شهدت الأيام القليلة الماضية حراكًا إيرانيًا نشيطًا داخل العراق، مستثمرة في ذلك حالة الاعتكاف السياسي التي دخل فيها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر منذ بداية شهر رمضان، في محاولة لإعادة تشكيل الأوضاع بما يخدم مصالحها ونفوذها، فأرسلت مسؤول ملف العراق في الخارجية الإيرانية وسفيرها السابق في بغداد حسن دنائي فر إلى أربيل، للقاء زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، حاملًا معه مبادرة إيرانية جديدة للتوافق الكردي على منصب رئيس الجمهورية.
ومن جهة أخرى عينت إيران سفيرًا جديدًا لها في بغداد، خلفًا للسفير الإيراني السابق إيراج مسجدي الذي فشل في ضبط إيقاع الحالة العراقية في مرحلة ما بعد إغتيال قائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، خصوصًا أنه كان من أكثر الشخصيات الإيرانية المقربة منه والمتوافقة مع سياساته داخل العراق.
لم يتوقف التحرك الإيراني عند هذا الحد، فقد استقبلت إيران في اليومين الماضيين وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ومعه وفدًا أمنيًا رفيعًا، ورغم أن هذه الزيارة كانت من أجل إقناع إيران باستئناف الجولة الخامسة من المحادثات السعودية الإيرانية في بغداد التي توقفت منذ 7 أشهر تقريبًا، فإن إيران حاولت استثمار هذه الزيارة من أجل تمرير العديد من الرسائل إلى الداخل العراقي، وإقليم كردستان تحديدًا، من خلال إعادة الحديث عن إمكانية استهداف أربيل مرة أخرى بالصواريخ، إذا شعرت بأن هناك تهديدًا للأمن القومي الإيراني ينطلق من أراضي الإقليم.
وهي رسائل أكد عليها قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قآني في أثناء حضوره حفلًا تأبينيًا للذكرى الأولى لوفاة نائب قائد فيلق القدس الجنرال محمد حجازي العام الماضي، متأثرًا بمضاعفات جائحة كورونا حسبما أعلن التليفزيون الإيراني.
محاولة إيرانية لترميم أدوراها في العراق
يُعد السفير الإيراني الجديد في بغداد محمد آل صادق أحد أبرز الجنرالات في فيلق القدس الايراني، فهو نجفي المولد ويتقن العربية، وعمل سابقًا في بعض دول الخليج ومنها المملكة العربية السعودية، إضافة لعمله نائبًا أول للسفير الإيراني في العراق، كما عمل مستشارًا لقائد الفيلق إسماعيل قآني، ويُعرف بأنه ظل قآني في بغداد، وأحد أبرز معتنقي ومريدي رؤية سليماني في ترسيخ مركزية الحرس الثوري داخل العراق، إذ يتمتع آل صادق بعلاقات عشائرية وشخصية وثيقة مع العديد من الجهات العشائرية في وسط وجنوب العراق، كما أنه مهندس الدبلوماسية الناعمة للملحقية الثقافية الإيرانية داخل العراق.
تعيين آل صادق يأتي كتحول مهم لتوحيد أصوات الحرس داخل العراق، وتوفير فرصة جديد لقآني للنجاح
بدأ اسم آل صادق يُطرح في أروقة مكتب المرشد بعد إخفاق السفير مسجدي في ضبط الأوضاع داخل العراق بعد اغتيال سليماني، وتصاعد الخلاف بين مسجدي وقآني بشأن العديد من الملفات، أهمها العلاقات مع قادة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، ورغم وجود رغبة من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بتغيير مسجدي منذ فترة قريبة، فإنه على ما يبدو كان ينتظر انتهاء ولايته ليوفر له مخرجًا محترمًا، خصوصًا أنه خلق فجوة كبيرة بين المؤسسات الإيرانية العاملة في العراق، وتحديدًا على مستوى العلاقة بين الحرس الثوري والإطلاعات والخارجية الإيرانية.
وهو ما يشير إلى أن الخطوة الإيرانية الأخيرة بتغيير مسجدي تأتي في سياق تحرك إيراني لإعادة التموضع في الداخل العراقي، وامتصاص حالة الامتعاض من جنرالات الحرس وقادة الفصائل المسلحة، على الأدوار التي كان يقوم بها في الداخل العراقي، إذ أشارت العديد من المصادر الإيرانية إلى أن هناك شكاوى مستمرة قدمها قادة الفصائل المسلحة في العراق إلى مكتب المرشد، بسبب طريقة تعامل مسجدي معهم، بل وكان يتجاوزهم في بعض المواقف الحساسة.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن تعيين آل صادق يأتي كتحول مهم لتوحيد أصوات الحرس داخل العراق، وتوفير فرصة جديد لقآني للنجاح، عبر المجيء بسفير جديد مُقرب منه ويتفق معه على الخطوط العامة في العراق، خصوصًا أن مسجدي حاول خلال الفترة الماضية عرقلة دور قآني من أجل أن يأخذ دور أكبر في العراق، فمسجدي كان من الرافضين لدبلوماسية التهدئة في العراق، وحتى في فتح قنوات الحوار مع السعودية، ودخل بخلافات عديدة مع قادة الفصائل المسلحة، وتحديدًا زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، لذلك فإن عملية تغييره تشير إلى أنها جاءت كإحدى أبرز تداعيات نتائج الانتخابات الأخيرة على الدور الإيراني في العراق.
التحالف الثلاثي يواجه تحديًا إيرانيًا كبيرًا
رغم الجهود التي تبذلها قوى الإطار التنسيقي من أجل تفكيك التحالف الثلاثي بين التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، سواء على مستوى التصعيد الأمني أم التكتيكات السياسية، فإن إيران يبدو أنها لا تعول كثيرًا على هذه الجهود، خصوصًا أنها فشلت في إثناء الصدر عن رغبته في تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية.
كما أن الصواريخ الإيرانية هي الأخرى لم تغير المعادلة كثيرًا، ولم تجعل الصدر يُعيد حساباته، ورغم الجهود التي حاول قآني بذلها، على صعيد إمكانية حلحلة الأزمة داخل البيت الشيعي، حتى لو أدى ذلك إلى الضغط على حلفاء الصدر من الأكراد والسنة، فمن الواضح أن تلك الجهود باءت بالفشل، ما دفع إيران إلى إرسال دنائي فر مرة أخرى.
سيطرة قوة “الميدان” على “الدبلوماسية” ما زالت قائمة وواضحة في التعامل مع التطورات العراقية خصوصًا والإقليمية عمومًا، وهي تظهر واضحة في خطوة استبدال السفير الضابط بآخر جديد
فالحراك الجديد الذي يقوده دنائي فر بين أربيل وبغداد منذ يوم الثلاثاء الماضي، يستهدف بصورة رئيسية تفكيك التحالف الثلاثي، كما أنه يحاول تمهيد عملية انتقالية هادئة بين السفير السابق واللاحق، من أجل تدارك أي مفاجآت قد يقدم عليها الصدر في المرحلة المقبلة، فإيران تدرك جيدًا أهمية الحفاظ على دورها ونفوذها في العراق، وأن تحركات الصدر الأخيرة، فضلًا عن تماسك تحالفه مع السنة والأكراد، ألحقت أضرارًا كبيرةً بالمصالح الإيرانية، إذ لم تعتد إيران على التعامل مع واقع عراقي لا يخدم مصالحها، ولعل هذا ما يفسر حجم انغماسها الكبير في الشأن العراقي في الآونة الأخيرة.
إن عملية تغيير السفير الإيراني في بغداد، في الوقت الذي تشهد فيه إيران تحديات داخلية وخارجية، يشير إلى أن هناك وضعًا غير طبيعي تعيشه إيران في العراق، خصوصًا في ظل الضغوط التي يتعرض لها حلفاؤها، إلا أنه من جهة أخرى يبدو أن إيران بدأت تدرك أن البقاء على ذات النسق السياسي داخل العراق، قد يكلفها المزيد من نفوذها، ليس فقط على مستوى العلاقات مع الأطراف العراقية الأخرى، وإنما على مستوى العلاقات مع حلفائها أيضًا.
فسيطرة قوة “الميدان” على “الدبلوماسية” ما زالت قائمة وواضحة في التعامل مع التطورات العراقية خصوصًا والإقليمية عمومًا، وهي تظهر واضحة في خطوة استبدال السفير الضابط بآخر جديد، وتكليف ضابط غيرهما بالتفاوض مع القوى العراقية بعيدًا عن وزارة الخارجية، وهو توجه قد يكون مدفوعًا بالمعضلة التي تواجهها المفاوضات النووية التي وصلت إلى عقدة التمسك الإيراني بمطلب إخراج الحرس الثوري من لائحة العقوبات والإرهاب، وهي العقدة التي أدخلت المفاوضات في سباق قد يطول، ووضعتها في حالة المراوحة، مع استمرار سيطرة العقلية الأمنية في التعامل مع الحدث العراقي.