فرض ملف مستقبل العلاقات التركية الباكستانية نفسه على موائد النقاش والبحث لدى مراكز صناع القرار والكيانات البحثية والإعلامية لدى كل من أنقرة وإسلام أباد، بعد عزل رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في 9 أبريل/ نيسان الجاري إثر جلسة التصويت التي عقدها البرلمان لحجب الثقة عنه، بناءً على المقترح الذي قدمته المعارضة بدعوى فشله في القضاء على الفساد واستمرار منظومة التدني الاقتصادي، رغم الوعود التي قطعها سابقًا.
الإطاحة بخان من رئاسة الحكومة (رغم أنها ليست المرة الأولى، إذ لم يكمل رئيس وزراء مدة ولايته الأولى في البلاد منذ الاستقلال عام 1947)، وهو الحليف الموثوق به لدى تركيا، واختيار زعيم المعارضة السابق شهباز شريف، رئيس حزب الرابطة الإسلامية وشقيق رئيس الوزراء السابق نواز شريف، بديلًا عنه، أثارا الكثير من علامات الاستفهام حول مصير العلاقة بين البلدَين تحت ولاية رئيس الحكومة الجديد.
الحديث عن العلاقات التركية الباكستانية ليس بالجديد، فالبَلدان رغم التباعد الجغرافي بينهما يتمتعان بجدار صلب من العلاقات الدافئة، رغم تقاطع المصالح أحيانًا إزاء بعض الملفات المشتركة، وهو ما يضفي بين الحين والآخر توترًا على الأجواء، إلا أنه لا يعكر صفو العلاقات بالصورة التقليدية.
ومع ذلك، الإطاحة بالحليف واستبداله بآخر لا شكّ أنهما يدفعان للتساؤل حول مستقبل التعاون، لا سيما أنه شهد خلال العقد الأخير تحديدًا تناغمًا وتعزيزًا على كافة المسارات، كان أبرزها التعاون الدفاعي العسكري.
محددات العلاقة
تحكم العلاقة بين تركيا وباكستان 3 مسارات رئيسية، شكّلت خلال العقود الماضية جدارًا قويًّا من التناغم معظم الوقت، على رأسها المحدد السياسي، إذ تمتدّ جذور العلاقات بينهما إلى القرن التاسع عشر، إبّان فترة حكم الدولة العثمانية، حيث دعمَ مسلمو الهند، والباكستانيون من بينهم، العثمانيين في حرب القرم.
وتعزّز هذا الدعم بكافة أشكاله المادية والسياسية خلال حرب التحرير التي خاضتها الدولة التركية، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، ضد قوى الغرب بين عامَي 1919 و1923.
بلغ التبادل التجاري بين البلدَين بنهاية عام 2019 قرابة 700 مليون دولار
تطور هذا الدعم خلال قضية قبرص، حين زار الرئيس الباكستاني حينها، أيوب خان، إسطنبول في يوليو/ تموز 1964، ليعرب عن دعم بلاده الكامل لتركيا في تلك القضية، كما كانت المخابرات الباكستانية أحد أبرز الأجهزة التي قدّمت دعمًا لأنقرة ضد حزب العمال الكردستاني.
وفي محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف 2016، دانَ رئيس الوزراء نواز شريف تلك المحاولة، لتدخل العلاقات نفقًا جديدًا من التناغم خلال مرحلة عمران خان، الذي أدرج جماعة فتح الله غولن على لائحة الإرهاب في مايو/ أيار 2019، ثم الإعلان عن الدعم الكامل للعملية العسكرية التركية في الشمال السوري.
وفي المقابل كانت تركيا حاضرة بقوة لردّ الجميل الباكستاني من خلال تعزيز سبل التعاون المختلفة، فكانت الزيارات الأربعة التي قام بها أردوغان لباكستان، آخرها في فبراير/ شباط 2020 للمشاركة في جلسات مجلس التعاون الاستراتيجي الباكستاني التركي، برفقة نخبة من المستثمرين وكبار رجال الحكومة، في محاولة لدعم الاقتصاد الباكستاني وإخراج البلاد من عزلتها الاقتصادية.
هذا عدا دعم أنقرة لإسلام أباد في قضية كشمير، والتنديد بقرار إلغاء الهند المادة 370 التي أعطت وضعًا ذاتيًّا لمنطقتَي جامو وكشمير المتنازع عليهما، وهو ما أثار حفيظة الباكستانيين.
أما المسار الثاني فيتعلق بالعامل الاقتصادي، إذ تعود العلاقات الاقتصادية بين البلدَين إلى عام 1964، حين شكّلت أنقرة وإسلام أباد ومعهما طهران “المنظمة الإقليمية للتعاون من أجل التنمية”، والتي تغيّر اسمها إلى “منظمة التعاون الاقتصادي” عام 1985، لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث.
وشهد العقد الأخير تناميًا نسبيًّا في حجم العلاقات الاقتصادية بين الجانبَين، إذ بلغ التبادل التجاري بينهما بنهاية عام 2019 قرابة 700 مليون دولار، فيما بلغت الاستثمارات التركية في السوق الباكستاني حوالي مليار دولار، مقابل 600 مليون دولار استثمارات باكستانية في تركيا.
ويعدّ المسار الثالث، والذي يتعلق بالتعاون العسكري والأمني، المسار الأهم في خارطة محددات العلاقات التركية الباكستانية، إذ أصبحت باكستان واحدة من أكثر الأسواق التي تغذيها تركيا بصناعاتها الدفاعية، ففي السنوات الثلاث بين 2016 و2019 تجاوزت قيمة صادرات الأسلحة التركية إلى باكستان حاجز الـ 112 مليون دولار.
كما شهدت البلاد توقيع العديد من عقود التعاون الدفاعي والعسكري، فضلًا عن الدورات التدريبية والمناورات المشتركة، وأيضًا الخطوات الجادة في دفع تركيا نحو النادي النووي، وهي الخطوة التي تشكّل مقوّم بناء قوي في جدار العلاقات بين البلدَين.
عمران خان.. الحليف المطاح به
ينظر الشارع التركي إلى عمران خان على أنه الحليف الموثوق به داخل باكستان، هذا بخلاف العلاقات الشخصية القوية التي تجمعه بالرئيس أردوغان، وهو ما يمكن قراءته بسهولة من خلال طبيعة اللقاءات التي جمعت الزعيمَين، سواء الرسمية أو تلك التي تكون على هامش مجلس التعاون الاستراتيجي المشترك.
رغم الرسالة السلبية التي بعث بها خان من خلال عدم حضوره القمة الإسلامية، إلا أن الجانب التركي تفهّم الموقف الذي جاء تحت وطأة الحاجة الماسّة إلى المال السعودي الإماراتي
وصل التناغم بين خان والأتراك حدّ القول إن والدته تركية الأصل، تنتمي إلى عائلة من جنوب شرق تركيا، كما كتبت الصحفية التركية مريم أيبيك سنان، والتي أشارت في مقال لها إلى أن لقب “هان” أو “خان” المستخدَم في المنطقة الهندية، يُنسب إلى الحاكم التركي إيلتتموش هان.
ورغم تلك العلاقة القوية، إلا أن الأجواء بين البلدَين شهدت خلال فترة خان بعض المنغصات، أبرزها الانسحاب الباكستاني المفاجئ، في يناير/ كانون الثاني الماضي، من الصفقة العسكرية التي تمَّ الاتفاق عليها مسبقًا بقيمة مليار دولار، وتتعلق بشراء إسلام أباد 30 طائرة هليكوبتر هجومية من تركيا.
القرار كان صادمًا للشارع التركي، خاصة أن الأمور كانت تسير بشكل سلس ومبشّر للغاية، غير أن الجميع فوجئ بمدير قسم العلاقات العامة بالجيش الباكستاني، بابار افتخار، معلنًا أن الصفقة لن تحصل أبدًا، وما فاقمَ من تأزُّم الوضع إعلانه أن بلاده تجري حاليًّا مفاوضات مع الصين للحصول على الصفقة ذاتها.
وقبل ذلك بعامين تقريبًا، وفي 18 ديسمبر/ كانون الأول 2019، أثار عدم حضور عمران خان للقمة الإسلامية التي دعت لها تركيا وعُقدت في العاصمة الماليزية كوالالمبور، وشاركت فيها ماليزيا وإيران وقطر على مستوى رئيس الدولة، بجانب مشاركة 18 دولة أخرى بمستويات أقل؛ حفيظة الأتراك والكثير من التساؤلات.
ورغم الرسالة السلبية التي بعث بها خان من خلال عدم حضوره تلك القمة، إلا أن الجانب التركي تفهّم هذا الموقف الذي جاء تحت وطأة الحاجة الماسّة إلى المال السعودي الإماراتي، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الباكستاني من أزمات حادة، كان لها صداها المؤثر في الإطاحة برئيس الوزراء من منصبه مؤخرًا، حيث مُنحت المعارضة فرصة على طبق من ذهب للتخلص منه عبر تصويت نيابي.
تحت ولاية شريف.. هل تتأثر العلاقات بين البلدَين؟
معروف أن العلاقات بين الدول تحكمها لغة المصالح وخارطة محددات ثابتة لا تتغير بالأسماء والشخصيات التي تتولى إدارة البلاد، ومع ذلك تشير الشواهد الأولية إلى أن رئيس الحكومة الجديد شهباز شريف يتمتّع بسابقة أعمال جيدة في علاقاته مع تركيا، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال أكثر من مؤشر، مثل أنه صاحب توجُّه في تطوير علاقات بلاده مع القوى الإقليمية والدولية الكبرى على رأسها الصين وتركيا.
هذا بخلاف أنه كان من أبرز الداعمين لأنقرة في محاولة الانقلاب الفاشلة، وكان على رأس من اتصل بالرئيس التركي ليعرب له عن دعم بلاده بالكامل، بجانب إغلاقه لكافة المدارس التابعة لمنظمة غولن في إقليم البنجاب حين كان رئيسًا له في ذلك الوقت.
ونتاجًا لهذا التاريخ الإيجابي، كان الرئيس التركي من أوائل قادة العالم الذين اتصلوا بشريف فور اختيار البرلمان له لخلافة خان في رئاسة الحكومة، مهنئًا إياه على منصبه الجديد، فيما أعرب الطرفان عن رغبتهما في استمرار العلاقات الإيجابية بين البلدَين وتطويرها على كافة المسارات مستقبلًا.
العلاقات التركية الباكستانية لن تتغير بقدوم شهباز شريف، وإن لم تتقدّم للأمام فلن تتراجع إلى الخلف
المتابعون للشأن العام في إسلام أباد وأنقرة يذهبون إلى أن العلاقات بين البلدَين لن تتغير بالتغيرات التي شهدتها السلطة التنفيذية الباكستانية، وهو ما أكّد عليه الخبير الباكستاني في الشؤون السياسية والدولية، محمد مهدي، في تصريحات صحفية له.
حيث أشار مهدي إلى أن العلاقات بين البلدَين فترة حكم نواز شريف، شقيق شهباز، كانت تحيا واحدة من أفضل مراحلها، حيث ضخّ الأتراك استثمارات كثيرة في السوق الباكستاني، ودعا رئيس الحكومة الحالي حين كان واليًا على البنجاب الرئيس التركي لزيارة الإقليم، منوّهًا أن هناك علاقات عائلية بين عائلة شريف وعائلة أردوغان.
وفي الجهة الأخرى، يرى الباحث التركي يوسف إريم أن لتركيا علاقات عميقة مع الشعب والمؤسسات الباكستانيَّين، بعيدًا عن العلاقات الرسمية مع الأنظمة، مستندًا في ذلك إلى الروابط التاريخية والثقافية التي تربط البلدَين، والقيم والمصالح والتاريخ المشترك، مؤكدًا أن النهج الذي اتّبعته أنقرة إبّان ولاية خان فيما يتعلق بعدم التدخل في الشأن الداخلي الباكستاني وتوسيع دائرة التعاون، سيستمر بصرف النظر عن الشخصية التي ترأس الحكومة وهويتها السياسية.
وفي مقال له في صحيفة “HABER7“، أشار الكاتب التركي طه داغلي أن العلاقات بين بلاده وباكستان أقدم من خان، ورغم أنها لم تشهد خلال فترة حكمه ما يعكّر صفوها إلا في بعض المواقف غير المؤثرة، إلا أنها كانت أكثر إنتاجية إبّان ولاية نواز شريف، ومن ثم يرى أنه بقدوم شقيقه ستسير الأمور إلى الأفضل، خاصة أن شهباز دومًا ما كان يشيد بـ”تركيا-أردوغان” خلال ولاياته الثلاث على إقليم البنجاب، مؤكدًا أن باكستان هي الشقيق الدائم لتركيا على طول الخط.
في ضوء المعطيات السابقة، تذهب المؤشرات الأولية إلى أن العلاقات التركية الباكستانية لن تتغير بقدوم شهباز شريف، وأنها إن لم تتقدّم للأمام فلن تتراجع إلى الخلف، غير أن هذا التقييم سابق لأوانه في ضوء حزمة من الملفات التي ربما تطرأ على الساحة وتعيد تشكيل الخارطة في ظل التموجات التي تشهدها المنطقة، والتي من المتوقع أن يصاحبها تغيرات جوهرية في خارطة التحالفات الدولية.