اتساع الهوة بين السلطة في تونس والمعارضة ستكون السمة البارزة قادم الأيام بناءً على ما يحدث، فالوضع يتجه نحو مزيد من التعقيد، في الوقت الذي حذرت فيه مجموعة الأزمات الدولية من إمكانية دخول البلاد في فوضى نتيجة الوضع السياسي المتفاقم، يزيده الوضع الاقتصادي والاجتماعي قتامة مع اتساع دائرة الأزمة الغذائية، بالتزامن مع قرب المحطات المهمة في خريطة طريق الرئيس المرفوضة من المعارضة، واتجاه الأخيرة نحو توسيع مشاوراتها لإحداث قطب حقيقي يشكل جبهة سياسية مقابلة لمشروع الاستيلاء على مؤسسات الدولة، وهو ما اعتبرها الرئيس محاولة انقلابية، مطالبًا النيابة العمومية بالتدخل، وسط موقف دولي يكتنفه الغموض.
“نفاق” الموقف الدولي
رغم اتفاق كل النخب في تونس على أن ما قام به الرئيس سعيد منذ 25 يوليو/تموز الماضي مخالف للدستور ولا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال تطبيقًا للفصل 80، ورغم كل الانتقادات الدولية، فإن حالة من الغموض ما زالت تكتنف الموقف الحقيقي لبعض الدول الكبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاملت بحذر مع الأحداث منذ البداية ولم يتجاوز موقفها التعبير عن القلق.
ورغم بعض الضغوطات من أعضاء الكونغرس الأمريكي على إدارة الرئيس بايدن، فإن الأمر لم يصل حد التنديد بما قام به سعيد أو وصفه بالانقلاب، بل إن أقصى فعلته إدارة الرئيس الأمريكي هو اقتراح تخفيض المساعدات العسكرية الأمريكية للجيش التونسي إلى النصف.
في المقابل يؤكد السفير المتخلي دونالد بلوم عن وقوف الولايات المتحدة الأمريكية الدائم مع الشعب التونسي ويجدد دعوته إلى عودة المسار الديمقراطي في تونس، مؤكدًا على مواصلة الدعم الأمريكي للتونسيين.
من جهة أخرى يبدو أن الموقف الفرنسي الذي كان منذ البداية مساندًا للرئيس سعيد، لم يتغير كثيرًا مع التأكيد في كل مناسبة على ضرورة الحوار الداخلي مع كل الأطراف الأساسية من أجل العودة إلى مؤسسات الدولة المنتخبة، لا سيما بعد الإعلان الرسمي عن حل البرلمان التونسي قبل أيام.
ولا يخفى على المتتبعين للشأن التونسي استغلال كل من إيطاليا وفرنسا لخرق الرئيس سعيد للدستور، من أجل مساومته في ملف المهاجرين غير الشرعيين، ما أدى إلى موافقة السلطة التونسية بإعادة أعداد كبيرة منهم إلى البلاد، وهو ما رفضته دول أخرى مثل الجزائر، وفيه خرق واضح لحقوق المهاجرين.
كما عمل وزير الخارجية عثمان الجرندي مؤخرًا على احتواء قلق سفراء مجموعة السبع بعد حل البرلمان، مؤكدًا لهم أن الديمقراطية في تونس مسألة محسومة، وإقدام الرئيس على حل البرلمان رسميًا خيار ضروري من أجل مصلحة البلاد العليا.
غير أن الموقف التركي الأكثر وضوحًا كان عندما عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قلقه إزاء حل البرلمان وقال إنه قرار يخالف الإرادة الشعبية التونسية، ما أثار موجة من ردود الفعل وصفها بعض الخبراء بأنها كانت تتسم بالمبالغة والتهويل، عندما استدعت الخارجية التونسية السفير التركي للتعبير عن رفضها لتصريح أردوغان واتصال وزير الخارجية الجرندي بنظيره التركي للتعبير عن ذلك، فيما قال الرئيس سعيد إن تونس ليست إيالة ولا تنتظر “فرمانًا” من أحد، بينما استقبل بعدها مبعوث الرئيس الفرنسي جيل كيبل في توقيت مثير للجدل بالتزامن مع الانتخابات الفرنسية.
أما الزيارة الأخيرة لوفد البرلمان الأوروبي لتونس، فلم تختلف مخرجاتها كثيرًا عن المواقف والبيانات السابقة للمجموعة الدولية على رأسها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة السبع، رغم أن الوفد تمكن من مقابلة رئيس البرلمان ونائبيه بعد لقائه برئيس الجمهورية.
وكان أهم ما أوصى به الوفد ضرورة توحيد الجهود من أجل حوار وطني يشمل كل الأطراف لتتجاوز البلاد أزمتها الراهنة خاصة على المستوى الاقتصادي، رغم أن الوفد كان متيقنًا من صعوبة إرساء هذا الحوار في ظل تعنت الرئيس وتشبثه برأيه ومخرجات الاستشارة الإلكترونية التي يعتبرها التونسيون فاشلة ولا تعبّر عن رؤية التونسيين لمستقبل بلدهم.
بيد أن حالة التذبذب والغموض أحيانًا في التعاطي الدولي مع الأزمة التونسية التي تصل أحيانًا إلى النفاق والازدواجية وعدم الجديّة، يبدو أنها زادت من ثقة قيس سعيد في نفسه وجعلته يواصل سياسة الانفراد بالحكم وخطابه الهجومي ضد معارضيه.
معارضة مشتتة
ضمن هذا الوضع لا تزال قوى المعارضة متصدعة وتشكو من حالة التشتت التي تخدم المضي قدمًا في الإجراءات الاستثنائية لرئيس الجمهورية رغم الرفض الواسع لحالة الانقلاب الدستوري، فكل لا يرى المسألة إلا من منظوره الحزبي الضيق، بناءً على موقفه الأول من إجراءات الرئيس، رغم أن بعض الأحزاب كانت مع مطلق التأييد للرئيس من ذلك حزب التيار الديمقراطي، خاصة من خلال مواقف بعض قادته التي بدأت تتغير بشكل كبير لصالح مراجعات تنقذ البلاد مما آلت إليه.
ومع مضي قرابة تسعة أشهر؛ بدأت بعض القوى الحزبية تستشعر نوايا الانقلاب، من خطورة إقصائها من المشهد بعد أن كانت تعتقد أن الانقلاب قد يحقق مناها وغاياتها التي تكنها لأحزاب ترغب أو تعمل بكل قواها منذ فترة على إزاحتها من المشهد، وهنا يبدو موقف رئيسة الحزب الحر الدستوري عبير موسي واضحًا، لكن رياح القصر الرئاسي تجري بما لا تشتهي سفن موسي، لذلك بدأت في التهديد والوعيد مؤخرًا بالزحف على القصر لإنقاذ تونس من حالة الاختطاف ومن “مخطط الخراب 2″، بحجة أن الرئيس اخترق الدستور، لكأنها مجندة للدفاع عن دستور الثورة والهيئة الانتخابية التي أفرزتها الثورة – التي دعتها مؤخرًا لرفض مشروع سعيد الانتخابي -، التي تعمل في آن على هدم هذه المؤسسات ومهاجمتها ليلًا نهارًا، في تناقض صارخ لأحد مكونات ما يسمى بالنخبة الحزبية.
في الجهة المقابلة، يعمل بدوره حراك “مواطنون ضد الانقلاب”، كأول فصيل مدني عارض الانقلاب الدستوري على التحرك أكثر ميدانيًا ومن حيث تركيبته، خاصة بعد أن أعلن عن “المبادرة الديمقراطية” للانفتاح على مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي، ولئن نجحت إلى حد بعيد في إظهار قدرتها على تعبئة الشوارع ضد قيس سعيد، فإن فعلها السياسي لا يزال أقل من سقف الانتظارات، ولعل برنامجها الأخير بشأن توسيع المبادرة إلى جبهة وطنية، يصب في هذا الإطار، وهو خلق قطب قوي، يبدو أنه سِنام القوة المقابلة للانقلاب.
كل ذلك يمكن تلخيصه فيما ذهب إليه رئيس حزب أمل المعارض المخضرم نجيب الشابي، من الدعوة إلى تأسيس “جبهة إنقاذ” للتسريع نحو انعقاد مؤتمر واتخاذ الخطوات المناسبة لإنقاذ الوضع وعدم الانتظار وإهدار الوقت، وهو نفس المطلب الذي دعا إليه الحزب الجمهوري بتشكيل قوة سياسية توحد الديمقراطيين وتعيد المؤسسات.
وبالتالي تبقى حاليًّا، كل تلك الآراء مجرد تخمينات لم ترتق إلى درجة تشاور فعلي بين مجموعات رافضي الانقلاب لبلورة المقترحات في تكتل واحد، ولعل الوعي بهذا جعل بعض الشخصيات تتحدث مؤخرًا عن قرب انطلاق مشاورات جدية ومباشرة لجمع الفرقاء بعد عيد الفطر في جبهة واحدة.
الحوار.. مع “الصادقين”
في الأثناء، أطلق رئيس الجمهورية النار على مساعي المعارضة لتأسيس حكومة إنقاذ وطني كما أسماها، واصفًا ذلك بالعملية الانقلابية ومطالبًا النيابة العمومية بالتدخل، وهي مواقف تبدو مستغربة في ظل سيطرته على كل السلطات، لكأنها “لم تعد كافية”، كما جاء في تعليق رئيس حزب العمال حمة الهمامي الذي اتهم سعيّد بالرغبة في التخلص من المعارضين وإيداعهم في السجن.
كما لا يزال سعيد يصر في كل مرة أن الحوار المنتظر من أشهر لن يكون إلا مع الصادقين، إلا أن هذا الوصف لا يمكن أن يدل إلا على من يوافق الرئيس في سياسته، عكس ما ينتظره الجميع في الداخل والخارج وهو أن يكون الحوار شاملًا ويحتوي كل الطيف السياسي والنقابي بالبلاد، حتى أولائك الذين يعارضون سعيد وينتقدونه ويرفضون إجراءاته، في مقدمتهم حركة النهضة.
إلا أن مثل هذا الحوار، لا يبدو أنه سيتحقق قريبًا مع إصرار سعيد على أن الحوار سوف يكون مع فئة معينة من المجتمع، ولن يشارك فيه “المتآمرون” على الدولة في إشارة إلى أحزاب الكتل البرلمانية، التي نظم نوابها مؤخرًا جلسة عامة افتراضية، أعلنوا فيها انتهاء العمل بالتدابير الاستثنائية للرئيس.
من جهة أخرى نفى قادة الاتحاد التونسي للشغل أن يكون لقاؤهم الأخير بالرئيس، في اتجاه التحضير للحوار الوطني المرتقب، ولا يزال يشدد على أن الأحزاب السياسية لا بد أن تكون جزءًا من هذا الحوار الذي قد يكون الطريق الوحيد لتحقيق وحدة وطنية وحلًا للأزمة غير المسبوقة التي تعاني منها البلاد اليوم في ظل تدهور اقتصادي كبير وحالة شبه إفلاس تسيطر على الاقتصاد الوطني.
في ذات الوقت، ورغم التتبعات القضائية لنواب البرلمان من أجل تهم تتعلق بـ”التآمر على أمن الدولة”، تصر رئاسة البرلمان التونسي على أن البرلمان لا يزال قائم الذات وفي حالة انعقاد دائم، ولا أدل على ذلك من تصريحات سميرة الشواشي نائب رئيس المجلس، أن النواب سوف يستأنفون قريبًا جلسات البرلمان عن بعد، رغم كل التهديدات والتهم الخطيرة الموجهة إليهم، التي تصل عقوبتها حد الإعدام وفق القانون التونسي.
تخيّم الأزمة الاقتصادية وترهق المواطنين وتأخذ البلاد بعيدًا إلى نقطة اللاعودة حيث احتدام الصراع وتنازع السلطات بين سلطة الأمر الواقع وسلطة برلمانية منتخبة لكنها ضعيفة
غير أن القضاء التونسي على ما يبدو لا يزال رافضًا للخضوع لسلطة سعيد ووزيرة العدل التي نصبت نفسها رئيسًا للنيابة العمومية، في محاولة منها للضغط على القضاة من أجل اتخاذ إجراءات صارمة ضد النواب واستصدار أحكام بالسجن ضدهم.
وعلى ضوء كل هذه المعطيات لا يبدو أن الأزمة في تونس على أبواب الحلحلة، إذ يصر الرئيس من جهة على التفرد بالسلطة ويسعى إلى تغيير نظام الحكم والانتخابات وفرض استفتاء على ذلك بحلول يوليو/تموز المقبل، ويصرّ رئيس البرلمان وأغلبية نوابه على المضي قدمًا من أجل إجبار الرئيس على الحوار والعودة إلى النظام الدستوري بأخف الأضرار.
وبين هذا وذاك، تخيم الأزمة الاقتصادية وترهق المواطنين وتأخذ البلاد بعيدًا إلى نقطة اللاعودة حيث احتدام الصراع وتنازع السلطات بين سلطة الأمر الواقع وسلطة برلمانية منتخبة، لكنها ضعيفة.