يواصل المستوطنون اليهود اقتحام ساحات المسجد الأقصى لليوم الرابع على التوالي، في حراسة مشددة من قوات الاحتلال التي انتشرت بوحداتها المتنوعة بصورة مكثفة على مداخل ومخارج الحرم المقدس، فيما اندلعت مواجهات بين القوات الشرطية الإسرائيلية والمصلين المرابطين في المسجد.
وتحاول قوات الاحتلال على مدار الأيام الأربع الماضية تفريغ المسجد من المصلين تمهيدًا لاقتحام المستوطنين لممارسة طقوسهم احتفاءً بعيد الفصح (البيسح) المقرر له 7 أيام في الفترة بين 15- 22 أبريل/نيسان الحاليّ، وسط مقاومة شرسة من المرابطين، أسفرت عن إصابة المئات فضلًا عن اعتقال ما يقرب من 500 شخص داخل الحرم القدسي.
تزامن ذلك مع تصعيد من نوع آخر، فقد شنت طائرات حربية تابعة لجيش الاحتلال، عدة غارات على موقع للمقاومة الفلسطينية في جنوب قطاع غزة، في الساعات الأولى من فجر اليوم الثلاثاء 19 أبريل/نيسان 2022، فيما أعلنت كتائب عز الدين القسّام، الجناح المسلّح لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، أنها تصدت لتلك الهجمات عبر إطلاق صواريخ “أرض-جو” على طائرات إسرائيلية، في واقعة هي الأولى من نوعها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
جهود دبلوماسية تبذلها العديد من القوى الإقليمية لنزع فتيل الأزمة لتجنب تكرار سيناريوهات 2008 و2012 و2014 و2021، في ظل إصرار غير مفهوم من الجانب الإسرائيلي على إشعال الموقف والمضي قدمًا في الاعتداء على الفلسطينيين في خطوة ربما تصب في صالح حكومة نفتالي بينيت الذي يواجه أزمة سياسية طاحنة جراء فقدانه الأغلبية البرلمانية.
هجمات إسرائيلية والمقاومة ترد
بحسب المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، فإن “طائرات حربية شنت الليلة غارات على عدة أهداف ودمرت ورشة لتصنيع وسائل قتالية تابعة لحماس في قطاع غزة”، زاعمًا في بيان له أن “الغارة جاءت ردًا على إطلاق قذيفة صاروخية اعترضتها القبة الحديدية مساء الإثنين”.
واستهدفت طائرات الاحتلال – وفق شهود عيان – محيط موقع القادسية التابع للمقاومة، غرب مدينة خانيونس جنوب القطاع، بوابل من الصواريخ المتتالية، حيث سُمع دوي انفجارات ضخمة في أماكن متفرقة، دون الحديث عن وقوع أي إصابات في صفوف الفلسطينيين.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أعلن في بيان مساء أمس أن منظومة الدفاع الصاروخي المعروفة باسم “القبة الحديدية”، اعترضت “قذيفة صاروخية تم إطلاقها من قطاع غزة نحو إسرائيل”، ولم يتم التحقق من تلك الادعاءات في ظل عدم إعلان أي جهة – حتى كتابة تلك السطور – مسؤوليها عن إطلاق قذائف تجاه “إسرائيل”.
وردًا على هذا الهجوم قالت كتائب القسام في بيان لها: “تصدَّت دفاعاتنا الجوية في تمام الساعة الـ01:35 (بالتوقيت المحلي، 11:35 ت.غ) من فجر اليوم (الثلاثاء)، للطيران الحربي الصهيوني المعادي في سماء قطاع غزة بصواريخ أرض-جو”، وهي المرة الأولى التي تلجأ فيها المقاومة لهذا الأسلوب منذ عشرة أعوام تقريبًا.
تحركات دبلوماسية
وشهدت الساعات الماضية حراكًا دبلوماسيًا كبيرًا في محاولة لتبريد الأزمة قبل تجاوزها الخطوط الحمراء، إذ أجرى عدد من زعماء العرب اتصالات هاتفية ناقشوا خلالها التطورات الأخيرة والانتهاكات المتصاعدة من الجانب الإسرائيلي، إذ تلقى أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني اتصالًا هاتفيًا من الملك الأردني عبد الله الثاني، أكدا خلاله ضرورة الوقف الفوري لاعتداءات الاحتلال وممارساته الاستفزازية ضد المصلين والمدنيين العزل في المسجد.
ومن قطر إلى الإمارات، حيث دعا العاهل الأردني في اتصال أجراه مع ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، إلى ضرورة مواصلة بذل كل الجهود لوقف التصعيد الإسرائيلي الخطير في القدس، مطالبًا بوقف جميع الإجراءات غير الشرعية التي تخرق الوضع التاريخي والقانوني للمسجد الأقصى.
واتفق عبد الله الثاني في اتصال أجراه مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن على مواصلة التحرك المشترك على المسار الدولي لوقف ما أسماه الرئيس الفلسطيني “الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية على المسجد الأقصى، ووقف القتل والتنكيل ضد الفلسطينيين”، وهي المطالب ذاتها التي دعا إليها خلال محادثاته الأخيرة مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي.
على المستوى الدولي من المقرر أن يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة مغلقة اليوم لبحث التوتر الأخير في القدس، بناء على طلب تقدمت به كل من فرنسا وأيرلندا والصين والنرويج والإمارات، فيما أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اتصال أجراه مع أبو مازن على موقف بلاده الثابت لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، مؤكدًا استمرار الدعم السياسي الروسي للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية كافة، وفي المقابل دعت الخارجية الأمريكية جميع الأطراف لضبط النفس، مؤكدة أنه على السلطات الإسرائيلية والفلسطينية اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتهدئة الأوضاع.
تخاذل القائمة العربية الموحدة
وبينما تشهد ساحات الأقصى انتهاكات متتالية طيلة الأيام الماضية، مع سقوط عشرات المصابين، واعتقال المئات من أبناء الشعب الفلسطيني، اكتفت القائمة العربية الموحدة داخل الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) بتعليق عضويتها في الكنيست، دون الانسحاب الكامل من الائتلاف الحكومي، وهو مطلب الشارع الفلسطيني كأقل ردة فعل يجب على القائمة اتخاذها ردًا على ما يجري في الأقصى.
صحيفة “هآرتس” العبرية أشارت إلى أن تعليق القائمة لعضويتها بالكنيست والحكومة جاء بالتنسيق مع رئيس الوزراء نفتالي بينيت، ووزير الخارجية يائير لبيد، ما دفع العديد من القوى السياسية في الداخل الفلسطيني لتوجيه انتقادات شديدة اللهجة للقائمة فيما وصفتها قوى أخرى بالمتخاذلة.
قرار تعليق العضوية لا قيمة له وغير ذي جدوى، هكذا يرى مراقبون، في وقت علق فيه الكنيست نشاطاته بسبب عطلة الربيع والأعياد اليهودية، في الفترة من مارس/آذار الماضي وحتى 8 مايو/أيار المقبل، ما يعني أن القرار جاء في المقام الأول لامتصاص غضب الشارع الفلسطيني ولا علاقة له بأي موقف مؤثر يمثل ضغطًا على حكومة بينيت.
النائب عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي المنطوي تحت القائمة المشتركة، عوفر كسيف، علق على قرار تعليق القائمة عضويتها في وقت إجازة الكنيست، قائلًا: “إعلان الموحدة تجميد عضويتها في الائتلاف خلال عطلة الكنيست كالإعلان عن اتباع حمية غذائية في رمضان”، ساخرًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” أنه من الأمور المفاجئة أن يتذكر بعض نواب القائمة العربية أن القدس الشرقية وخاصة المسجد الأقصى واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، مضيفًا “من يقوم بدعم الائتلاف الحكومي ويخلد للنوم ليلًا مع حكومة يمينية متطرفة، لا يحق له أن يشتكي بعد أن يستيقظ بالصباح، من اقتحامات الاحتلال للأقصى”.
وفي بيان له علق الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية على ردة الفعل المتخاذلة للقائمة العربية قائلين: “تجميد العضوية، وبالتنسيق مسبقًا مع بينيت ولبيد، فذلكة لا معنى لها سوى الاستهتار بعقول الناس، فالدخول لهذه الحكومة طعنة بظهر الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة”، مطالبين الموحدة بالانسحاب فورًا من الحكومة.
قشة الإنقاذ لبينيت
يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي هذه المرة في ضوء المأزق السياسي الذي تواجهه حكومة بينيت التي باتت على بعد أمتار قليلة من الإطاحة بها وإجراء انتخابات مبكرة بعدما فقدت الأغلبية في الكنيست في أعقاب تقديم العضوة عن حزب يمينا الإسرائيلي عيديت سليمان، استقالتها في السادس من الشهر الحاليّ، إثر خلاف مع وزير الصحة بشأن السماح بإدخال مأكولات تحوي الخميرة إلى المستشفيات خلال عيد الفصح اليهودي وهو ما تحظره الديانة اليهودية.
وباستقالة سليمان يصبح الائتلاف الحاكم 60 عضوًا، ما يعني فقدانه الأغلبية التي كانت ممنوحة له حين كان يستحوذ على 61 مقعدًا داخل البرلمان، لتصبح القاعدة البرلمانية للائتلاف والمعارضة متساوية، وهو ما يمكن أن يقود في النهاية إلى احتمالات إجراء انتخابات مبكرة، حسبما لوح زعيم المعارضة اليمينية رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، الذي كان أول المرحبين باستقالة سليمان، داعيًا إياها إلى العودة لأحضان اليمين.
من حظ بينيت أن الكنيست هذه الأيام في عطلته الشتوية، وإلا كانت الأمور ستؤول إلى سيناريو آخر يقود الشارع الإسرائيلي إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى، وعليه فإن أمامه حتى انتهاء تلك العطلة المقرر لها في 8 مايو/أيار المقبل لرأب الصدع ومحاولة الحصول على تأييد أي عضو داخل البرلمان، يمنحه الأغلبية مرة أخرى، قبل عودة الانعقاد، التي من المحتمل أن تكون أولى جلساتها حجب الثقة عن الحكومة.
وربما يكون التصعيد في القدس خطةً ممنهجةً من بينيت لكسب أصوات الكتلة اليمينية المتطرفة داخل البرلمان من خلال الدفاع المستميت لأجل أداء المستوطنين طقوسهم الدينية في عيد الفصح التي على رأسها ذبح القربين داخل المسجد أو بالقرب من أسواره، بما يعزز من الثقة فيه وحكومته، من جانب، ويخفف موجة الانتقادات التي يوجهها له الشارع الإسرائيلي من جانب آخر.
لا شك أن نشوب حرب مكتملة الأركان داخل قطاع غزة سيصب في صالح حكومة بينيت، إذ تحول التطرف الممنهج إلى أداة سياسية تستخدمها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لكسب دعم اليمين المتطرف، وهو ما تعيه المقاومة جيدًا، لذا تحاول قدر الإمكان ضبط النفس لتفويت الفرصة على حكومة الاحتلال.
ومن المتوقع أنه وحتى نهاية عيد الفصح في 22 أبريل/نيسان الحاليّ ستستمر الاستفزازت الإسرائيلية لجرجرة الفلسطينيين إلى مستنقع العنف، وهو الهدف المنشود حاليًّا، لكن يبقى الرهان على التزام المقاومة الهدوء مقامرة ربما تأتي بنتائج عكسية إذا تجاوز الاستفزاز خطوطه الحمراء.