ترجمة حفصة جودة
عند دخول مدينة صيدا اللبنانية الجنوبية من الشمال، يحيي الزائرون مسجدًا مزخرفًا يكشف عن العمارة العثمانية، بنى مسجد بهاء الدين الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وسُمي على اسم والده الذي عاش وربى أبناءه الثلاث في تلك المدينة الساحلية.
افتُتح المسجد رسميًا بعد نحو عام من اغتيال الحريري عام 2005، ليقف شاهدًا على وجوده ونفوذ عائلته في صيدا، حيث سيطر اسم الحريري طويلًا على المشهد السياسي هناك.
منذ الانتخابات البرلمانية عام 1992، التي عُقدت بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في 1990، شغلت بهية الحريري شقيقة رفيق الحريري وعمة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، المقعد الذي يمثل المدينة، ولا تزال فيه حتى الانتخابات القادمة يوم 15 مايو/أيار 2022.
لكن في يناير/كانون الثاني، أعلن سعد الحريري تعليق مشاركته ومشاركة حزبه “حركة المستقبل” في السياسة، الذي يعد أكبر كتلة سياسية سنية في تلك البلاد المتنوعة طائفيًا.
نتيجة لذلك، ودعمًا لقرار ابن أخيها، قررت بهية أنها لن تترشح مرة أخرى، ما يحرم المدينة من مرشح عائلة الحريري لأول مرة منذ 3 عقود.
تأتي تلك الخطوة في وقت تشهد فيه البلاد ثورةً واضطرابًا هائلًا بعد سنوات من الأزمة الاقتصادية التي دفعت جزءًا كبيرًا من البلاد نحو الفقر وما زالت، ثم تفاقمت مع انفجار مرفأ بيروت المدمر في أغسطس/آب 2020 والحرب في أوكرانيا التي كان لها تأثير هائل على واردات الغذاء.
صاحب قرار الحريري بتعليق النشاط السياسي تعليمات واضحة لأعضاء كتلته البرلمانية، بأن على من يرغب في الترشح للانتخابات القيام بذلك مستقلًا دون الارتباط بحزب المستقبل
وسط ذلك كله، تقف الطبقة السياسية على خط النار، حيث تُلام المحسوبية والفساد في تلك النخبة على مشاكل البلاد.
المشاركة المستقلة
صاحب قرار الحريري بتعليق النشاط السياسي تعليمات واضحة لأعضاء كتلته البرلمانية، بأن على من يرغب في الترشح للانتخابات القيام بذلك مستقلًا دون الارتباط بحزب المستقبل.
أعلن سامي فتفت – أصغر نائب في البرلمان الحاليّ وجزء من الكلتة البرلمانية لحركة المستقبل – أنه سيترشح للانتخابات في المنطقة الشمالية الثانية من لبنان التي تضم طرابلس والمنية وسير الضنية، رغم قرار قائده.
قال فتفت إن رئيس الوزراء السابق سعد الحريري التقى بأعضاء كتلته البرلمانية بعد قراره، وأخبرهم أنه لن يعارض قرار ترشح أحدهم في الانتخابات، لكن لا بد من الاستقالة من الحزب قبل القيام بذلك.
يضيف فتفت “كان الحريري واضحًا تمامًا في الاجتماع الأخير، ونصح كل فرد بتقييم موقفه الخاص في مقاطعته الانتخابية وهذا ما فعلته، لقد قررت أنني لن أقبل بمغادرة منطقتي وتقديم نصر ساحق لمنافسنا حزب الله”.
ورغم تنبؤ بعض المعلقين بأن إعلان الحريري يعني نهاية مسيرته السياسية، فإن فتفت يرى أن الحياة ما زالت تدب في تلك الأسرة الحاكمة، فيقول: “لقد علق الحريري نشاطه السياسي فقط ولم يتقاعد”.
قبل وقت طويل من انسحاب الحريري من الحياة السياسية، بدأ رئيس قوات الأمن الداخلي السابق أشرف ريفي بالابتعاد عن الحريري، حليفه السابق، وفي الانتخابات العامة 2018 ترشح ريفي ضد قائد حزب المستقبل في طرابلس عاصمة الشمال.
رغم عدم مشاركة الحريري في الانتخابات القادمة بشكل مباشر، سيراقبها عن كثب، لأن النتائج سيكون لها تأثير حاسم على مستقبله السياسي
اليوم، يعوّل ريفي على أصوات الحزب المنقسمة لتأمين مقعده البرلماني، مع تقارير غير مؤكدة تفيد بدعم سعودي لقائمته، ستكون طرابلس موطنًا أيضًا لقائمة منافسة مدعومة من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي.
رغم قرار ميقاتي بعد الترشح في الانتخابات والبقاء بعيدًا كرئيس للحكومة، تشير التقارير الأولية إلى أنه سيكون قادرًا على تأمين نفس عدد المقاعد التي نجح في الحصول عليها في 2018.
وبينما يتنبأ بعض الخبراء بأن الفراغ السياسي الذي سيتركه الحريري سيمتلئ بقادة محليين، يرى آخرون أن قراره مناورة سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل نتائج الانتخابات وبالتالي الضغط على الرياض.
مسرحية القوة السعودية
يقول حسين أيوب – المحلل السياسي ورئيس تحرير الموقع الإخباري “180post” -: “رغم عدم مشاركة الحريري في الانتخابات القادمة بشكل مباشر، سيراقبها عن كثب، لأن النتائج سيكون لها تأثير حاسم على مستقبله السياسي”.
يرى أيوب أن تعليق الحريري لحملته السياسية محاولة أخيرة لإثبات جدارته بالحصول على رعاية سعودية، بعد أن أنهت دعمه في السنوات الأخيرة، ويقول: “رهان الحريري في الانتخابات القادمة يعتمد على عرض ما قد يحدث لأصوات السنة عند غيابه سياسيًا، للسعودية”.
ويضيف “يحاول الحريري أن يُظهر للسعودية أن غياب حركة المستقبل عن المشهد سيتسبب في زيادة مقاعدة عدو السعودية الرئيسي: حزب الله”.
دعم العديد من أفراد البرلمان التابعين لحركة المستقبل قرار قائدهم واختاروا تعليق مشاركتهم في الانتخابات القادمة.
لم يكن لقرار الحريري التأثير المُنتظر الذي اعتقده البعض، بما في ذلك تأجيل الانتخابات
لكن بينما لم تتبن صيدا – موطن الحريري – أي مرشح قريب من دائرته السياسية، كانت بيروت مختلفة، فالكثيرون يرون أن فؤاد السنيورة – رئيس الوزراء السابق وحليف الحريري لفترة طويلة حتى إنه يُعتبر معلمًا له – يرتدي عباءة الحريري في الانتخابات القادمة.
ولأنه لا يستطيع دعم قائمة مرشحين في صيدا – موطنه أيضًا – أعلن السنيورة دعمه لقائمة مرشحين في بيروت، وبينما كان السنيورة الشخصية السياسية الوحيدة التي دُعيت لمائدة الإفطار السعودية، يرى الكثيرون أن تلك القائمة هي القوة الأساسية للسياسيين السنة المدعومين من السعودية في البلاد.
لا زلزال سياسي؟
يقول محمد شمس الدين – الباحث في شركة “Information International” للاستشارات – إنه بعد 3 أشهر من قرار الحريري، لم يكن الزلزال السياسي المتوقع إلا مجرد نسمة سياسية، ويضيف “في الانتخابات البرلمانية عام 2018، كان مرشحو السنة 304، واليوم ارتفع عددهم إلى 311، هذا الرقم وحده يعكس عدم وجود مقاطعة سنية بعد قرار الحريري”.
يقول شمس الدين إنه رغم قرار العديد من الشخصيات السنية البارزة بعدم الترشح للانتخابات، فإن المؤثرين الدينيين والسياسيين السنة لم يدعوا لمقاطعة الانتخابات، وهكذا فمن المتوقع أن تظل نسبة المشاركة السنية – التي تمثل 44% من الأصوات التي كانت صالحة للتصويت في 2018 – كما هي هذه المرة بنسبة كبيرة.
يضيف شمس الدين “لم يكن لقرار الحريري التأثير المُنتظر الذي اعتقده البعض، بما في ذلك تأجيل الانتخابات، لكن غياب الأصوات السنية الموحدة في بعض المناطق التي كانت تدعمه، ومع وجود العديد من القوائم المنافسة للمقاعد والأصوات السنية، فإن حزب الله وحلفاءه بكتلتهم التصويتية الموحدة قد يكون لهم الصوت البديل الذي سيقرر الخريطة الانتخابية للسنة في الانتخابات القادمة”.
المصدر: ميدل إيست آي