تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاتها المستمرة داخل مدينة القدس المحتلة لليوم الثالث على التوالي، حيث اقتحمت ساحات المسجد الأقصى للمرة الثالثة خلال الساعات القليلة الماضية، واعتدت على المصلين والمعتكفين، ما أسفر عن وقوع عشرات الإصابات، بعضها في حالة حرجة.
وتحاول شرطة الاحتلال إخلاء ساحات المسجد من المصلين تمهيدًا لاقتحام المستوطنين اليهود لممارسة طقوسهم الاحتفالية احتفاءً بعيد الفصح (البيسح) الذي بدأ في 15 أبريل/نيسان الحاليّ ولمدة 7 أيام كاملة، يتخللها مخطط ذبح القرابين وإراقة الدماء داخل المسجد أو عند أسواره.
استخدم أمن الاحتلال الهراوات والرصاص المطاطي والقنابل الصوتية في ترهيب المصلين، غير أن التصدي البطولي للمرابطين أجهض تلك المحاولات التي استمرت أكثر من 3 ساعات كاملة، قبل أن تضطر القوات المحتلة إلى الانسحاب ومعها عشرات المستوطنين الذين كانوا يعدون العدة للاقتحام.
أسفرت تلك المواجهات عن اعتقال أكثر من 475 شخصًا داخل الحرم القدسي، وهو أعلى رقم من المعتقلين خلال السنوات الماضية بحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت“، فيما أطلق سراح غالبيتهم وظل الآخرون قيد الاعتقال حتى الساعة، وسط احتقان شعبي كبير وتحذيرات متتالية من السلطة والمقاومة لتجنب الولوج في مستنقع المواجهة الدامية مرة أخرى.
تصعيد إسرائيلي
تمارس حكومة الاحتلال تصعيدًا لافتًا للنظر في الضفة خلال الأيام الأخيرة ردًا على عمليات المقاومة التي نفذها عدد من الشباب الفلسطيني في الداخل المحتل وأسفرت عن مقتل العديد من المستوطنين وبعض رجال الشرطة الإسرائيلية، غير أن تجاوز الخطوط الحمراء داخل ساحات المسجد الأقصى يأتي على خلفية دعوات جماعات الهيكل المزعوم اقتحام المسجد وذبح قرابين عيد الفصح، وهو ما رفضه المرابطون شكلًا ومضمونًا.
رئيس الوزراء الإسرائيلي رغم نفيه قبل أيام مخطط القرابين، عاد اليوم بتصريحات مستفزة حين أشار إلى أحقية أي شخص بالدخول للمسجد الأقصى والصلاة فيه، في إشارة إلى المستوطنين، وهي التصريحات التي رفضتها السلطة الفلسطينية واعتبرتها شرعنة رسمية لعمليات الاقتحام رغم تداعياتها على حياة الطرفين، المستوطنين والمصلين.
الاستفزازت الإسرائيلية أثارت حفيظة الشارع الفلسطيني الذي خرج في تظاهرات عدة رفضًا لتلك الانتهاكات، ما أجبر جيش الاحتلال على تعزيز نشر منظومات القبة الحديدية في الجنوب، خشية إطلاق صواريخ من غزة، حسبما قالت هيئة البث الإسرائيلية.
وردًا على اقتحامات الأقصى الأخيرة علقت القائمة العربية الموحدة مشاركتها في الحكومة الائتلافية بقيادة نفتالي بينيت، محذرة في بيان لها أنه “في حال استمرت الحكومة في خطواتها التعسفية بحق القدس وأهلها.. فإنّنا سنقدم استقالةً جماعيةً”، وهي الخطوة التي ربما تضع الحكومة في مأزق لا سيما بعد خسارتها للأغلبية عقب استقالة نائبة يهودية قبل أيام.
إدانة وشجب
حمّلت الرئاسة الفلسطينية حكومة الاحتلال مسؤولية التصعيد الأخير، داعية الخارجية الأمريكية إلى الخروج عن صمتها والتدخل الفوري لوقف تلك الانتهاكات التي حذرت من أنها ستشعل المنطقة بأسرها حال استمرارها في ظل الغضب الذي يخيم على الشارع الفلسطيني.
كما أجرى رئيس السلطة محمود عباس أبو مازن عددًا من الاتصالات مع بعض قادة وزعماء العالم لمناقشة التطورات الأخيرة، أبرزها مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي أكد – وفق وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) – أنه سيجري اتصالات مع الأطراف المعنية لوقف العدوان، في إشارة إلى الجانب الإسرائيلي، مؤكدًا أن بلاده تدعم حق الشعب الفلسطيني دائمًا.
تدعو فصائل المقاومة أهالي القدس وبقية الشعب الفلسطيني للاحتشاد داخل المسجد وزيادة عدد المرابطين بداخله خلال الساعات القادمة، لحمايته من أي اعتداءات قادمة
من جانبه طالب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بوقف الإجراءات الاستفزازية الإسرائيلية في المسجد الأقصى، مع احترام الوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس، موجهًا – في بيان للديوان الملكي – حكومة بلاده باستمرار اتصالاتها وجهودها الإقليمية والدولية لوقف انتهاكات قوات الاحتلال، مطالبًا بضرورة بلورة موقف دولي موحد للضغط على الحكومة الإسرائيلية.
البيان أكد أن حماية القدس ستبقى أولوية دينية بالنسبة للحكومة الأردنية، وأن عمان ستواصل جهودها للحفاظ على الأماكن المقدسة وهويتها العربية الإسلامية والمسيحية، منوهًا أن التهدئة الشاملة تتطلب احترام حكومة الاحتلال لوضعية المدينة المقدسة وإيجاد أفق سياسي يلبي حقوق الشعب الفلسطيني على أساس حل الدولتين.
المقاومة تحذر
من جانبها، حذرت فصائل المقاومة من تداعيات الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة التي قد تدفع الأوضاع إلى الانفجار الشامل كما جاء على لسان رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية الذي قال: “الدفاع عن المسجد سيتواصل في معركة مفتوحة مع المحتلين ستحسم لصالح الشعب الفلسطيني”، فيما حمل الناطق باسم الحركة، حازم قاسم، الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية الاعتداء على المعتكفين والمصلين داخل المسجد الأقصى المبارك، مؤكدًا أن المقاومة لن تنأى بنفسها عن نصرة المسجد وأسلوب الرد لا حدود له.
أما حركة الجهاد الإسلامي وعلى لسان القيادي خالد البطش، فدعت أهالي القدس وبقية الشعب الفلسطيني للاحتشاد داخل المسجد وزيادة عدد المرابطين بداخله خلال الساعات القادمة، لحمايته من أي اعتداءات قادمة، وهي الدعوات التي لاقت قبولًا كبيرًا لدى الشارع الفلسطيني رغم القيود والتضييقات الأمنية الإسرائيلية.
بدوره وصف الناطق باسم حركة التحرير الوطني (فتح) حسين حمايل ما يحدث داخل المسجد بأنه ينم عن “العقلية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية”، مشددًا خلال مداخلة له على قناة “الجزيرة” أن الحركة وبقية فصائل المقاومة ستتصدى بكل إمكاناتها المتاحة لتلك الاعتداءات في ظل صمت المجتمع الدولي ومحاولة دولة الاحتلال “جرّ المنطقة إلى حرب دينية”، على حد قوله.
الوساطة المصرية في مأزق
يتزامن التصعيد الإسرائيلي مع جهود الوساطة التي تبذلها بعض القوى الإقليمية ذات العلاقات الجيدة مع الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، تجنبًا لخروج الوضع عن السيطرة بما يدفع نحو حروب ومواجهات عسكرية جديدة قد لا تتحملها المنطقة في ظل التموجات الإقليمية والدولية التي تشهدها مؤخرًا.
فبجانب التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي بشأن التواصل مع طرفي الأزمة، زار وفد من المخابرات المصرية برئاسة نجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي “إسرائيل” خلال الساعات الماضية حسبما نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في تقرير لها أمس الأحد 17 أبريل/نيسان 2022.
الصحيفة وغيرها من وسائل الإعلام العبرية قالت إن محمود السيسي، المسؤول عن ملف “إسرائيل” داخل جهاز المخابرات العامة المصرية، توجه في زيارة سريعة لا تتجاوز بضع ساعات إلى “إسرائيل”، برفقة وسيطين آخرين، قابل خلالها عددًا من مسؤولي جهاز الموساد الإسرائيلي، من أجل نزع فتيل التصعيد من خلال تسريع وتيرة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية غير المباشرة.
وتعد تلك الزيارة هي الثانية للسيسي الابن لـ”إسرائيل”، الأولى كانت في 16 يناير/كانون الثاني الماضي، حين التقى مدير الموساد ديفيد بارنيا، وزعيم الشاباك رونين بار، ورئيس المخابرات العسكرية “أمان” أهارون هاليفا، وبحثوا سبل تعزيز الوساطة المصرية لتبريد الأجواء المشتعلة في غزة ووقف الحرب الدائرة هناك بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال.
صمت المقاومة الفلسطينية عن التصعيد يزيد من وضعية القاهرة الحرجة التي وجدت نفسها في مطب سياسي كبير بحكم علاقاتها المتنامية مع تل أبيب من جانب، واحترام الجانب الفلسطيني لالتزاماته معها من جانب آخر
لم تتطرق الصحافة العبرية إلي تفاصيل زيارة الأمس، لكنها تأتي في وقت تحيا فيه العلاقات المصرية الإسرائيلية أوج قمتها، فيما أعلنت شركة الطيران الإسرائيلية “إلعال”، أنها سيّرت، أمس الأحد، أول رحلة طيران مباشرة بين مدينة تل أبيب ومنتجع شرم الشيخ المصري، وقبل ذلك بأيام كان هناك لقاء في المدينة ذاتها بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي وولي عهد أبو ظبي.
تعاني الوساطة المصرية من شكوك لدى بعض المراقبين في ضوء التقارب الواضح في العلاقات مع تل أبيب، ما فُسر على أنه سيكون على حساب القضية الفلسطينية وجدية القاهرة في التعامل مع الملف بموضوعية تراعي حقوق الشعب الفلسطيني المهضومة، لا سيما في ظل الصمت الإقليمي والدولي والتخاذل العربي المعروف، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة هذا التصعيد بمعزل عن اتفاقات “إبراهام” التي وقعتها دولة الاحتلال مع بعض الدول العربية خلال العامين الماضيين، منذ الاتفاق المبرم منتصف سبتمبر/أيلول 2020 بين الإمارات والبحرين و”إسرائيل”، ثم انضم إليه المغرب والسودان لاحقًا.
وتحاول القاهرة قدر الإمكان إزالة تلك الشكوك من خلال إسراع الخطى لنزع فتيل الأزمة التي بجانب أنها تعزز من دور مصر الإقليمي كلاعب أساسي في هذا الملف، يمكن توظيفه في ملفات أخرى إقليمية، فإنها في الوقت ذاته مسألة أمن قومي للمنطقة الشرقية المصرية، حيث مربع رفح والحدود مع غزة، وهي المسألة التي تتأثر طرديًا مع تطور الوضع بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
صمت المقاومة الفلسطينية عن التصعيد يزيد من وضعية القاهرة الحرجة التي وجدت نفسها في مطب سياسي كبير بحكم علاقاتها المتنامية مع تل أبيب من جانب، واحترام الجانب الفلسطيني لالتزاماته معها من جانب آخر، ما يدفعها نحو ممارسة المزيد من الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف تلك الانتهاكات التي يتوقع أنها لن تتجاوز أسبوع الاحتفالات بعيد الفصح.
هذا التصعيد، يُعد اختبارًا عمليًا لكل من القاهرة وأنقرة تحديدًا، الوسيطان الموثوقان لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، في ظل التقارب الواضح مع تل أبيب خلال الآونة الأخيرة، وسط حالة من الترقب لتأثير هذا التقارب على موقف البلدين من القضية الفلسطينية برمتها.