الدولار، وهو نفس سعره وقت الغزو. وهذا الانتعاش ليس مؤقتا بل مستدام مما جعل الروبل العملة الأفضل أداءً في العالم في آذار/ مارس.
مع ذلك، لا تزال جميع العقوبات التي فُرضت عند بدء الحرب سارية، وفي بعض الحالات أكثر قسوة. إذا كيف تمكن الروس من إنعاش عملتهم؟
الثغرات في جدار العقوبات
يعود الفضل في هذا الانتعاش إلى عدة عوامل. أولا، بفضل الثغرة الهائلة في العقوبات التي فرضتها الدول الغربية المتحالفة مع الولايات المتحدة ألا وهي مواصلة توريد الغاز الطبيعي. بعبارة أخرى، تهدف العقوبات إلى تقييد قدرة روسيا على الحصول على العملات الأجنبية – الدولار واليورو على وجه الخصوص. ولكن العديد من الدول الأوروبية تواصل شراء الغاز الروسي لأنها أصبحت تعتمد عليه بشكل كبير فضلا عن عدم وجود موردين بديلين قادرين على تلبية الطلب.
أضف إلى ذلك الزيادة في أسعار النفط والغاز الطبيعي، فضلا عن مرونة العلاقات التجارية لروسيا مع كبرى الاقتصادات الأخرى مثل الصين والهند، مما يساهم في تواصل تدفق العملات الأجنبية إلى روسيا بشكل ثابت. وقد خفف ذلك من المخاوف من أن تصبح روسيا مفلسة، وساعد في وضع حد أدنى لقيمة الروبل.
يوجد ثغرة أخرى في العقوبات وهي اقتطاع الديون السيادية. كان تجميد حسابات روسيا الخارجية من أقسى العقوبات وأكثرها تأثيرا على روسيا. تمتلك روسيا ما قيمته 640 مليار دولار من اليورو والدولار والين والعملات الأجنبية الأخرى في البنوك حول العالم. وحوالي نصف هذا المبلغ مودع في حسابات في الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن العقوبات حالت دون وصول روسيا إلى تلك الأموال، إلا عندما يتعلق الأمر بسداد مدفوعات الفائدة على ديونها السيادية. لقد تركت وزارة الخزانة الأمريكية ثغرة مفتوحة للسماح للوسطاء الماليين بمعالجة المدفوعات لروسيا. ومن المقرر إغلاق تلك الثغرة هذا الشهر، لكنها قدمت مساعدة كبيرة لروسيا.
دون تلك الثغرة، ربما كانت روسيا بحاجة إلى جمع الدولارات عن طريق بيع الروبل، مما كان سيؤدي إلى تراجع قيمة العملة. ولو لم تكن قادرة على جمع تلك الدولارات، لكانت قد تخلّفت عن السداد.
الكيمياء المالية
ساهمت هذه العوامل الخارجية الملموسة في انتعاش قيمة الروبل، بيد أن العوامل الداخلية لم تكن ملموسة إلى حد ما. في 28 شباط/ فبراير، رفع البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة إلى 20 بالمئة. ولدى الروسيين الذي كانوا يميلون لبيع روبلاتهم وشراء الدولار أو اليورو حاليا حافز كبير لتوفير تلك الأموال بدلا من ذلك. وكلما قل عدد الروبلات الذي يتم بيعها، قل تخفيض قيمة العملة.
بعد ذلك، طالبت الحكومة الشركات الروسية بضرورة مبادلة 80 بالمئة من أي أموال تجنيها هذه الشركات في الخارج بالروبل الروسي. وهذا يعني أن شركة إنتاج الصلب الروسية التي تحقق أرباحًا بقيمة 100 مليون يورو وتبيع الصلب لشركة في فرنسا يجب أن تحول 80 مليون يورو من أرباحها إلى الروبل، بغض النظر عن سعر الصرف.
ويُذكر أن العديد من الشركات الروسية تقوم بالعديد من الأعمال التجارية مع الشركات الأجنبية، وتحقق أرباحًا كثيرة من اليورو والدولار والين. لذلك يؤدي تحويل 80 بالمئة من هذه الإيرادات إلى الروبل إلى زيادة الطلب على العملة الروسية، مما يساعد في تعزيز قيمتها.
أصدر الكرملين مرسوما يحظر على الوسطاء الروس بيع السندات المالية المملوكة للأجانب. يمتلك العديد من المستثمرين الأجانب أسهما في الشركات الروسية وسندات حكومية، وقد يرغبون بشكل مفهوم في بيع هذه السندات المالية. ومن خلال حظر هذه المبيعات، تعمل الحكومة على دعم أسواق الأسهم والسندات والاحتفاظ بالمال داخل البلاد، وكل ذلك يساعد في منع انخفاض قيمة الروبل.
كما أن المواطنين الروس أنفسهم مستهدفون من قبل الحكومة، التي منعتهم من تحويل الأموال إلى الخارج. وجاء في الحظر الأولي أنه سيتم تعليق جميع قروض وتحويلات النقد الأجنبي.
أدى ذلك إلى بقاء العملة الأجنبية في البلاد وثني الروس عن بيع الروبل مقابل الدولار أو اليورو، ما من شأنه أن يفرض ضغطًا أكثر على العملة. تم تخفيف هذه القيود نسبيًا في الفترة الأخيرة لإعطاء فرصة للروس الذين يرسلون الأموال بانتظام إلى الخارج، لكن حجم التحويلات بالعملة الصعبة ينبغي ألا يتجاوز 10 آلاف دولار فقط للأفراد حتى نهاية هذه السنة.
من المحتمل أن يكون العامل الأكبر الذي يخنق الروبل هو الحيلة المحفوفة بالمخاطر التي يمارسها الرئيس فلاديمير بوتين وهي إخبار بعض مشتري الغاز الطبيعي الروسي أنه يتعين عليهم من الآن فصاعدًا الدفع بالروبل. لكن بما أن عقود الغاز الطبيعي تتطلب الدفع باليورو أو بالدولار، فإن الدول التي تشتري الغاز الطبيعي – مثل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية – لا يكون لديها احتياطيات كبيرة من الروبل. وإذا نجح بوتين في إجبار هذه البلدان على الدفع بالروبل، سيتعين عليها حينها شراء الكثير من هذه العملة وبذلك سيرتفع الطلب على الروبل وهكذا سيرتفع سعر الروبل بشكل طبيعي. وقد ساعدت هذه التوقعات في ارتفاع القيمة السوقية للروبل.
عملة بوتيمكين
يمكنك القول إن تحركات الحكومة الروسية تندرج ضمن مهامها كسلطة عليا مثل المعتاد. بعد كل شيء، يقوم الاحتياطي الفيدرالي بتعديل أسعار الفائدة طوال الوقت. تفرض وزارة الخزانة الأمريكية قيودًا على التحويلات المالية إلى بلدان معينة. ولكن لماذا لا يمكن لأي دولة تحديد العملة التي تحصل بها على مدفوعاتها؟ ألا تتحمل الحكومات مسؤولية الدفاع عن عملتها بأي حال من الأحوال؟ لا تخلو كل هذه الأسئلة من الوجاهة. مع ذلك، فإن ما تفعله الحكومة الروسية هنا هو أكثر من مجرد دفاع عن العملة: إنها تتلاعب بالسوق من أجل تعزيز قيمة الروبل وتدفع الطلب على العملة الذي لم يكن ليوجد لولا ذلك.
يقول بعض المراقبين إن روسيا أنشأت بشكل أساسي عملة بوتيمكين في إشارة إلى غريغوري بوتيمكين، الذي تم تعيينه حاكما لشبه جزيرة القرم بعد أن ضمتها كاترين العظيمة في سنة 1784. كان حريصًا على أن يظهر لكاثرين مدى نجاحه في إعادة توطين القرم مع القرويين الروس. ومن المفترض أن بوتيمكين بنى وسكن قرية متنقلة قام بضمها، تم تفكيكها ثم إعادة ضمها عندما كانت كاترين في طريقها لإجراء جولة تفقدية للمنطقة.
تلعب رئيسة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، دور بوتيمكين مع كاثرين بوتين، باستخدام مجموعة من الأدوات لجعل الروبل يبدو كعملة ذات قيمة، في حين أن قلة قليلة من الناس خارج روسيا يرغبون في الواقع في شراء روبل واحد ما لم يكونوا مجبرين على ذلك ولا يميل الكثير من الناس داخل روسيا إلى الروبل حقًا.
لكن التدخل الحكومي لتعزيز قيمة الروبل ينطوي على الكثير من المخاطر. تُوفّر الإجراءات الحمائية التي أقرها البنك المركزي الروسي فعليًا حلاً للروبل. وإذا تمكنت روسيا من التوصل إلى قرار بشأن أوكرانيا يتضمن سحب العقوبات وإعادة العلاقات التجارية مع الغرب، فقد يحتفظ الروبل بقيمته الحالية بمجرد سحب هذه الإجراءات. مع ذلك، إذا وقع رفع الإجراءات دون حل من نوع ما فقد ينهار الروبل مما يضرب الاقتصاد الروسي ويزيد التضخم ويرهق كاهل الشعب الروسي.
في نهاية المطاف، لابد من الإجراءات أو حتى بعضها على الأقل. ومن جانب آخر، لا يمكن للمقترضين الروس الاستمرار في دفع أسعار فائدة تزيد عن 20 بالمئة لفترة طويلة، إذا كان بإمكانهم تصور معدل الفائدة على الاقتراض بهذا الحجم. سيخنق ذلك النمو – إذ من المتوقع بالفعل أن ينكمش الاقتصاد الروسي بأكثر من 8 بالمئة هذا العام – وستتراجع الصناعة.
ربما تكون المخاطر الأكبر هي تلك المرتبطة بحيلة بوتين المتعلقة بالغاز الطبيعي. كما ذكرنا سابقًا، تنص جميع عقود الغاز الطبيعي التي وقّعها المشترون مع روسيا على الدفع باليورو أو الدولار أو العملات الأجنبية الأخرى. ولا يمكن لبوتين أن يشطب “الدولار” أو “اليورو” ويغيّر ما تنص عليه هذه العقود بشأن طريقة الدفع. لهذا السبب، ينبغي إعادة التفاوض بشأن شروط تلك العقود. وإذا فعل ذلك، فمن المحتمل أن هذه الدول ستقلل بشكل كبير من كمية الغاز الطبيعي التي تشتريها من روسيا.
تعتبر روسيا أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، لكنها ليست المصدر الوحيد هناك. وبالتالي، يمكن لمشتري الغاز الروسي التحول إلى موردين جدد. ترسل الولايات المتحدة بالفعل شحنات إلى أوروبا. في الوقت الحالي، هناك حديث عن الإمدادات القادمة من المملكة المتحدة والنرويج وقطر وأذربيجان. كما تدرس “إسرائيل” فكرة خط الأنابيب. لا شك أن الدول التي تشتري كميات كبيرة من الغاز الروسي لا تستطيع أن تفطم نفسها بين عشية وضحاها، لكن إذا أصرت روسيا على اتخاذ هذه الخطوة، فإنها تخاطر بخسارة أكبر مصدر لإيراداتها. باختصار، لا تتمثل المشكلة في إنشاء روسيا مظهرا قويا للعملة في أنها قد تتسبب في انهيارها فحسب، بل قد تدفع بمصير بعض الدول إلى حافة الهاوية معها.
المصدر: الإذاعة الوطنية العامة