منذ مطلع العام الجاري، اتّخذ الأسرى الإداريون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وعددهم حوالي 500 معتقل، قرارًا جماعيًّا بالمقاطعة الشاملة والنهائية لكل إجراءات القضاء المتعلقة بالاعتقال الإداري (مراجعة قضائية، استئناف وعليا)، تحت شعار “قرارنا حرية”، لوقف سياسة الاعتقال الإداري بشكل نهائي.
واستخدمت السلطات الإسرائيلية هذه السياسة بشكل متصاعد منذ السنوات الأولى لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، ويُعتبر الاعتقال الإداري إجراء تلجأ إليه لملاحقة المدنيين الفلسطينيين، وخاصة الأكاديميين والسياسيين، دون تهمة محددة أو محاكمة، ما يحرم المعتقل ومحاميه معرفة أسباب الاعتقال، كما يحول ذلك دون بلورة دفاع فعّال ومؤثر، وغالبًا ما يتم تجديد الأمر بحقّ المعتقل ولمرات متعددة.
وعادة يلجأ الأسرى الإداريون إلى الإضراب عن الطعام للإفراج عنهم، وغالبًا ينتزعون حريتهم بعد مشقة قد تعرّضهم للموت، لكن اليوم اتخذوا قرارًا اتُّبع عدة مرات في السابق، حقق نجاحًا ملموسًا وأوقف هذا النوع من الاعتقال لسنوات.
ومن المرات التي اتخذ فيها الأسرى الإداريون قرارًا جماعيًّا لمقاطعة محاكم الاحتلال كان عام 1997، وبعدها أُطلق سراحهم دون حضورهم للمحاكم، بل تسلّموا قرار الإفراج عنهم، وحينها لم يتبقَّ سوى عدد قليل منهم، وتكررت هذه المقاطعة عام 2017 وكانت النتيجة كسابقتها.
ولتمنح “إسرائيل” الشرعية لانتهاكاتها العنصرية ضد الأسرى الفلسطينيين، تستند إلى عدة مواد قانونية في إصدار أوامر الاعتقال الإداري، ومنها المادة 111 من أنظمة الدفاع لحالة الطوارئ التي أقرّها الانتداب البريطاني عام 1945، على اعتبار أنه كان ساريًا عند احتلالها لفلسطين عام 1948.
إلا أن هذا مخالف للحقيقة لسببَين، الأول: البريطانيون ألغوا هذه الأنظمة عام 1948؛ والثاني: خلال عام 1967، عند احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يطبَّق الاعتقال الإداري.
غرامات مالية وحرمان من الزيارة
ينقل “نون بوست” تجربة أحد الأسرى الإداريين، وهو ثائر حلاحلة (43 عامًا) من مدينة الخليل، اُعتقل 15 عامًا، أمضى منها 90 شهرًا اعتقالًا إداريًّا، و26 شهرًا بتهمة “رجل ذي مكانة معروفة في المجتمع”.
يصف حلاحلة الاعتقال الإداري بأنه سيف مسلَّط على رقاب الأسرى، معتبرًا أن أصعب لحظة يعيشها الأسير يوم استعداده للحرية، لكن قبل ساعتَين من الإفراج عنه يتسلم قرارًا يقتضي تجديد الاعتقال لـ 4 شهور أخرى.
وأوضح أن نموذج التجديد واحد لجميع الأسرى، لكن هناك عبارتَين تدوَّنان في كل نموذج؛ إما الأسير خطير على أمن المنطقة وإما ناشط سياسي في منطقته.
ووصف حلاحلة شكل المحكمة العسكرية بأن رئيسها جنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي، والمترجم جندي، والنيابة عسكرية، أي كل أركان المحكمة من الجيش وحضور المحامي يكون شكليًّا فقط.
ويحكي أن أصعب شيء في حياة الأسير هو الاعتقال دون معرفة السبب، معلّقًا: “حين يعلم تهمته يتقبّل وضعه إلى حدّ ما، بخلاف المعتقل إداريًّا”.
وشارك حلاحلة بمقاطعة المحاكم الإسرائيلية عام 2017، ويرى أنها طريقة ناجعة في هزيمة المحتل، وأقوى بكثير من الإضراب عن الطعام الذي ينهك جسد الأسير، رغم أنه يزعج الاحتلال كونه قد يؤدي إلى الاستشهاد.
وعن العقوبات التي تفرضها مصلحة السجون على الأسرى الإداريين عند مقاطعتهم للمحاكم، ذكرَ أنها تحرمهم زيارة الأهل، وتفرض عليهم غرامات مالية، وتجدِّد الاعتقال الإداري لهم، وكذلك يتمّ نقلهم من معتقل إلى آخر للتراجع عن خطواتهم الاحتجاجية، لكن كل تلك القرارات تزيدهم قوة في مواصلة المقاطعة.
ولفت حلاحلة إلى أنه بعد استمرار الأسرى بمقاطعتهم للمحكمة العسكرية، ترسل لبعضهم استدعاءات وتعرض عليهم الإفراج من أجل إيقاف حملة المقاطعة، لكنهم يرفضون، مشيرًا إلى أنها تسعى لتفتيت الوحدة الجماعية وكسر خططهم.
وتحدّث أن أكثر المعتقلين الإداريين ينتمون إلى حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، ومنهم خليل العواودة المحكوم 13 عامًا، أمضى 9 منها معتقلًا إداريًّا، واليوم بات معزولًا في سجن الرملة داخل قسم خاص بالمعتقلين الإسرائيليين الجنائيين كعقوبة له.
وبحسب ملاحظته حين كان معتقلًا، فإن كثير من الأسرى يخرجون ضيوفًا إلى بيوتهم، مرجعًا ذلك إلى سرعة اعتقالهم مجددًا أمثال الشيخ جمال الطويل، وغالبية نواب المجلس التشريعي الذين يتبعون كتلة التغيير والإصلاح (حماس)، وأصحاب الرأي، وذلك لعزلهم عن المحيط الخارجي.
اعتبارات سياسية
وفي السياق ذاته، يعقّب القانوني خالد زبارقة على الإجراءات القانونية التي تتبعها المحاكم الإسرائيلية في التعامل مع الأسرى الإداريين، بالقول: “الأصل أن تكون مكشوفة وتعطي إمكانية للمعتقل للدفاع عن نفسه”، موضّحًا أنه لا بدَّ للجهة المعتقلة منح الأسير ومحاميه الأدلة التي بحوزتها من أجل تفنيدها أو محاولة رفضها، لكن ما يحصل في الاعتقال هو صدور قرار على أساس مواد سرّية لا يُسمح لهما الاطّلاع عليها.
وبحسب زبارقة، فإن عدم إبلاغ المعتقل سبب اعتقاله يخالف المادة 9/2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي ينصّ على وجوب إبلاغ أي معتقل بأسباب القبض عليه لدى وقوعه، بالإضافة إلى أن الاعتقال الإداري أيضًا يخالف المادة 78 التي تمنع الاعتقال، في حال عدم وجود تهمة معلنة أو إمكانية لمحاكمته محكمة علنية.
وذكر لـ”نون بوست” أن الاعتقال الإداري يخالف أيضًا اتفاقية جنيف الرابعة، التي تمنع الاعتقال باستخدام مواد سرّية لإثبات الخطورة من المعتقل.
ومن المعروف أن سياسة الاعتقال الإداري لا تنتهجها أي من حكومات العالم ما عدا “إسرائيل”، وعن ذلك يعلّق القانوني زبارقة: “لا تتعامل “إسرائيل” بشكل قانوني مع المعتقلين بشكل عام، والإداريين بشكل خاص، فهي تنتهك كل الأعراف القانونية وتوظِّف القانون سياسيًّا لقمع الشعب الفلسطيني”.
ويوضّح أن التوظيف السياسي لقانون الاعتقال الإداري هو مشكلة، مشيرًا إلى أن الأصل في القانون كشف الحقيقة من خلال التحقيقات، لكن ما تفعله “إسرائيل” هو وضع النتيجة قبل التحقيق، بدلًا من الوصول إليها عبر البينات المتوفرة.
وأكّد زبارقة، وهو محامٍ للكثير من معتقلي الضفة والقدس والداخل المحتل، أن لدى دولة الاحتلال اعتبارات سياسية لقمع الشعب الفلسطيني، لذا تسمح لنفسها بانتهاك القانون.
أما عن خطوة الأسرى المضربين عن المحاكم الإسرائيلية، يرى القانوني أنها رسالة واضحة لجهاز القضاء الإسرائيلي، مفادها لا موضوعية أو لا نزاهة أو لا ثقة بأحكامه، مبيّنًا أن مقاطعة المحاكم هي الأداة الوحيدة التي يمتلكها الأسير الإداري للدفاع عن نفسه وتحصيل حقوقه للإفراج عنه، وليس فقط الإضراب عن الطعام الذي له تبعات جسدية وصحية، رغم زعزعته لمصلحة السجون.
وتشكّل مقاطعة الأسرى الإداريين لمحاكم الاحتلال إرباكًا لدى إدارة السجون الإسرائيلية، بحيث يصبح هناك انقطاعًا بينها وبين الأسرى، رغم محاولتها فرض جملة من العقوبات ضدهم لثنيهم عن قرارهم، إلا أنهم يواصلون إضرابهم حتى انتزاع حريتهم.