ما أن بدأ الحديث عن البرنامج النووي الإيراني عام 2003، حتى أخذ دور المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران بالتصاعد، إذ إن نظرة بسيطة إلى طبيعة الهيكل العام الذي يتشكّل منه هذا المجلس، تعطي رؤية واضحة لأهميته وتأثيره في قرارات السياسة الخارجية الإيرانية.
تشكّل المجلس عام 1989، ويُعتبر من المؤسسات العابرة للسلطات في إيران، كونه يمثّل جميع المؤسسات الحاسمة في النظام السياسي الإيراني، فإلى جانب ممثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، يضمّ المجلس رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، إلى جانب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، وقادة القوات الثلاث، بالإضافة إلى وزراء الدفاع والداخلية والخارجية، ويرأس جلسات المجلس رئيسُ الجمهورية.
أخذ المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران يمارس دورًا هامًّا في القضايا الحاسمة في السياسة الخارجية الإيرانية، بل إنه صادرَ دورَ الخارجية الإيرانية في الكثير من المواقف والقضايا، إلى الدرجة التي همّشت الخارجية الإيرانية وجعلت من وزراء الخارجية مجرد مؤدين للقرارات التي تصدر عن المجلس، وليس التي تقررها الخارجية.
هذه الحالة تحدّث عنها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في التسريبات الشهيرة، عندما أشار إلى تصاعد دور دبلوماسية الميدان على حساب دبلوماسية الخارجية في الكثير من القضايا، بل إنه اضطر في الكثير من المرات إلى تقديم تنازلات حاسمة لقائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، كونه كان يحظى بمكانة خاصة لدى خامنئي.
وبالنظر إلى أن القرارات لا تصدر من المجلس إلا بعد موافقة خامنئي، فإن هذا يشير إلى مدى أهمية المجلس الذي يضمّ شخصيات مقرَّبة من المرشد في البيئة الخارجية.
ورغم النجاح الهامشي الذي حققته الخارجية الإيرانية خلال فترة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، عندما أقنع خامنئي بتحويل ملف المفاوضات النووية من المجلس الأعلى للأمن القومي إلى الخارجية الإيرانية، ونجاح ظريف في التوصل إلى الاتفاق النووي مع القوى الكبرى في أبريل/ نيسان 2015، إلا أن ملفات الدور الإقليمي والصواريخ الباليستية بقيت بيد المجلس الأعلى للأمن القومي.
كما أن سياسات التصعيد الأمني التي دعمها المجلس في الشرق الأوسط، أعطت ذريعة مهمة لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، ما أدّى بدوره إلى فشل الصفقة النووية وعودة الملف مرة أخرى إلى المجلس الأعلى للأمن القومي.
شمخاني أم عبد اللهيان؟
تتبادر العديد من الأسئلة حول الدور الذي يمكن أن يؤدّيه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على رأس الخارجية الإيرانية، في ضوء تصاعد الدور الذي يؤديه أمين سرّ المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران الجنرال علي شمخاني.
فمنذ تولي الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي السلطة في أغسطس/ آب 2021، بدأ شمخاني التصدي للعديد من الملفات الحاسمة في الخارج الإيراني، وتحديدًا الملفات ذات البُعد الأمني، إذ انخرط شمخاني بإعادة تطبيع العلاقات الإيرانية مع الإمارات وقطر والكويت وتركيا.
كما أنه تولّى تنسيق السياسة الإيرانية في أفغانستان، ودخل في حوارات واسعة مع قادة حركة طالبان، فضلًا عن إدارته للملفَّين العراقي والسوري، بالتنسيق مع قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني.
والأكثر من ذلك، أخذ شمخاني ينسّق السياسات النووية الإيرانية مع رئيس الوفد التفاوضي الإيراني في المحادثات النووية علي باقري كني، دون الرجوع للخارجية الإيرانية.
ولعلّ هذا ما يبدو واضحًا في التصريحات المتضاربة التي تصدر عن الخارجية الإيرانية بخصوص مستقبل الاتفاق النووي والمحادثات مع القوى الكبرى، وفي مقابل ذلك بدأ دور عبد اللهيان يتّجه نحو الملفات ذات البُعد السياسي، التي تحظى بأهمية ثانوية في العلاقات التي تربط إيران مع البيئة الخارجية.
ورغم أن هذه الحالة تشير إلى أن الواقع الإيراني الحالي يمثّل عودةً لثنائية الدبلوماسية والميدان التي أرسى أُسُسها سليماني، إلا أن التوصيف الأكثر دقة لهذا الواقع، وبناءً على الأدوار الحاسمة التي بدأ يؤديها شمخاني في الملفات الخارجية، هو تصاعد أهمية الأمن على حساب الدبلوماسية، وتصاعد أهمية القضايا الأمنية على حساب القضايا السياسية.
خصوصًا أن الملفات المطروحة اليوم على طاولة المحادثات النووية، والتي يأتي في مقدمتها إخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، والعلاقة مع الجماعات المسلحة وبرنامج الصواريخ الباليستية، هي ملفات أمنية تحظى بأهمية قصوى لدى المرشد الأعلى والدور الإقليمي الإيراني.
التركيز الإيراني الحالي على إعطاء البُعد الأمني أهمية كبيرة في البيئة الخارجية، يشير إلى مدى حالة عدم الثقة التي تعيشها إيران
ممّا لا شكّ فيه أن جزءًا هامًّا من التعقيد الحالي يتمثّل بالبُعد الثوري في السياسة الخارجية الإيرانية، وهو بُعد يحظى بمركزية مهمة في تفكير المرشد وجنرالات الحرس وشمخاني، كما أنه مثّلَ عائقًا هامًّا في ممارسة الخارجية الإيرانية خلال فترة الحكومات الإصلاحية لأدوار أقل إثارة للفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.
وبالتالي، فإنه نظرًا إلى التداخل المهم بين البُعد الثوري والقضايا الأمنية، تمتّعت الدبلوماسية الأمنية بمركزية مهمة في التوجُّه الخارجي الإيراني، وهذا ما يبدو واضحًا اليوم مع سيطرة جنرالات الحرس وقادة التيار المحافظ على المشهدَين الداخلي والخارجي في إيران.
يشير التركيز الإيراني الحالي على إعطاء البُعد الأمني أهمية كبيرة في البيئة الخارجية، إلى مدى حالة عدم الثقة التي تعيشها إيران، كما أنه يعكس اهتمامًا إيرانيًّا في حماية نفوذها، بعيدًا عن مفاجآت الدبلوماسية.
فرغم موافقة إيران على مبادرة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، لبدء الجولة الخامسة من المحادثات مع المملكة العربية السعودية في بغداد الشهر الجاري، إلا أن الجانب الإيراني لم يكلّف الخارجية الإيرانية بهذه المهمة.
إذ أشارت المصادر إلى أن إيران سترسل ممثّلًا عن المجلس الأعلى للأمن القومي لديها، “معتمَدًا من أعلى منصب في البلاد”، لكن “شمخاني لن يحضر على الأرجح”، وأوضحت المصادر ذاتها أن السعودية سترسل ممثّلًا لها على “مستوى جهاز المخابرات يوافق عليه [ولي العهد] محمد بن سلمان نفسه”.
وفي هذا الإطار، يُذكر أن الجولة الرابعة التي عُقدت في سبتمبر/ أيلول 2021 في مطار بغداد الدولي، شهدت لقاء شمخاني مع وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير، ومن الجانب العراقي حضر اللقاء رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.