جيلًا عن جيلًا، ورثت فلسطين الكثير من عاداتها وتقاليدها عن الأمم السابقة التي حكمتها، لا سيما الفاتحين الذين قادوا حملات تحريرها من الغزاة وكانت قيمهم وثقافتهم العامة تتسق مع أهل الأراضي المقدسة، فأورثوهم الكثير من العادات والعمران والتقاليد. ولعل من أبرز الفعاليات القديمة التي لاتزال تحافظ على رونقها التاريخي ومنفعتها الاجتماعية في آن، هي التكايا، رغم دخول الكثير من التغييرات على شكلها وعمرانها على مرّ الأزمنة، إلا أن دورها ما زال حاضرًا حتى اليوم.
وترجع نشأة التكايا إلى العصر العثماني، سواء في الأناضول أو الولايات التابعة للدولة العثمانية ومنها فلسطين، بهدف إقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة ومساعدة عابري السبيل آنذاك، لكن اليوم اقتصر عملها على إطعام الفقراء وإيصال الوجبات الشعبية المجانية إلى بيوتهم، خاصة في شهر رمضان أو كل يوم جمعة، حسب الميزانية المتاحة لكل تكية.
في هذا التقرير، نحاول التعريف بأبرز التكايا التي لا تزال تعمل على تقديم الخدمة والمعونة للأهالي المحتاجين في الأراضي الفلسطينية.
أبرز تكايا فلسطين القديمة
تكية خاصكي سلطان
أُنشئت على يد روكسلانة الروسية، زوجة السلطان العثماني سليم القانوني، عام 1552، وتقع التكية في مدينة القدس في عقبة التكية المعروفة باسم عقبة المفتي، شرق دار الأيتام الإسلامية.
هذه التكية كانت أول مبادرة للعمل النسائي في فلسطين، حين أرادت زوجة السلطان القيام بعمل إنساني في القدس، فقررت إطعام 1000 فقير يوميًّا، عدا عن أنها أوقفت أراضي زراعية في الضفة للحصول على الخضار والقمح لإعداد الأطعمة.
وكانت تقدِّم الدجاج يومًا واللحمة والشوربة يومًا آخر، ولا تزال القدور التي كان يُطهى فيها الطعام موجودة في المتحف الإسلامي بالمسجد الأقصى.
تكية إبراهيم عليه السلام في الخليل
أُنشئت زمن صلاح الدين الأيوبي في مدينة الخليل بعد فتح بيت المقدس، وتحديدًا في عام 1187، لتقديم الطعام المجاني للضيوف والزوّار والمحتاجين، وعُرفت الخليل أنها “المدينة التي لا يبيت فيها جائع”.
ومنذ ذلك العهد حافظَ أهل المدينة على الوقفية، ولا تزال تقدِّم الطعام يوميًّا لقاصديها من الفقراء، وغيرهم من الراغبين في تذوق طعام الوقفية المنسوبة إلى أبي الضيفان إبراهيم عليه السلام.
وتعدّ تكية خليل الرحمن، كما يسمّونها اليوم، الوحيدة التي تقدِّم الطعام على مدار العام في فلسطين، حيث تقدِّم شوربة الجريشة يوميًّا والمكوّنة من القمح المجروش، بينما تختلف الأصناف في شهر رمضان، حيث الوجبات تتضمن اللحم والدجاج مع الأرز، وتقدِّم في الأيام الأولى من شهر رمضان ما يزيد على 1000 وجبة يوميًّا، وقد تصل إلى 3 آلاف وجبة مع نهاية شهر رمضان المبارك.
وتاريخيًّا، وكما هو موثَّق، أُزيلت التكية وملحقاتها عام 1964 ضمن مشروع إزالة الأبنية من حول المسجد، ونُقلت بعد ذلك إلى مكان مؤقّت بجانب بركة السلطان في المدينة، وفي بداية عام 1983 شيّدَت الأوقاف مبنى جديد للتكية بجانب المسجد من الجهة الشمالية وبُدئَ العمل فيها عام 1984، وتمَّ تجهيز وتزويد هذا المبنى بكل ما يلزم التكية.
تكية سيدي شيبان
نسبة إلى سيدي شيبان الواقع ضريحه في مدينة البيرة (منطقة جبل الطويل)، ويُقال إنه رجل صالح وله كرامات، واسمه محب الدين أو مجد الدين (عبد الملك أبو بكر الموصلي)، جاء إلى فلسطين عام 1440، أي بداية الفترة العثمانية.
ولأن سيدي شيبان له كرامات، كان أهالي البيرة بعد وفاته يذهبون حيث ضريحه لإعداد الطعام هناك، وإقامة طقوس أخرى للتبرُّك.
وتعمل هذه التكية على مدار العام، حيث تعتمد على التبرعات التي تقدَّم من أهل الخير في المدينة، ومع ذلك لا يقتصر تقديم الطعام على فقراء البيرة، بل يصل إلى مدن وقرى الضفة المحتلة، حيث تُرسل الوجبات إلى بيوت.
كما تتميّز تكية سيدي شيبان بأنها تقدم وجبات الطعام أيضًا للأغنياء، وذلك لتشجيعهم على إطعام الفقراء والأيتام.
تكية فاطمة خاتون
أنشأتها حفيدة السلطان قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك، وزوجة لالا مصطفى باشا من رجالات العثمانيين، وقد بنت في جنين جامع جنين الكبير، وأقامت تكية بجواره تقدِّم الطعام والمأوى للأغراب والمسافرين والمعتكفين.
تكيتان قديمتان في غزة، هما تكية عبد العظيم وتكية مرغان
شُيِّدتا زمن العثمانيين أيضًا فترة حاكم الولاية حسين باشا، وكانتا بمنتصف المدينة بجوار بعضهما.
تغييرات طرأت على شكل التكايا
ومع مرور السنوات تغيّرت أشكال التكايا وباتت موجودة في كل بلدة وقرية، وانبثقَ عنها ما يُعرف اليوم بـ”لجان الزكاة” وموائد الرحمن التي تنشط خاصة في شهر رمضان، ويُقبل عليها الفقراء والمرضى من كل مكان.
في القدس، ومنذ 7 سنوات، يواصل عيسى القواسمي مبادرته “في بيت أمي” لإعداد الطعام للمرضى ومرافقيهم داخل مستشفيات القدس، وتحديدًا في شهر رمضان.
يوضّح القواسي أن تسمية مبادرته “في بيت أمي” كون الطعام يُطهى برفقة طبّاخين مهرة في منزل والدته التي كانت تساعده قبل مرضها، عدا عن زوجته وابنته وشقيقاته اللواتي يساعدنه، مشيرًا إلى أن المال الذي يشتري فيه مكوّنات الطعام هو تبرعات يجمعها عبر صفحته على فيسبوك من أصدقائه ومعارفه في الخارج.
ويذكر لـ”نون بوست” أن الأطعمة التي تجهَّز ليست العادية كالأرز والجريشة، بل وجبات يصفها بالفاخرة كالسلمون والدجاج المطهو بطريقة غربية، أو ستيك اللحم المشوي وبجانبه الخضار وقطع الفاكهة والحلوى، مشيرًا إلى أن تكلفة الوجبة الواحدة تتعدى الـ 30 دولارًا.
وبحسب متابعته، فإن أهل الخير يتبرعون لإعداد وجبات للمرضى حفاظًا على كرامة المتلقي، خاصة أنها تصلهم دون الانتظار في طوابير والتقاط الصور لهم.
وفي مبادرة أخرى، وهي “مائدة الجديرة” المقامة في الجديرة إحدى قرى القدس، أنشئت منذ 4 سنوات وتعمل في الأيام العادية وخاصة نهاية الأسبوع، كذلك ساهمت في إعداد الطعام لثوّار قرية بيتا المرابطين على جبل صبيح الذي يحاول المستوطنون الاستيلاء عليه.
تقول عبير قاسم، إحدى مؤسسي “مائدة الجديرة”، إن العاملين هم مجموعة متطوعين، يوجد بينهم أسرى محرّرون يساهمون في الطهي والتغليف والتوزيع، معتبرة أن عملهم نوع من المقاومة الشعبية، خاصة لطرقهم أبواب الفقراء في أماكن بعيدة من قرى القدس، بعدما يقطعون عدة حواجز عسكرية تتبع لشرطة الاحتلال الإسرائيلي.
وذكرت لـ”نون بوست” أن تجّار قرية الجديرة ومعارفهم من الأغنياء يأتون بالمال أو الخضار واللحوم، لطهي الوجبات وتوزيعها على فقراء الضفة المحتلة، مبيّنة أن لديهم قائمة تحتوي على أرقام المحتاجين يتواصلون معهم قبل توزيع الوجبات.
وبسبب الوضع الاقتصادي السيّئ الذي يعيشه أهالي الضفة، فإن “مائدة الجديرة” تستهدف ولأول مرة الموظفين الذين لا يتقاضون إلا القليل من رواتبهم، بالإضافة إلى أن الفئة المستهدفة بالأساس هم الأيتام والأرامل والمطلقات اللواتي يعلنَ أسرهن.
كما يرفض القائمون على “مائدة الجديرة” أن يصطفَّ المحتاجون بطوابير للحصول على وجباتهم، لذا يطرقون أبوابهم تجنُّبًا لإحراجهم، كما يحاولون، كحال الكثير من لجان الزكاة أو التكايا الحديثة، إضافة الحلوى والفاكهة إلى جانب الوجبات التي توزَّع.
ومن الواضح أن انتشار التكايا وموائد الرحمن في المدن والقرى الفلسطينية دليل على إقبال ميسوري الحال على عمل الخير، وشعورهم بالفقر والفقراء الذين زادت نسبتهم في المجتمع الفلسطيني نظرًا إلى قلّة الرواتب والبطالة وتردي الأوضاع الاقتصادية.